بينما كان دييغو مارادونا يمارس سحره الكروي على العالم في ثمانينيات القرن الـ 20، كان القدر يحوك على مهل موهبة المخرج ومؤلف الأفلام الإيطالي باولو سورينتينو الذي يعود برؤية نوستالجية واعية الى تلك الحقبة في فيلمه الجديد "يد الله"، مستلهماً العنوان من ذلك الهدف التاريخي الذي وضعه مارادونا في شباك إنجلترا على ملعب نيومكسيكو، في 22 يونيو (حزيران) 1986، وهذا ما جعله يفرح الجماهير الفقيرة في العالم كله، حيث كان اليسار يضع بصمته على كل شيء، الملابس والشوارع والعلاقات وتوق الأرواح.
صرح مارادونا وقتئذ بأن التسديدة كانت بقليل من رأسه وبشيء من يد الله، وكان لاعبو إنجلترا قد احتجوا على الهدف في المباراة، لكن الحكم التونسي علي بن ناصر احتسبه هدفاً صريحاً لمصلحة الأرجنتين.
لعل سورينتينو راهن في فيلمه على نوستالجيا شخصية وعالمية سيصنعها لجيل كانت كرة القدم فيه ثقافة جماعية قبل انتصار الرأسمالية، وقبل شيوع لعب الديجيتال واحتكار القنوات الفضائية لأحداث الرياضة العالمية.
تنطلق الخيوط السردية كلها من لحظة تاريخية في حياة نابولي الثمانينيات، وهي لحظة انضمام نجم كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا إلى نادي نابولي والاستعدادات لوصوله إلى المدينة، ولاشك في أن الغاية من إعمال اللحظة التاريخية في أي عمل درامي، روائي أو سينمائي، هي رواية حياة الناس في ظلها بتجميع الخيوط السردية لطريقة عيشهم وأحلامهم ومواقعهم الاجتماعية الأيديولوجية وعلاقاتهم ببعضهم وعلاقتهم بالسلطة.
الهامش يصير مركزاً
يقدم سورينتينو بهذا السرد نابولي على أنها مركز، فليس بالضرورة أن تكون في روما لتنتصر أو تنجح، ما يهم هو أن تفهم العلاقات في مكانك لتمتلكها فتصل بها إلى العالم، وهذا ما يقوم عليه خطاب الفيلم الذي يتكشف في مشاهده الأخيرة، حين يلتقي المراهق/ البطل فابييتو سكيزا، الذي يكتشف شغفه بالسينما، مع المخرج الكبير أنطونيو كابوانا في ليلة استثنائية في قصر قديم يطل على بحر نابولي، ليقول له كابوانا "إذا كان لديك حكاية فعليك أن تحكيها".
وتتسق في الفن غالباً حكاية المكان مع حكاية الفرد ليتقاطع العام مع الخاص، فيحول الولد عذاباته الشخصية في التهميش والفقد مع إشكال نابولي إلى فن. لقد مُنع فابييتو من رؤية جسدي والديه الميتين مثلما منعت عن نابولي الثروة والمتعة والليبرالية، ولنا أن نرى في نابولي حالاً كنائية لكل جنوب معذب بالحرمان والتهميش والديكتاتورية.
جعل سورينتينو الهجاء الساخر رؤية في صناعة الحدث، وسنجد ذلك في تواتر الصورة السردية وعلاقة الشخصيات ببعضها ومواقفها تجاه الأحداث، فالمأساة العائلية تقع لحظة تحقيق الحلم، فيموت الوالدان بتسرب الغاز عند قضائهما أمتع وقت في الشاليه الشتوي الذي قضيا حياتيهما سعياً إلى امتلاكه، وسيتم القبض على موظف الدولة المرتشي أثناء اجتماع عائلي كان يكرم فيه جيرانه بالطعام والشراب، فيقبلون على أمه المختلة بالضرب والإهانة، الأم ذاتها التي ترتدي الفرو الفاخر المجلوب بالرشى في عز الصيف، في مشاهد مثيرة للضحك.
سنجد أيضاً الزوجة والأم المحبة المتفانية التي تواجه الخيانة الزوجية بالدعابة والمقالب المضحكة مع جيرانها، وسنجد الدوقة التي تسكن الطابق الأعلى وتشير إلى أرستقراطية بائدة تحاول لعقود التكيف مع التحولات التي أحدثتها الشيوعية في المجتمع الإيطالي، فتظهر من خلالها تشوهات الهوية وأمراضها. يستعمل سورينتينو لتعزيز السخرية من الواقع نبرة خفيفة من العجائبي الذي نجد له تفسيراً في النهاية، ومن خلاله يكشف عن بؤس الحياة في الجنوب وتناقضاتها، أما في عالم السينما الذي لايتجاوزه سورينتينو في أفلامه بعامة، فسنجد المواجهات السينيكية (نسبة إلى سينيكا) بين الموهبة الحقيقية والادعاء، إذ يقوم المخرج الأصيل بفضح التزييف في الفن، وسنلاحق حتى النهاية تعقيدات العائلة بوصفها مؤسسة من خلال غياب البنت المراهقة في الحمام طوال الفيلم إلى خروجها لحظة موت الوالدين.
روح القديم عالقة في الجديد
يعمد الفيلم إلى استعمال مرايا متعاكسة تبدي الرغبة والحلم والجنون من خلال نموذج الخالة بتريسيا وقصة حملها بعد لقاء القديس، بحيث ستبدو نابولي مدينة العهر والقداسة في آن معاً، وذلك ما ورثه سورينتينو عن فيلليني الذي أدرك منذ زمن إيطاليا بوصفها فكرة، وتعيدنا قصة الخالة بتريسيا، المرأة ذات الجسد الفاتن والمكشوف، إلى قصة المعجزة لفيلليني ذاته التي تضمنها فيلم "طرق الحب" من إخراج روسلليني، إذ دار حول الفلاحة التي تعتقد أنها حملت من القديس يوسف وهي حملت في الحقيقة من علاقة مع متشرد.
لابد هنا من التوقف عند مشهد دخول الخالة بتريسيا بمظهرها الإروسي إلى الكاتدرائية القديمة في نابولي ما بعد الحداثة ليلمسها ملاك أو قديس مدعي، فتؤمن بحملها منه وتجن نتيجة موقف زوجها من الواقعة وتودع مستشفى الأمراض العقلية. نستعيد فيلليني مرة أخرى بمشهد نقل تمثال السيد المسيح بطائرة من الفلاة إلى كنيسة القديس بطرس في "دولتشي فيتا"، حيث يمر التمثال فوق بركة سباحة فيها نساء جميلات بأجساد عارية يلوحن له ببهجة. تلك هي الصنعة التي تقدم روح إيطاليا أو إيطاليا الفكرة التي تقوم على المفارقة بين الكاثوليكية والتحلل في الآن ذاته، والتي سيحملها سورينتينو عن فيلليني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد فعل سورينتينو ذلك مراراً وبسريالية واضحة في فيلمه "الجمال العظيم"، حيث تنبثق من قلب اللذة والحياة الصاخبة قديسة تذكره بالجذور، كأنما يكرر هؤلاء الموهوبون، ومن دانتي إلى ميكافيللي قول بترارك، "الفضيلة القديمة لم تمت بعد في قلوب الإيطاليين".
يبرع سورينتينو في الاستفادة من المورفولوجيا سواء أكان ذلك بتركيب الصورة أم بصناعتها، فيقدم حياة الثمانينيات خلال حضور اليسار ليس في إيطاليا وحسب، بل في الدول كلها التي خضعت لتجارب مشابهة، ولعله سبب من أسباب ألفة العمل، إذ نجد الطبيعة التي يعكس تقشف المدنية جمالها، ونجد المساكن الشعبية بحدائقها البسيطة وأماكن لعب الأطفال من حولها وصيف نابولي الدبق مع ورق الجدران وأجساد المراهقين بالجينزات القبيحة وتسريحات الشعر المبالغ فيها ورائحتهم العبقة بيود البحر والبيرة.
سنجد أيضاً بقايا إقطاع وبرجوازية كبيرة إلى جانب الصغيرة من غير فجوة طبقية مرعبة، عبر تداخل أنماط الديكور بين مخلفات الباروك التي تذكر بفيلم فيسكونتي "ليوبارد" وعصر الاشتراكية،
ولعل أحد أسرار نجاح سورينتينو هو أنه في سعيه وراء التجديد لم يعمد إلى القطيعة المعرفية مع القديم، بل استفاد كما هو واضح من تجارب المخرجين قبله، فتمكن من تقديم الخلطة الجمالية الإيطالية، الكاثوليكية والملكية والشيوعية.