يبدو يوسف خديم الله شاعراً غير مرغوب فيه، في الحياة الثقافية التونسية على الخصوص، والمغاربية بشكل أعم. هذا ما توحي به كتاباته، وتدويناته. إنه شاعر منعزل أو معزول، لا نعرف إن كان تغييبه عن المشهد الأدبي في بلاده مقصوداً، أم أن الشاعر هو الذي اختار أن يقيم في ضواحي مدينة الثقافة بعيداً من شوارعها الكبرى ومقاهيها وحاناتها المركزية. في أعماله الأخيرة صار يضيف إلى اسمه مركّباً وصفياً مستفزاً "شاعر سابق".
ويحار القارئ حين يدرك أن هذا الشاعر السابق مازال يواصل كتابة الشعر، غير أنه يكتب على ما يبدو فاقداً لكل أمل، إنه على الأرجح يكتب تحت وقع "عضة اليأس" التي استهل بها كتابه الشعري الجديد "على يأس وأضحك" الصادر حديثاً عن (دار الشنفرى بتونس). ويذكرنا هذا العنوان المبني على المفارقة بإميل سيوران الذي قال مرة، "الضحك هو المبرر الكبير للحياة. حتى في أعمق لحظات اليأس كنت قادراً على الضحك".
وإذا كان أرنست همنغواي يعتبر أن "اليأس جريمة"، وألبير كامي يرى أن "التعود على اليأس أسوأ من اليأس نفسه"، فإن الشاعر التونسي يرى بالمقابل أن اليأس سيكون بمثابة راحة لمن يحمل بداخله أحلاماً لا تتحقق. ألم يقل أدونيس في زمن سابق، "وحده اليأس جدير بالحب"؟
تقشف في البلاغة
يكتب خديم الله كما لو أنه يريد أن يتخلص من الكتابة. فالجمل قصيرة والدلالات مكثفة، والبنى الشعرية تنفر من كل التعقيدات والتوليدات الشكلية. ثمة زهد واقتصاد، حتى في الشعر نفسه. فخديم الله ينحو إلى الكتابة الشذرية التي تولي الأهمية القصوى لما تحمله من دلالات، حتى لو كان ذلك على حساب الجماليات اللغوية التي عادةً ما يحتمي بها الشعراء.
يتخفف الشاعر ما أمكن من البلاغات المتداولة، ويحاول أن يقدم تجربة يبدو فيه النص بأكمله صورة واحدة، بالتالي بلاغة واحدة غير قابلة للتفكيك. فقارئ نصوص هذا الشاعر التونسي سيُقر منذ الوهلة الأولى بأنها شعر، غير أنه سيكون عسيراً عليه أن يبرهن على ذلك. فالخصائص التي يمكن أن نقارب منها النصوص الشعرية تبدو في تجربة خديم الله غائبة، على الأرجح مُغيّبة.
وهذا الزهد في الشكل يقابله أيضاً زهد في المعنى، فضمير المتكلم عند خديم الله يقطع مع كل أشكال الاستعراضات الذاتية، فاليد التي تعمل على إخفاء البلاغة تعمل في الآن ذاته على تغييب الذات، أو تحجيمها. نقرأ النص القصير "قنّ" لنكتشف كيف يقدم الشاعر ذاته للقارئ، "أنا قنّ العائلة الأنبل/ العائلة التي ليس لها سيد". في نص آخر نرى صورته تلميذاً كان يجلس في آخر الفصل، ومازال إلى اليوم "وحيداً جداً/ في آخر كل شيء". لا يدعي الشاعر أية بطولة، بل إنه لا يتورع في جرد أخطائه: "أنا أب سيء/ أحببت أن أنجب بنتاً/ فجاءني طفلان/ ربيتهما كشجرة/ وحذرتهما من الغابة/ ذلك أنني حطاب جبان/ وأكتب/ أكتب لهم تاريخ جُبني/ بمقبض فأس". في كثير من النصوص نحس أن الشاعر يقسو على ذاته، ولا يرمي باللوم على أي عنصر خارج هذه الذات، "أنا فاشل لا ريب/ حتى أن الخطأ الذي ارتكبته/ بهمة بغل/ كان صائباً".
يهدي خديم الله نصوصاً قصيرة إلى زوجته الشاعرة سامية ساسي، بعد أن اختار مقطعاً شعرياً لها عتبةً لهذه النصوص، راسماً للقارئ إحداثيات علاقته بهذه "المرأة الواحدة" التي حفر لها في الهواء الرخو بئراً، "ضحكتها القصيرة تلك/ كتذكرة الميترو/ هي كل حكاية حبنا/ الطويلة". ويهدي نصوصاً أخرى إلى الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار يبثّه فيها عثراته وأحلامه وأوهامه وتصاديه مع جدران العالم، "لم يكن واهماً الشاعر الذي/ قضى حياته يحلم بأرض/ خضراء للجميع/ كان فقط ينقل قبضة رمل جاف/ من يد/ إلى/ يد".
تمجيد العزلة
في نص "لا أحتاج"، الذي يؤكد من العنوان شعرية الزهد في هذا العمل الأدبي، يصف الشاعر نفسه بأنه "سجين في الهواء الطلق" للدلالة على الضيق الذي يعيشه الكائن المعاصر، لا الشاعر وحده فحسب. وهو ضيق تسهم في خلقه عوامل متداخلة بين ما هو اجتماعي واقتصادي، وسياسي، ونفسي وروحي. في نص "نهاية رجل شريف" نتعقب الشاعر الذي خرج من بيته، ولم يصافح أحداً ولم يلمس شيئاً، غير أنه "عاد إلى البيت بيدين ملوثتين". كما لو أن نُشدان النقاء في الحياة المعاصرة بات أمراً مستحيلاً اليأس عند خديم الله ليس جمالية لغوية فحسب، بل هو قاعدة ينطلق منها في مكتوبه بهدوء، وكل شعور آخر قد نصادفه في النص ما هو إلا استثناء. ولذلك ليس غريباً أن يضع الشاعر أحدَ رموز اليأس في تاريخ البشرية عنواناً لنص من نصوصه "عقارب شوبنهاور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو الشاعر التونسي متصالحاً مع روح العدمية التي تخيم على نصوصه. فهو إذ ترك وراءه الماضي من دون أسف، لا ينتظر بالمقابل من المستقبل أي شيء، "من سنينَ طويلة/ لا أسابق أحداً/ أركب حصاناً حجرياً/ ولا أسأل متى أصل". القلق ليس شعاراً في كتابات خديم الله، إنه قَدر، ولعل الوضع الطبيعي للإنسان هو أن يكون على قلق. لذلك وضعَ الشاعر كعتبة لأحد نصوصه جملةَ الفيلسوف الفرنسي سارتر، "الأوغاد هم أولئك الذين يعيشون خارج القلق". وهذا تأكيد لما وصل إليه فيثاغورس قبل قرون، حين اعتبر أن القلق يُفترض فيه أن يدفعنا إلى العمل لا إلى الاكتئاب، معتبراً أن من لا يستطيع السيطرة على نفسه ليس إنساناً حراً. إنه قلق منتج، وليس بالضرورة سالباً ومحبِطاً.
وإذا كان "القلق النهم" (كما يسميه فرناندو بيسوا) قدرَ الشاعر، فهو بالمقابل لا يطلب من الآخرين سوى أن يتركوه مع قدره. لذلك يقيم الشاعر حفلة لوحدته، ويقوم بتمجيد العزلة، "إن سأل عني أحد قولي/ إنه دائماً على سفر/ ففي غرفته خريطة لا غير". ينتقل الشاعر بين تيمات عديدة، لكنها تتشابه في القتامة، ويكفي أن نتوقف عند عناوين النصوص لنلمس بأيدينا غيوم اليأس والقلق واللاجدوى، زلة حياة، زاهد، أعمى، أشياء عديمة الجدوى، اللعنة، نكوص، وإن كنت أعزل تماماً، حياتي الكلبة، عقارب شوبنهاور.
يختم الشاعر التونسي كتابه الجديد "على يأس وأضحك" بنص شذري مفتوح الدلالة، "لا بأس/ فالبحر نادراً ما يبدأ من/ الميناء". ويحس قارئ نصوص خديم الله بأننا أمام شاعر يحمل في داخله رغبة هائلة في التخلي عن كل شيء تقريباً، كل شيء عدا الشعر.