في تقديمه المبهر لترجمته الفرنسية للكتاب الثالث الذي يختتم به الفيلسوف الألماني التنويري عمانويل كانط، ما يعرف عادة بـ"ثلاثية كانط النقدية" وعنوانه "نقد ملكة الحكم"، يروي الفيلسوف والمترجم فيليلنكو الذي يعتبر من كبار مترجمي كانط والباحثين في فلسفته في اللغة الفرنسية، كيف أن الفيلسوف المؤسس كتب عند نهاية عام 1787 في رسالة بعث بها إلى صديقه الكاتب والناشر رينهولد يخبره فيها أنه بصدد إنجاز حلقة ثالثة "وربما أخيرة" في سلسلة كتبه التي كرسها للمسألة النقدية في الفلسفة، موضحاً "إنني قادر الآن على إخبارك أنني بقدر ما أسير قدماً في دبج هذا الكتاب، بات في وسعي أن أؤكد أنني بت أقل خوفاً من أي خلف، أم تضافر فكري ضدي (يجتمع عادة لمجابهة ما أقول) يمكنه أن يسيء بصورة جدية إلى منظومتي النقدية هذه. وينطلق يقيني هذا من قناعة باتت حميمة لديَّ بالنظر إلى أنني حين أشتغل غائصاً في بحوث جديدة، أكتشف ليس فقط أن منظومتي هذه متساوقة مع ذاتها، بل كذلك أنني إذ تساورني أحياناً بعض الشكوك بالنسبة إلى منهج بحثي يتعلق بموضوع جديد، يكفيني أن أعود إلى هذه القائمة من عناصر المعرفة والملكات المتعلقة بالروح لكي أصل إلى تلك التوضيحات التي لم أكن أتوقعها. وهكذا تجدني الآن مشتغلاً على نوع من نقد للذوق يمكن من خلاله اكتشاف نوع جديد من مبدأ قَبْلي. علماً بأن ملكات الروح في منظومتي النقدية هذه ثلاث: ملكة المعرفة، ملكة اللذة والجهد، وملكة الرغبة".
نحو فلسفة غائية
ويتابع كانط في رسالته هذه "لقد عثرت في (نقد العقل الخالص) (النظري) على المبادئ القبلية للملكة الأولى؛ وفي (نقد العقل العملي) على مبادئ الملكة الثالثة. ثم رحت لأبحث عن مبادئ الملكة الثانية، على الرغم من علمي باستحالة العثور عليها، فتمكنت من ذلك وتحديداً بفضل استعانتي الحاسمة بالبناء المنهجي للتحليل السابق لملكتي الروح السابقتين، وهو الذي مكنني من التوجه في الدرب الصحيح إلى درجة أنني أميز اليوم بين ثلاثة أجزاء في الفلسفة لكل واحد منها مبادئه القبلية: فلسفة نظرية، وفلسفة غائية، وفلسفة عملية...". والحقيقة أن ما يلوح لنا في المقام الأول من خلال هذه الرسالة التي كانت الإعلان الأول عن اشتغال كانط على الجزء الأكثر شهرة إنما الأكثر تعقيداً وصعوبة في ثلاثيته النقدية، هو أن الترتيب المنطقي الذي توخاه كانط لم يكن هو الترتيب الذي اعتمده في نهاية الأمر حيث حل البحث فيما سماه "الفلسفة الغائية" ثالثاً وحل ثانياً النص المتعلق بالفلسفة العملية، فيما بقي "نقد العقل الخالص" على حاله في المكان الأول ولو من الترتيب الكرونولوجي لإنجاز كتب الثلاثية. ولكن من المؤكد أن هذا الترتيب يبقى تقنياً. ويبقى كذلك أن الجزء الأخير الذي نحن في صدده هنا يعتبر فاتحة تلك العودة المظفرة، التي استعادت بها فلسفة الجمال مكانتها بعد قرون على ولادتها في الزمن الإغريقي، ولا سيما لدى الماقبل سقراطيين ومن بعدهم أفلاطون ومن ثم أرسطو.
نوع من التكرار المرفوض
طبعاً لا نزعم هنا أن الدراسات في علم الجمال، ومهما تنوعت أسماؤها، غابت خلال ذلك الفاصل الزمني الطويل، لكننا نفترض أنها بقيت على حالها تكرر مبادئها المؤسسة حتى كان زمن التنوير الألماني والسجالات التي بدأها كانط على خطى فنكلمان ومن حول تجديدات غوته العملية ومحاولات شيلنغ التي كانت الأكثر توفيقاً، وصولاً طبعاً إلى المنجز الكبير الذي حققه هيغل في ميدان علم الجمال بمجلداته العملية. ولا ريب أن الجزء الثالث من ثلاثية كانط يشغل واسطة العقد من ذلك كله. ولم يكن في مقدوره إلا أن يكون كذلك، بخاصة أن الأعمال السابقة على عمله مباشرة وحتى لدى بومغارتن وهيغل، اشتغلت على تطبيق المناهج الفلسفية على الجماليات وغالباً بروحية مدرسية تاريخية، فإذا بكانط يقلب الآية مستخدماً الجماليات كجزء أساسي من الفلسفة. وهنا يكمن التجديد الهائل الذي أحدثه، وأحدثه بوجل وهو يخشى ألا تستقيم الأمور كما كان يريد لها أن تستقيم. ولعلنا نكون مصيبين هنا إذ نفترض أن اللحظة التي تخلص فيها من خشيته إذ وجد ضالته كانت هي التي أملت عليه كتابة تلك الرسالة وقد تحرر من قلقه وأدرك إنجازه تجديداً بات واثقاً منه، إنجازاً انتظر سبع سنوات قبل التوصل إلى تحقيقه.
آلية الطبيعة ونهم الإنسان
إذاً بعد سبعة أعوام من توصله إلى تلك الخلاصات والنتائج المتعلقة بالنقد الخالص كما بالنقد العملي للفلسفة أصدر كانط "نقد ملكة الحكم" الذي ينظر إليه أحياناً، في معزل عن الكتابين النقديين السابقين، بوصفه دراسة نظرية تأسيسية في علم الجمال. إنه لكذلك فعلاً، لكنه "كثيراً أكثر من ذلك فهو هنا وبعد بحث دؤوب تمكن من أن يوجد صوغاً لـ(شعور اللذة والنفور) بوصفه ملكة ثالثة يحوزها العقل". وينطلق كانط في تحليله هنا من فكرة تأسيسية، لديه، تقول إنه إذا كانت "آلية الطبيعة تشبع نهم الإنسان دائماً، فإنها لا ترضي مخيلته. ولا سبيل إلى تعويض هذا النقص الكامن في الغائية الطبيعية، إلا إذا كانت هناك غائية أخرى، حرة. من هنا فإن الفن ليس في جوهره سوى الإنتاج الحرّ للجمال". ويحدد كانط أثر هذا الفارق والترابط بين الفائدة الاجتماعية والفائدة الأخلاقية للجمال، محللاً "الجميل" و"السامي" رابطاً بينهما ديالكتيكياً ولكن بعد تحديد ملكوت كل منهما. ويرى كثر من الباحثين أن أهم ما يميز "نقد ملكة الحكم" إنما يكمن في التفريق الذي يقيمه بين فعل الشعور، وفعل المنطق والفعل العملي، التفريق الذي يسمح للمؤلف بأن يتجاوز نظرات أخرى سابقة للفن كانت غائمة وتتفنن في إعطائه استقلالية عن الأخلاق والحياة، أو تكتفي بجعله ملحقاً بهما. وبهذا يكون كانط قد أسس علم الجمال الحديث... علم الجمال النقدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين المعرفة والشعور
وهو ما يترك لمؤرخي علم الجمال المعاصرين أن يضعوا ذلك الفيلسوف التنويري الكبير في موقع المؤسس أو في الأقل موقع المفكر الذي اشتغل على إعادة تأسيس منظومة فكرية، عرف على أية حال كيف يخلصها من ذلك التناقض الذي كان يحير سابقيه بين النزعة النظرية والنزعة التجريبية في الفكر الجمالي. وفي سبيل هذا الغرض يؤكد كانط على سبيل المثال أن "من خصائص حكم الذوق أن منطوقه لا يمكنه أبداً أن يكون معرفة إدراكية بالنظر إلى أن دافعه السببي لا يمكنه أن يكون سوى دافع شعوري". وذلك بمعنى أن كانط يقلب الآية التي كانت معتمدة في تحليل "ملكة الحكم" بحيث إن استشعار الجمال لديه يتلو الحكم العقلي فيصبح الشعور لديه نوعاً من حكم شعوري حقيقي، ما يجعله يستنتج أن "الحكم على أمر ما بأنه من اختصاص قوتنا المعرفية معناه أن هذا الحكم قد خضع من قبل لنوع من حكم تحديدي بالنسبة إلى قوة معرفتنا الإدراكية، ومعناه أنه خاضع بالنسبة إلينا إلى مبدأ الغائية".
حياة ما...
مها يكن من أمر، إذا كانت هذه العجالة لا تسمح بإعطاء أكثر من هذه المفاتيح السريعة لفهم عمل متكامل وتأسيسي متشعب، مثل هذا العمل الذي لا بد من الغوص فيه بإسهاب أكثر كي لا يبدو على الغموض الذي يتسم به من خلال هذا الإيجاز، فإنها -أي هذه العجالة- لا تكفي كذلك لتصوير حياة امتلأت بالفكر والمعارك الفلسفية والمؤلفات، هي حياة كانط. فنكتفي إذاً بالإشارة إلى أنه ولد ومات في كونيغسبرغ (بروسيا الشرقية (1724/ 1804 - من أسرة ذات أصول اسكتلندية. درس الدين والفلسفة باكراً، ثم انصرف إلى التدريس، ووضع العشرات من المؤلفات التي أسست الفلسفة المدنية بجوانبها الأخلاقية والجمالية والعملية. ويمكن اعتباره أحد الآباء الشرعيين لنظريات العولمة.