لعل في إمكاننا أن نقول إن الحركة السابعة من قصيدته السيمفونية "كرنفال الحيوانات" هي القطعة الموسيقية لكاميل سان – سانس التي يتآلف معها جمهور السينما أكثر من أية مقطوعة موسيقية أخرى، وذلك بالتحديد لأنهم "مجبرون" على الاستماع إليها عشرات المرات خلال حضورهم أي دورة من دورات مهرجان "كان"، فهذه الحركة تعزف عادة في مقدم كل عرض لفيلم في المهرجان. وهو مصير مجيد من المؤكد أن سان – سانس لم يحلم به يوماً منذ كتب هذا العمل الموسيقي البديع مستوحياً زيارة بهرته إلى حديقة حيوان نمسوية في طريق عودته من ألمانيا إلى بلده فرنسا غاضباً لاستقبال سيء بادأه به الجمهور الألماني لأسباب سنعود إليها بعد سطور، ففي الحركة السابعة لا يقدم لنا سان - سانس موسيقى لحيوان واحد كما فعل في بقية الحركات، بل يقف متأملاً أمام حوض أسماك ليقدم من خلاله موسيقى شفافة ناعمة لها حركة انزلاق الأسماك في البحار الرائقة، ومن هنا كان من الطبيعي لهذا الجزء أن يُلعب أساساً، من طريق آلة الناي على خلفية وترية مع نوتات بيانو على مقام صغير، وهكذا كثيراً ما استخدم هذا الجزء من الحركة كلازمة في مجالات أخرى، وربما يكون أشهر استخدام له اليوم هو تحويله إلى تلك اللازمة لتقديم أفلام المسابقة الرسمية وغيرها من التظاهرات في مهرجان "كان" السينمائي.
من الأسماك إلى الحيوانات كلها
ولعل اللافت هنا هو هذا التآلف بين التعبير عن الحيوان والتعبير الموسيقي في فن سان – سانس، والذي أوصله إلى أن يلحن واحداً من أجمل قطع الأوراتوريو في تاريخ الموسيقى الفرنسية انطلاقاً من الحكاية التوراتية المتحدثة عن الطوفان ونوح والتي عمادها أيضاً موسيقى تصور وجود الحيوانات زوجاً زوجاً للحفاظ على أنواع المخلوقات. والحال أن أوراتوريو "الطوفان" هذا لا يمكن اعتباره الأشهر أو يضاهي في شهرته "كرنفال الحيوان" أو "الرقصة المقابرية" بين أعمال ذاك الذي كان يعتبر أكبر الموسيقيين الفرنسيين في زمنه، وذلك لصعوبة العمل من ناحية وصعوبة تقبل الجمهور العلماني المثقف أعمالاً مستوحاة من الدين، كما نعرف، وبالتالي ليس من السهل توقع أن تقوم فرقة موسيقية وكورالية في فرنسا أو حتى في غيرها بتقديم أوراتوريو "الطوفان"، فهذا العمل يبدو إلى حد منسياً، بقدر ما يبدو فن الأوراتوريو نفسه ضئيل الجاذبية. فإذا ما قررت فرقة ما الخوض فيه ستكون أمامها اختيارات أكثر شهرة مثل أعمال هاندل وهايدن، ومع هذا حتى وإن كان "الطوفان" لم يلق ما يستحق من الترحيب حين قدم للمرة الأولى على مسرح الشاتليه في باريس العام 1876، فإنه في الحقيقة عاد بعد عامين فقط ليصبح حديث باريس الفنية حين قدم ثانية في "سيرك الشتاء" لمناسبة الجمعة العظيمة، ليبقى بعد ذلك ذا حظوة لدى الفرق طوال العقدين التاليين وينال في كل مرة يُقدم فيها تصفيقاً شديد الصخب.
الموسيقى والدين معاً
منذ البداية هنا لا بد من الإشارة إلى أن "الطوفان" عمل موسيقي ذو صبغة دينية خالصة، إذ هو وكما يدل عنوانه مأخوذ من حكاية طوفان نوح التوراتية. ولحنه سان – سانس انطلاقاً من نص شعري كتبه لوي غاليه. ولقد كان من حظ الموسيقي أن وقع على هذا النص، إذ إن الشاعر عرف كيف يصيغ العمل في تلوين مدهش بين شتى الحالات التي تتوالى في الحكاية، من خطيئة البشر وغضب العناية الإلهية إزاء تلك الخطيئة إلى درجة اتخاذها القرار بإغراق عالم الخطيئة بالمياه آمرة النبي نوح بإنقاذ أزواج من كل المخلوقات، كي يبدأ بها تكوين عالم جديد أقل خطيئة.
لقد كان من الواضح للموسيقي أن توالي هذه الحالات يمكنه من الاشتغال بشكل متنوع، وذلك انطلاقاً من المقدمة التي صاغها فقط بآلات وترية مع صولو كمان، غالباً ما يقدم في الحفلات بمفرده لجماله واستقلاليته.
لكل حال أنغامها
بعد المقدمة التمهيدية ينقسم الأوراتوريو إلى ثلاثة فصول، لكل واحد منها مواضيعه التي يشكل تضافرها العمل ككل، ففي الأول لدينا على التوالي "فساد الإنسان" و"غضب الله" و"التحالف مع نوح". وفي الثاني "السفينة" ثم "الطوفان"، أما في الثالث فلدينا طبعاً "اليمامة" ثم "الخروج من السفينة" وصولاً إلى نيل "البركة الإلهية" في نهاية الأمر.
والحقيقة أن سان – سانس وبالاستناد إلى جمل موسيقية كان زرعها في المقدمة، لجأ إلى موسيقى تعبيرية ذكرت كثراً من المستمعين بأعمال لفاغنر، بل حتى ببرليوز، وإن كان علماء موسيقى أكثر دقة نسبوا العمل ككل إلى عوالم هايدن في "الخليقة" أكثر مما إلى عوالم أي موسيقي آخر. مع هذا لا بد من الإشارة إلى أنه بما أن نوعاً من التعبيرية الرمزية كان طاغياً على الحياة الفنية في فرنسا في ذلك الحين، كان من الطبيعي لموسيقى سان – سانس أن تكون في هذا العمل تعبيرية تعتمد على المقدمات المنبسطة قبل الانتقال إلى تصعيد يصل إلى حد التأزيم، لا سيما في نهاية الفصل الأول وبداية الفصل الثاني حيث يصبح الاعتماد بشكل خاص على الآلات النحاسية وصخبها، قبل العودة إلى الهدوء وإزالة التصعيد، مع بدء الفصل الثالث حيث يعود الاعتماد أكثر على الوتريات في احتفال هاو بالنعمة التي حلت على الإنسان بعد العقاب الذي أنزلته العناية الإلهية بجنسه.
هاجس الموت الباكر
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا كله، وإن كان يقدم إلينا من طريق لغة الموسيقى، فإنه يقدم أكثر من طريق ذلك الراوي المنفرد أحياناً، وبمشاركة الكورس في أحيان أخرى، والذي يعلق على ما يحدث أمامنا أكثر مما يرويه. هي إذاً تلك التوليفة التي عرف سان - سانس كيف يحولها عملاً فنياً يسهم في مكانته التي جعلت كثراً من الفرنسيين يشعرون حين انتشر عند نهاية عام 1921 في باريس نبأ رحيل كاميل في الجزائر، بأن صرحاً كبيراً من صروح الموسيقى قد هوى، لكنها في المقابل كانت قلة من الناس فقط تلك التي تذكرت أن صاحب "الرقصة المقابرية" الذي مات يومها عن عمر يناهز الـ 86 عاش طوال حياته تحت هاجس "الموت الباكر" الذي كان الأطباء قد تنبأوا له بسبب إصابته بنوع من الصرع منذ كان في سنوات مراهقته. وتلك القلة تحدثت يومها عن معجزة الوجود التي أبقت على قيد الحياة طويلاً، رجلاً مثله كان على الدوام محكوماً بالموت، لكن تلك لم تكن المعجزة الوحيدة في حياة سان - سانس.
المعجزة الأخرى كمنت في أن ذاك الذي منذ صغره اعتبر صنواً لموزارت في تفتّح عبقريته الموسيقية المبكرة، كان يعتبر في الوقت نفسه طفلاً مخبولاً غير سوي العقل. ومع هذا كان كاميل في منتصف العام الرابع من عمره حين بدأ يقرأ "النوتة" الموسيقية ويكتبها، وكان في الخامسة حين عزف على البيانو للمرة الأولى في حفل عام وخصته صحيفة مشهورة بمقالة نقدية، وكان في العاشرة حين عزف أمام لويس - فيليب والعائلة المالكة. وفي كل مرة كان الجميع يبدون عجبهم إزاء تلك الموهبة المتفتحة في غير مكانها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ضد فاغنر
والحال أن كاميل سان - سانس كان من حقه قول هذا، هو الذي جعل معظم موسيقاه مجرد غوص في الشكل بصرف النظر عن المضمون، ينطبق ذلك بخاصة على ألحانه الأوبرالية التي وضعها لأوبرات مثل "شمشون ودليله" و"إيتيان مارسيل" و"هنري الثامن" وغيرها، ففي مثل هذه الأعمال تتبدى موسيقى سان - سانس وصفية خالية من الانفعال، كأنها مجرد تمارين أسلوبية تبدت في غاية الجلال، تمارين أعادت للفرنسيين إيمانهم بأنه يمكن لفرنسا بعدُ أن تنتج موسيقيين كباراً، في وقت كانت الموسيقى الألمانية والإيطالية، تطغى على كل شيء.
مهما يكن تأخر الجمهور الفرنسي طويلاً في استقبال تلك الأوبرات لا سيما الأشهر مثل "شمشمون ودليلة" التي قدمت للمرة الأولى في فايمار في ألمانيا وانتظرت 10 أعوام قبل أن تقدم في فرنسا، وبقي أن نعود أخيراً إلى حكاية سان – سانس مع الألمان الذين لم يحبوه وربما بسبب وقوفه الدائم ضد نجمهم الكبير فاغنر، وليس أبداً لأسباب سياسية، ومع ذلك فمن الطريف أن نذكر أن سان - سانس الذي شهدت ألمانيا مجده الأوبرالي قبل فرنسا، كان هو الذي طالب خلال الحرب العالمية الأولى بحظر تقديم أعمال الألماني فاغنر في فرنسا اندفاعاً منه وراء شعور قومي فرنسي مباغت.