هل تعرفون من الذي "ابتدع" فكرة القومية العربية؟ قد يعجز كثر عن إيراد جواب صحيح، حتى ولو بدا غير منطقي عن هذا السؤال. ولنسارع نحن هنا إلى إيراد هذا الجواب دون أن يكون من عندنا على الرغم من غرابته. الجواب هو: نابوليون الثالث، العاهل الفرنسي وبالاستناد إلى باحث فرنسي يبدو الآن منسياً، هو غوستاف لوبون الذي يستسيغ العرب عادة عبارة تنسب إليه فحواها، أن التاريخ "ما عرف فاتحاً أرحم من العرب" وقد لا تبدو منسجمة مع عبارة أخرى تنسب بدورها إليه: "لو كانت الحجارة تتكلم لأضحى التاريخ كذبة كبرى". مهما يكن ليس لوبون موضوعنا هنا، ولا حتى نابوليون الثالث. بل الأمير عبد القادر الجزائري.
القومية بديلا لتسييس الدين
ربما يبدو عبد القادر منسياً بدوره اليوم إلا في بعض المناسبات، وبالتحديد في مشرق العالم العربي، حيث عاش سنواته الأخيرة وبقي اسمه علامة على حقبة وأخلاقيات سامية معينة، ولكن قبل ذلك على بيروت وأحياء يقال إنه عاش وتنقل فيها ناشراً تعاليم فكرية كان قد سبق له، كما تقول الحكاية، أن تناقش فيها مع ذلك العاهل الفرنسي الذي بعدما هزمه حين أطلق ثورته الأولى الكبرى في وطنه الأصلي الجزائري، أتى به إلى جنوب فرنسا أسيراً. ولكن أسيراً من نوع خاص مكرم محترم، لن يتوانى نابوليون الثالث عن اللقاء به بين الحين والآخر، لا ليذله ويشمت به، بل ليقيم معه حوارات فكرية ودينية ألح عليه خلالها أن الوقت قد حان لإبدال الجوهر الفكري لثورته قائلاً له: "إنك طالما تنطلق في ثورتك من أساس يسيّس الدين الإسلامي، لن يكون في إمكانك أن تقنع شعوب العالم بالوقوف إلى جانبك، كما لن تجد تأييداً لدى الشعب الفرنسي نفسه الذي يعتبر الآن أنك إنما تثور بالتحالف مع العثمانيين تحت لواء الدين". هنا إذ لمح عبد القادر نوعاً من رنة صدق ورغبة حقيقية في المساندة لدى الفرنسي تساءل "ما العمل إذن؟" فابتسم محدثه بلطف ودعاه إلى أن يثور باسم "القومية العربية" فيفصل نفسه عن الأتراك، ويكسب ود الأوروبيين الذين كانت نزعة قومية معينة قد بدأت تجمعهم في نضالات غايتها العمل من أجل مستقبل أكثر عقلانية، بالتالي في سبيل دين أكثر نقاءً.
ما تبقى لنا
لن نتوغل في هذه الحكاية طويلاً، بل سنختصر لنتحدث عما هو معروف تاريخياً: من فرنسا التي أطلقت سراحه توجه عبد القادر كما يبدو إلى سوريا، التي كانت هي ولبنان بلداً واحداً في ذلك الحين. ولسوف يبقى هناك طوال حياته كما سنرى بعد سطور. وتحديداً في مجال استعراضنا كيف أن عبد القادر سيبقى ذا ذكر عطر... في فرنسا التي لاشك أن اهتمامها بذكراه يفوق اهتمام المشارقة به هم الذين لم يبق منه عندهم سوى بعض أبنية بين بيروت ودمشق تحمل اسمه، وبعض شوارع وحديث يبدو دائماً غامضاً عن أفعال خير قام بها كما سوف نرى. أما الاهتمام الفرنسي فيتجلى بين الحين والآخر عبر كتب ومناسبات سرعان ما تثير سجالات على ضفتي غرب المتوسط. ولعل واحداً من أبرزها ذاك الذي صدر قبل أربعة عقود لمناسبة مئوية وفاة ذلك المناضل المفكر. وكان من تأليف الباحث الفرنسي برونو إيتيان الذي عالج على مدى 500 صفحة، أفكار عبد القادر الذي كان يلقب في فرنسا بـ"سلطان العرب". ولئن كان ايتيان يهتم بالجزء الثاني من حياة عبد القادر، الذي يبدأ من أسره في مدينة "بو" في الجنوب الفرنسي ويتواصل مع إطلاق سراحه على يد نابليون الثالث، ويرسم صورة لعبد القادر إذ كرس سنوات عمره للتصوف سائراً على خطوات ابن عربي، فإن كتاباً آخر أتى ليسد النقص فيغوص أكثر في الجزء النضالي من حياة عبد القادر الذي قاد الجزائريين في جهاد متواصل ضد الفرنسيين الذين كانوا قد احتلوا الجزائر لتوهم. وهذا الكتاب الذي يعيد إلى الأذهان صورة لعبد القادر يفضل الفرنسيون نسيانها، هو من تأليف ثلاثة باحثين، جزائريَين، و فرنسي عاش في الجزائر.
المحاولة الجدية الأولى
ويعد هذا الكتاب أول محاولة جدية للتأريخ لحياة عبد القادر منذ الكتاب الشهير الذي وضعه الإنجليزي تشارلز – هنري تشرشل، وترجم إلى الفرنسية في الجزائر في عام 1971، فكان إشارة إلى استعادة الجزائر لاهتمامها بعبد القادر، بعد أن كانت السلطات الجزائرية قد استعادت عام 1966 رفات الأمير ودفنتها في "المقبرة العالية". يومها، وعلى الرغم من أن الاحتفال كان بسيطاً لكيلا يستفز بعض الغلاة الجزائريين الذي كانوا يصرون على أن عبد القادر "لم يكن في نهاية الأمر سوى حليف الفرنسيين وصنيعتهم"، ألقى الرئيس الراحل بومدين خطاباً قال فيه، "إن عودة البطل إلى مسقط رأسه إنما هي رمز للعودة إلى الجذور".
كتاب "عبد القادر" الثاني هذا هو إذن سيرة متكاملة للبطل، تصوره في شتى مراحل حياته، تبدأ بولادته في قطنة وادي الحمام، بين عامي 1807 و1808، وترسم صورة للوضع السياسي والأطماع الأوروبية في الجزائر، والوجود التركي المتحالف مع حكام ذلك الحين، بل تتجاوز هذا لتقدم صورة للوضع السياسي والعسكري في المنطقة المغربية، وصولاً إلى "الحادثة" التي أدت إلى اتخاذ فرنسا قرارها بغزو الجزائر (حادثة الإهانة التي وجهها الداي حسين للقنصل الفرنسي دوفال، والتي اتخذتها الحكومة الفرنسية ذريعة لاحتلال البلد). يومها وبعد دخول الفرنسيين بعامين يعلن محيي الدين، والد عبد القادر، الجهاد ضد المحتلين ويبدأ بمهاجمة الفرنسيين المرابطين في وهران، ثم يبدأ بنشر أتباعه يدرّسون الفتيان اللغة العربية والقرآن الكريم معتبراً أن الجهاد لا يستقيم إلا "بمعرفة ديننا ولغة هذا الدين". وفي أواخر عام 1832 يعلن محيي الدين أنه قد فوض ابنه عبد القادر بقيادة الثورة، وكان له من العمر ثلاثة وعشرون سنة فقط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زعامة الثورة
إذن، صار عبد القادر منذ ذلك الحين زعيماً للثورة، وبدأ يتحرك مقارعاً الفرنسيين، يحتل تلمسان ثم يخسر مستغانم، فيحتل غيرها ثم يجد نفسه مضطراً لمحاربة جزائريين آخرين يوالون الفرنسيين، ثم يجد أن من مصلحته التحالف مع هؤلاء ضد أعدائه المحليين فيفعل، لكنه يعود ويقارع الفرنسيين مرة أخرى. ويظل الوضع على هذا النحو حتى يتمكن الجنرال بوجو من إلحاق هزيمة كبيرة بعبد القادر على ضفاف نهر سكاك. وبعد عام يوقع عبد القادر هدنة مع الفرنسيين يصادق عليها لوي فيليب، ويعود بموجبها عبد القادر إلى تلمسان بعد أن يبارحها الفرنسيون. ولسوف ينتهي هذا كله باستسلام عبد القادر، بعد أن كان الفرنسيون قد أبلغوه أنه في حال استسلامه سوف ينفى إلى المشرق إلى عكا أو الإسكندرية لو يشاء. وبهذا تنطوي صفحة وتبدأ صفحة أخرى في حياة عبد القادر.
تحولات مقاتل
ولئن كانت صفحات الكتاب الأولى قد حفلت بشتى ضروب النضال والقتال والخيانات والمساومة، فإن التالي بات أكثر هدوءاً، إذ نقل عبد القادر من مصاف المناضل – المقاتل "الخارج على القانون" حسب التعبير الفرنسي، إلى مصاف المفكرين ورجال التنوير الكبار. هذه المرحلة التي يكرس لها مؤلفو الكتاب الصفحات المئة الأخيرة من كتابهم، ترينا عبد القادر وقد بقي ستة أشهر في سجن "بو" في الجنوب الفرنسي، قبل أن ينقل إلى "قصر امبواز" حيث التقاه الإمبراطور نابوليون الثالث، خلال عودته من بوردو، ليبلغه إطلاق سراحه. وخلال هذا اللقاء، اجتمع الإمبراطور بالثائر ساعات طويلة تناقشا خلالها في عديد من الشؤون السياسية والفكرية، ويروي المؤرخون أن تلك الحوارات كانت هي التي شهدت للمرة الأولى حديثاً عن ضرورة قيام اتحاد عربي بزعامة عبد القادر "يخلص العرب من الأتراك"... إثر ذلك اللقاء توجه عبد القادر وجماعته إلى مرسيليا ومنها إلى الآستانة. ليصل بعد عودة إلى فرنسا، إلى دمشق وبيروت اللتين سيمضي فيهما 28 عاماً، هي الفترة الأكثر صفاء وهدوءاً من حياته. والكتاب يروي لنا بالتفصيل كيف كان عبد القادر يسهم في وأد الفتن الطائفية المتكاثرة هناك، وكيف أن المسيحي أو اليهودي كان يكفيه أن يلجأ إلى الأمير حتى يسلم بروحه وأمواله وأهله. ولئن كان هذا الدور المتسامح قد حقق له شعبية في أوساط الأقليات الدينية في بلاد الشام وفي فرنسا، فإن المندوبين الفرنسيين في المنطقة كانوا يرون في تصرفاته الموزونة، خلاصاً لـ"أهل الذمة" يجعل التدخل الفرنسي (الذي كان الغرب يحرك بعض الفتن من أجل تحقيقه) غير ذي موضوع.