حين اختفى زكريا العدل من مدينته شمال لبنان، ظنت عائلته أنه هاجر عبر البحر هرباً من ضيق المعيشة، لكن آخر ما توقعته أن يصلها نبأ مقتله في العراق حيث التحق بتنظيم "داعش".
وزكريا البالغ 22 سنة، واحد من ثمانية شبان على الأقل تبلغت عائلاتهم بمقتلهم في العراق منذ ديسمبر (كانون الأول)، وكانوا في عداد عشرات الشبان الذين غادروا منذ الصيف منازلهم في الأحياء الأشد فقراً وحرماناً في مدينة طرابلس، ليتبين لاحقاً، وفق مصادر أمنية، أنهم جندوا في التنظيم المتطرف مقابل رواتب مغرية.
في منزل متواضع مؤلف من غرفة ضيقة ومطبخ صغير لا يتسع لأكثر من شخص في منطقة باب التبانة في طرابلس، تبكي غفران (56 سنة) ابنها زكريا بحرقة. وتقول لوكالة الصحافة الفرنسية، "لم نعرف أنه في العراق إلى حين تبلغنا بوفاته".
وتيقنت العائلة من خلال صور ومقاطع فيديو نشرتها حسابات للجيش العراقي على موقع "فيسبوك" في السابع من ديسمبر، من مقتل زكريا في صحراء الأنبار غرب العراق، وهي منطقة تعد مسرحاً لنشاط خلايا تابعة للتنظيم.
"غادر بسبب الفقر"
وتصر عائلة زكريا على أنه لم يكن لديه أي ارتباط بالتنظيم، وأن همه كان تأمين قوت عائلته.
ولطالما شكلت طرابلس حاضنة لمجموعات متشددة ناصرت المعارضة السورية إثر اندلاع الحرب فيها عام 2011 أو قاتلت معها، كما خاضت مواجهات ضد الجيش اللبناني أدت إلى مقتل عشرات الجنود، واتهمت بالضلوع في اعتداءات إرهابية في طرابلس وخارجها.
ويعرض علي العدل، شقيق زكريا، مقطع فيديو على هاتفه يظهر احتفال جنود عراقيين بالقضاء على مجموعة من الإرهابيين، وتظهر جثة شقيقه بين جثتين أخريين على عربة عسكرية.
وأعلن الجيش العراقي حينها تنفيذ طائراته ضربة على "وكر لعناصر داعش الإرهابية" في صحراء الأنبار، وخوضه اشتباكات أسفرت عن مقتل 10 عناصر من التنظيم.
ويقول علي، "عندما اختفى اعتقدنا أنه يخطط للتوجه إلى السويد بطريقة غيرشرعية"، على غرار ما فعل المئات من أهالي المنطقة خلال الأشهر الأخيرة بعدما أضنتهم ظروفهم المعيشية الصعبة. ويوضح، "كان يبيع الخضراوات على عربة، ثم السمك والذرة ليعيش"، مضيفاً بانفعال "غادر بسبب الفقر".
اختفاء الشبان
ولم تتمكن غفران التي تحتاج عملية عاجلة في القلب تعجز وأولادها عن توفير كلفتها، من حبس دموعها. تضع يديها على وجنتيها وتتحسر على مصير ابنها "الذي مات غريباً"، وفق قولها.
وجل ما تريده العائلة التي تدرك صعوبة إحضار الجثمان هو الاستحصال على وثيقة وفاة من العراق، لتتمكن زوجته وطفله من المضي قدماً، في خطوة لا يمكن إنجازها بغياب أي تدخل رسمي لبناني لدى الجانب العراقي.
وبدأ أهالي طرابلس منذ أغسطس (آب) التداول باختفاء شبان من المدينة التي تفتقر إلى فرص عمل وخدمات أساسية، فيما يشهد لبنان منذ عامين أزمة اقتصادية غير مسبوقة صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقدر مصدر أمني أن "عدد الذين التحقوا بالتنظيم الإرهابي 48 شاباً حتى الآن"، موضحاً أن أحد أبناء المدينة المرتبطين بالتنظيم والمقيم خارج لبنان يقف خلف تجنيد القسم الأكبر منهم.
ويقول، "قدمت عائلات الفارين بلاغات عن أبنائها بعد تلقيها اتصالات منهم من العراق"، باستثناء خمس عائلات لم تعرف شيئاً بعد عن أبنائها.
ويرجح المصدر أن تكون "الأسباب المادية" هي الأساس خلف التحاقهم بالتنظيم الذي "وعدهم بدفع رواتب تصل قيمتها إلى خمسة آلاف دولار شهرياً".
وفاقم الانهيار الاقتصادي الذي يصارعه اللبنانيون منذ عامين معاناة سكان طرابلس الذين كان أكثر من نصفهم تحت خط الفقر قبل بدء الأزمة.
تهمة الإرهاب
وفي بغداد، قال مستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي، الأحد السادس من فبراير (شباط)، إن بلاده تدقق في معلومات تبلغتها من الجانب اللبناني إزاء هذا الملف، موضحاً أن وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي سيزور بغداد قريباً للتباحث في شأنه.
وفي لبنان يقبع الآلاف من أبناء طرابلس ومحيطها في السجن بتهم "الإرهاب"، معظمهم من دون محاكمة منذ سنوات، وتطالب عائلاتهم االدولة بالعفو عنهم.
وفي محلة وادي النحلة الفقيرة المحاذية لطرابلس، تبلغت والدة عمر سيف الأسبوع الماضي مقتله.
ويروي قريبه متحفظاً عن ذكر اسمه، أن الوالدة بعثت رسالة إلى عمر عبر تطبيق "واتساب" من رقم كان قد اتصل منه سابقاً، سألته فيها "كيفك حبيبي؟"، ليصلها جواب "حبيبك مات".
وأعلن الجيش العراقي في بيان نهاية يناير مقتل ثلاثة لبنانيين هم عمر واثنان من أبناء أعمامه، "أثناء قتالهم إلى جانب عصابات داعش الإرهابية" في ضربة جوية في محافظة ديالى.
"الموت خارجاً أفضل"
وكانت وكالة الصحافة الفرنسية التقت والدة عمر بعد أسبوعين من اختفائه نهاية العام، وبحزن شديد تحدثت الوالدة يومها عن حال إحباط ألمت بابنها الذي تعرض إلى استدعاءات أمنية عدة بعد خروجه من السجن قبل عامين، وكان أمضى خمس سنوات فيه بتهمة الضلوع في اعتداءات ضد الجيش، وتم إثر ذلك تجريده من حقوقه المدنية.
وقالت، "كان يائساً وأكثر ما أحبطه أنه كان يبحث عن منزل للإيجار ولا يجد إلا مقابل بدل باهظ".
وأضافت، "عمل كأجير يومي ولم يقبل أحد تشغيله لأن أوراقه سوداء".
وكان عمر، وفق والدته، يخطط للزواج من خطيبته، وكان هاجسه "احتساب الكلف وماذا سيفعل" في ظل قدراته المادية المعدومة.
وحمّلت والدة عمر الدولة اللبنانية مسؤولية ما تعرض له نجلها جراء عجزها عن إدارة أزمات البلاد المتلاحقة من جهة، وجراء الظلم الذي لحق بأبناء طرابلس من الملاحقين في ملفات أمنية.
وعند سؤالها عما إذا كانت تخشى التحاقه بتنظيم "داعش" في العراق، أجابت والدة عمر بتأثر، "بالتأكيد لدي خوف من كل شيء، لكن أكبر مخاوفي أن يعود إلى الدولة اللبنانية".
وتابعت، "أن يموت في المكان الموجود فيه أفضل من أن يعود إلى هنا، حتى لو كان ذلك يعني أنني لن أتمكن من رؤيته" مجدداً.