تحل دولة اليونان، بأدبها وثقافتها وفنونها، ضيف شرف على معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي انطلق أخيراً، وتقام في المناسبة ندوات ولقاءات وعروض فنية، تحتفي بالعلاقة القديمة التي تجمع بين اليونان بلاد الحضارة الإغريقية ومصر بلاد الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية. هنا مقاربة للحضور اليوناني في التاريخ المصري والعصرين النهضوي والحديث، كما تجلى في كافة الفنون، كالسينما والمسرح والموسيقى، إضافة إلى الأدب والشعر، والثقافة العامة.
تميزت الحضارة الفرعونية القديمة بمنطق الحكمة، أي الوصول إلى الحقيقة الكاملة للأشياء، وهو الطريق الذي سلكه الملك أخناتون حين قام باختصار الآلهة المتعددة في إله واحد، "أتون – إله الشمس". آنذاك كانت المعابد والجامعات المصرية مقصداً لعديد من الفلاسفة والباحثين عن الحقيقة، وفي مقدمهم بعض الأسماء المعروفة في الفكر اليوناني مثل أفلاطون وأرسطو وسقراط وفيثاغورث... حتى جاء عصر الأسرة السادسة والعشرين فتعرضت البلاد لبعض الغارات الآشورية، الأمر الذي تطلب الاستعانة بجنود مرتزقة من كاريا واليونان.
ويشهد العصر الحديث كذلك على التواجد القوي لليونانيين في مصر المرتبط بالتدفق الأجنبي في ظل تجربة محمد علي باشا لبناء الدولة الحديثة وفق النمط الأوروبي، ومن هنا كان للجاليات اليونانية دور بارز في نسيج الحياة المصرية في كافة النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضا. ويشير الكثير من الاحصائيات على انتشار اليونانيين في كافة ربوع مصر بداية من القرن التاسع عشر، ما دعا اللورد كرومر المندوب السامي، أن يكتب "أينما حركت حجراً في مصر وجدت تحته يونانياً".
برزت هذه العلاقة بين الشعبين في عديد من كتب التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، إضافة إلى تمثلها في الأدب والمسرح والموسيقى، لكن السينما كانت من أكثر الفنون التي عكست هذا التناسج من خلال الأفلام الكلاسيكية. فنادراً ما يخلو فيلم قديم من صورة اليوناني خصوصاً في الأحياء والحارات الشعبية.
تعددت الأسماء والخواجة واحد
للمصريين أسلوب متميز وفكه في التوفيق بين دور "الاسم" وما يتناسب مع جنس شخصه، لا سيما مع الأسماء الأجنبية التي يجد المواطن العادي صعوبة في نطقها، كما حدث في أيام العهد الملكي، حين كانت مصر خليطا من المصريين وعديد من الجنسيات المختلفة، فأطلق على كل إنجليزي اسم "جوني" وعلى الإيطالي واليوناني "خواجة"، إلا أن الأخير اختص بأسماء عدة يمكن بها مناداة كل من يحمل الجنسية اليونانية: مانولي. خريستو، خرالامبو، كرياكو، يني... ولعل أشهرها كان الاسم "يني" بائع الخمور دائماً في البارات الشعبية.
في فيلم "المليونير" لحلمي رفلة (1950) يغني إسماعيل يس مونولوجاً يقول في مطلعه "عيني على يني وخمرة يني"، لكن صاحبنا "يني" هذا دائماً ما يكون موضع استهجان من ربات البيوت، وفي بعض الأحيان مطمعاً للأشقياء، كما في فيلم "إحنا التلامذة" لعاطف سالم (1959)، الذين أزهقوا روحه من أجل حصيلة البار. ويعد الممثل اليوناني "جورج يوردانيدس"، أشهر من قام بدور البارمان في الأفلام المصرية، وهي الصورة الأبرز لليوناني في الوعي الشعبي. يكفي أن نشير إلى "تيوخارى كوتسيكا"، أحد أفراد الجالية اليونانية في مصر الذي أنشأ مصنعاً للخمور بالقرب من حي "طرة البلد" أوائل القرن التاسع عشر واشتهر بلقب "ملك السبرتو" ولا تزال المنطقة تحمل اسمه "كوتسيكا" حتى اليوم.
تظهر صورة أخرى لليوناني كواحد من أهالي الحارة أو الحي، في فيلم "سلامة في خير" لنيازي مصطفى (1937) في شخصية جار سلامة أفندي، فتشارك زوجته مع أهل الحارة، أسرة سلامة في البحث عنه حينما اختفى، أو صاحب محل البقالة الذي يتعاون مع البطل "شكوكو" في صراعه ضد خصمه في فيلم "عنتر ولبلب" لسيف الدين شوكت (1952). واشتهر الفنان المصري فؤاد راتب بتجسيد دور الخواجة اليوناني من خلال الشخصية الكوميدية "الخواجة بيجو" الذي ظهر في عدد من الأفلام منها "عروس النيل"، "حماتي ملاك"، "شارع الحب"، و"إسماعيل يس في مستشفى المجانين".
لم يكن أمام السينما المصرية غير تنميط الشخصية اليونانية، بحكم الفترة الزمنية التي اشتهر فيها اليونانيون بهذه المهن في مصر: غارسون، بارمان، حلاق، صاحب بقالة، تاجر أو طبيب في بعض الأحيان... في الجانب النسائي تكرر الأمر نفسه، فقد لمع اسمان في تجسيد دور "الفتاة اللعوب" التي غالباً ما تكون راقصة البار، الأولى "نيللي مظلوم" رائدة فن الباليه والرقص الإيقاعي، ومن أشهر أدوارها "لاتانيه" في فيلم "ابن حميدو" (1957). والثانية الراقصة الشهيرة "كيتي" التي تميز أداؤها بالمزج بين الحركات الاستعراضية (البهلوانية في بعض الأحيان)، وبين مدارس الرقص الشرقي المتعارف عليها. كونت "كيتي" ثنائياً رائعاً مع إسماعيل يس في أكثر من فيلم، وكثيراً ما كانت تظهر مثله باسمها الحقيقي. يقول عنها الفنان نجيب الريحاني في مذكراته، "في أثناء عملنا في رواية "الحظوظ" تقدمت لي فتاة يونانية خفيفة الروح، كانت تتكلم العربية بطلاقة وبلهجة رائعة، فضممتها إلى الفرقة وأسندت إليها دوراً في الرواية أدته كما يجب، ثم تدرجت في طريق النجاح إلى أن اشتهر اسمها بعد ذلك وعملت في فرق أخرى غير فرقتي، وهي الفتاة كيتي".
رايدر.. صاحب الخلطة السحرية
أندريا رايدر من أبرز الأسماء في تاريخ الموسيقي التصويرية. لا يتوفر عنه كثير من المعلومات سوى أنه يوناني مصري، عاش معظم حياته في مصر وخلال هذه الفترة وضع الموسيقي التصويرية لعشرات الأفلام. توفي رايدر في الخامس من مارس (آذار) 1971، وقبل هذا التاريخ بقليل، تم اعتماده كملحن في الإذاعة المصرية وحصل على الجنسية المصرية ووسام الاستحقاق في الفنون.
يمكن التعرف بوضوح على موسيقاه في أفلام مثل "نهر الحب"، و"دعاء الكروان"، و"الرجل الثاني" و"اللص والكلاب". ويُحسب أنه ضمن الرواد الذين قاموا بتأليف الموسيقى التصويرية للأفلام، خصيصاً بعد أن كانت تهيمن عليها "منتخبات من الموسيقى العالمية". في إحدى حلقات برنامج "سهرة شريعي" تحدث الموسيقار عمار الشريعي عن موسيقى فيلم "دعاء الكروان" واعتبرها من أروع ما تم وضعه ليُصاحب أحداث الفيلم، وأضاف الشريعي أن موسيقى رايدر كان لها تأثير كبير على موسيقاه، كما تأثر بها الموسيقار عمر خيرت في بداياته.
قام رايدر بالتوزيع الموسيقي أيضاً، لعديد من مطربي العصر الذهبي مثل محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش و عبد الحليم حافظ، وتم اختياره كأهم مؤلف موسيقي في احتفال السينما المصرية بمئويتها عام 1996. تميزت موسيقاه بأسلوب المزج بين الآلات الشرقية والأوركسترا السيمفوني بانسيابية ورهافة لا تخطئها الأذن، وقد سار على دربه أكثر من ملحن أو موزع موسيقي، وقد يكون الموسيقار المصري الكبير علي إسماعيل أقربهم.
في الأدب والمسرح
يذهب المؤرخون إلى أن الدراما الحديثة خرجت من الإغريق ومن الأساطير اليونانية، ولا عجب في ذلك، فأرسطو هو أول من قام بالتنظير للدراما في كتابه الشهير "فن الشعر"، ووجد أن المحاكاة هي الأصل في الفنون سواء على مستوى الشعر أو الملحمة والتراجيديات، ولا يوجد اختلاف سوى في وسيلة هذه المحاكاة أو موضوعها أو طريقتها.
تتشابه الأساطير اليونانية في كثير من الأحيان مع نظيرتها المصرية، ففيها يتم طرح الحكاية بهالة من التقديس لكون أبطالها من الملوك والآلهة، أو من أنصاف الآلهة، وفي كثير من القصص نرى التزاوج ما بين الآلهة والبشر. في الحضارتين بدأت الإرهاصات الأولى للفعل المسرحي بغرض ديني من خلال المعابد وتحت إشراف الكهنة والرهبان والقديسين. حتى أن عالم النفس الروسي إيمانويل فيليكوفسكي وجد تشابهاً بين قصة "أوديب وأخناتون" الذي حدس فرويد من قبل أنه النبي موسى. ولما كانت عقدة أوديب مرجعها قتله لوالده والزواج من أمه، استند فيليكوفسكي إلى المصير نفسه عن طريق صورة وجدت داخل مقبرة أم أخناتون يقودها من يدها وهي شبه عارية. استرعت الأسطورة "الأوديبية" انتباه عدد من كُتاب المسرح المصري مثل توفيق الحكيم ("الملك أوديب")، وعلي أحمد باكثير ("مأساة أوديب")، والكاتب على سالم في مسرحيته "كوميديا أوديب-انت اللي قتلت الوحش" وهي بالعامية المصرية.
أما في مجال الرواية، فربما لا توجد رواية يونانية حظيت بالرواج الشعبي مثل "زوربا اليوناني" للكتاب نيكوس كازانتزاكيس، وهو الأمر نفسه، بالنسبة إلى الفيلم الأجنبي المأخوذ عنها بالاسم نفسه، بطولة الأسطورة أنتوني كوين وفيه رقصته الشهيرة على الموسيقى المميزة التي وضعها ميكيس ثيودوراكيس. قدم المخرج حسين كمال معالجة شعبية للقصة سنة 1986 في فيلم "آه يا بلد.. آه"، على الرغم من أن الفيلم لم يذكر ذلك، وكتب على الملصقات: قصة وسيناريو وحوار سعد الدين وهبة.
كفافيس.. يوناني من الإسكندرية
على مقربة من حي كوم الدكة العتيق في مدينة الإسكندرية، عاش شاعر اليونان الأشهر قسطنطين كفافيس ومات (1863-1933)، وهو يُعد من أعظم شعراء العصر الحديث في العالم، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات وظهرت في طبعات مختلفة.
لا يتعقب كفافيس دروب من سبقوه من الشعراء، بل يبحث عن مناطق مغايرة يستطيع من خلالها القبض على اللحظة الشعرية، حتى يُخيل لمن يقرأه لأول مرة "أنه إنما يقرأ مقطوعة نثرية، فلا تعتمد شاعريته في الواقع على التنميق الظاهري، بل على درامية المضمون، وعلى موسيقية خفية تخاطب الروح أكثر مما تخاطب الأذن" بحسب ما يقول مترجمه إلى العربية نعيم عطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاش كفافيس في المنزل الرقم 4 في منطقة محطة الرمل طوال الـ25 سنة الأخيرة من حياته، وقد تحول بيته في التسعينيات، عن طريق المؤسسة اليونانية للثقافة، إلى متحف يحمل اسمه، ويعد أحد المعالم الشهيرة حالياً في مدينة الإسكندرية ومقصداً للزائرين. في مرحلته المبكرة كتب قصيدة "ملوك الإسكندرية"، وفيها نلمح عشقه للمدينة ومصريته الخالصة، حتى وإن كان يونانياً. يتخيل في القصيدة مشهداً لاحتفال عابر للزمن يتتبع فيه التواريخ المتعاقبة لملوك وقياصرة من جنسيات مختلفة وفدوا إلى الإسكندرية، المدينة الساحلية، لتنصهر الهويات والثقافات وليكون "ابن كليوباترا تجري في عروقه دماء آل لاغوس"، وتحتل هنا عبقرية المكان، دور البطولة المُطلق.
عشق كفافيس المدينة البحرية التي تغنى بها، ومن أشهر أشعاره، "قلت سأمضي نحو أرض أخرى، فوق بحر آخر، مدينة أجمل من هذه ستتراءى لي". هل كانت هي الإسكندرية نفسها أم هو تحليق الشعراء فحسب، لعل الإجابة منطوية في ثنايا قصائده.