تأخر صرف أجور القطاع العام في تونس لشهر يناير (كانون الثاني)، ما أدى إلى توتر في أوساط الموظفين، ولا سيما في وزارات التربية والتعليم العالي والصحة العامة.
وعبرت نقابة "المربين الوطنية للتعليم الثانوي"، التابعة للاتحاد التونسي للمربين، الجمعة 28 يناير، عن استياء أعضائها من التأخير "المريب" في مستحقاتهم، وقد امتد التأخير إلى الأول من فبراير (شباط) 2022 في أحد القطاعات.
وصُرفت أجور موظفي وزارة التعليم العالي يوم الثلاثاء، في حين صرفت أجور موظفي وزارة التربية يوم الجمعة الماضي.
وردت وزيرة المالية سهام بوغديري نمصية بالقول إن التأخر عن صرف أجور يناير الماضي ناجم عن تزامن يومي 22 و23 من الشهر مع عطلة نهاية الأسبوع.
وأضافت أن "الوزارة تعمل بشكل عادي وتقوم بدورها المالي كالمعتاد"، مؤكدة أن "الدولة لن تتخلى عن دورها الاجتماعي، سواء في الظروف العادية أو في ظل وجود أي تعطيلات".
وكان الرئيس قيس سعيّد قد استقبل، الثلاثاء الأول من فبراير، في قصر قرطاج، وزيرة المالية واستمع إلى عرض بشأن وضع المالية العامة وسير المرفق المالي في تونس، ونبه إلى ضرورة صرف الرواتب في مواعيدها.
تراكم الديون وتراجع النمو
وتعاني المالية العامة في تونس عجزاً مستفحلاً ناتجاً عن تراكم الديون وتراجع النمو. وقد بلغ العجز 9.3 مليار دينار (3.2 مليار دولار) في ميزانية 2022، ولم تكشف تونس عن الموارد المالية لسد ذلك.
وتعجز تونس عن الخروج إلى السوق المالية العالمية للاقتراض منذ سنتين بسبب تدني تصنيفها من جانب وكالات التصنيف، وآخرها "موديز" التي صنفتها مع آفاق سلبية Caa1.
وتسعى البلاد إلى توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض يمكنها من الحصول على المصداقية للاقتراض من الخارج. بينما يشترط صندوق النقد القيام بإصلاحات هيكلية للاقتصاد التونسي، من أهمها التخفيض في كتلة أجور القطاع العام، إضافة إلى إصلاح المؤسسات العمومية المفلسة بالتفويت في جزء منها ومراجعة الدعم والنظام الجبائي.
تضخم كتلة الأجور
وتواجه الميزانية تضخم كتلة الأجور في القطاع العام، التي تعد من بين الأرفع في العالم. وتستحوذ على أكثر من 40 في المئة من الموازنة. وتبلغ 1.8 مليار دينار (620 مليون دولار) في الشهر و21.6 مليار دينار (7.44 مليار دولار) في السنة. علما بأنها لم تتجاوز 7.9 مليار دينار (نحو 2.5 مليار دولار) خلال سنة 2011. وبذلك تكون قد تضاعفت ثلاث مرات، ما دفع صندوق النقد الدولي إلى دعوة تونس إلى كبح جماح الأجور. ويبلغ عدد موظفي القطاع العام 661.7 ألف موظف، مقابل 390 ألفاً سنة 2010.
تحفظ المانحين
ويمثل الحد من كتلة الأجور في تونس أحد أهم التوصيات التي قدمتها المؤسسات المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، لمواصلة تمويل الاقتصاد التونسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، أظهرت المعطيات التي قدمتها وزارة المالية التونسية تراجع النفقات المخصصة لتمويل الاستثمار.
وباتت كتلة الأجور تمتص النسبة الأعلى من الموازنة على حساب مخصصات التنمية. وهو ما مثل محور النقاش المتواصل مع المؤسسات المانحة التي أشارت إلى أن القروض التي حصلت عليها السلطات التونسية لم تذهب نحو مشاريع التنمية والتشغيل، بل ذهبت إلى أجور مئات الآلاف من موظفي الدولة في السنة الماضية.
حلول جزئية ومؤقتة
وقد مثل هذا الإشكال عنصر خلاف سياسي واقتصادي ونقابي بين منتقدي العدد المتنامي للموظفين في القطاع العام وضرورة إصلاح القطاع، من طريق برنامج يضمن حقوق الموظفين بواسطة التقاعد المبكر، من جهة، ومعارضي هذا البرنامج الذي يواجه بتحفظ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي عبر عن رفضه تسريح العمال. في حين كيلت الاتهامات للحكومات المتعاقبة التي اتهمت بإغراق القطاع العام بالموظفين، في إطار إرضاء أطراف سياسية تعود في الأغلب إلى قواعد الأحزاب التي تولت الحكم بعد 2011.
وقد واصلت الحكومات المتتالية في العقد الماضي الإذعان للمطالب الاجتماعية المتمثلة في رفع الأجور والتوظيف في القطاع العام. والحال أن القطاع العام لا يحتاج إلى هذه النسبة من التوظيف، التي أتت كحلول مؤقتة للبطالة المتفاقمة التي تجاوزت 18.4 في المئة سنة 2021، وفق المعهد الوطني للإحصاء (حكومي). أما الزيادة في الأجور فقد وقعت تباعاً إثر جولات تفاوض مع الاتحاد العام التونسي للشغل، في ظل ارتفاع الأسعار الناتج عن التضخم الذي بلغ معدله السنوي 5.7 في المئة خلال 2021.
استئناف المفاوضات
وصرحت وزيرة المالية نمصية أنها تأمل في "الوصول إلى اتفاق تمويلي مع صندوق النقد الدولي في أبريل (نيسان) 2022". وأرسلت تطمينات إلى التونسيين قائلة إن "الحكومة قادرة على دفع أجور الموظفين"، وسط تساؤلات عن مصير المالية العمومية بعد التأخر في صرف رواتب الموظفين. وقد سبق ذلك تأخر طفيف خلال صيف 2021، وكان من بوادر الأزمة المالية.
يذكر أن المحادثات بين صندوق النقد الدولي وتونس في شأن حزمة إنقاذ قد توقفت في يوليو (تموز) 2021.
وقد استندت إلى إصلاحات اقتصادية وصفت بالمؤلمة تعلقت بمراجعة الدعم والتخفيض في كتلة الأجور والتفويت في مؤسسات عمومية وإصلاح الجباية. وتوقفت عندما أقال الرئيس سعيد الحكومة وعلق عمل البرلمان وتولى السلطة التنفيذية، وواجه انتقادات وصفته بالانقلابي على الدستور والشرعية. واستؤنفت المحادثات بعد أن وضع سعيد خططاً لإجراء استفتاء وانتخابات برلمانية.
وكشفت وزيرة المالية عن أن مقترحات الإصلاح قدمت إلى الاتحاد العام للشغل، وقالت "سيعطينا رده في الأيام القليلة المقبلة... وسنناقش ملاحظاته... للتوصل إلى توافق". وقالت "أؤكد لكم أن الأجور ليست مهددة خلال الشهور المقبلة".
يذكر أن تونس تمر بأزمة مالية نتجت عن المديونية المتراكمة التي تجاوزت مستوى 107 مليارات دينار (36.9 مليار دولار) بنسبة 83 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد عجزت عن رفع مستوى النمو في السنوات الماضية، إذ لم يتجاوز ثلاثة في المئة سنة 2021 بعد انكماش بلغ تسعة في المئة سنة 2020.