مثّلت تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، "نموذجاً" في منطقة ما عُرف بـ"الربيع العربي"، وذلك بسبب النجاح النسبي في إرساء مؤسسات ديمقراطية، وهيئات دستورية، وتنظيم انتخابات تحت إشراف هيئة مستقلة، فإن المنجز السياسي في الانتقال الديمقراطي لم يُوازِه منجز اجتماعي واقتصادي، ما جعل التجربة الديمقراطية في تونس تشهد انتكاسات متتالية وأزمة ثقة في الطبقة السياسية، بلغت ذروتها مع احتداد الصراع تحت قبة البرلمان، وبين مؤسسات الحكم.
واتخذت المواجهة الأيديولوجية، والاستقطاب الحاد، أشكالاً عدة، أوصلت إلى تعطل مؤسسات الحكم في البلاد، ما أدّى إلى القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو (تموز) 2021، التي اعتبرت "زلزالاً سياسياً" في تونس، انتهت معه مرحلة حكم دامت 10 سنوات بعد عام 2011، وأعادت تونس إلى مربع التأسيس.
فهل انتهت تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بالإعلان عن الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو؟ وهل يمكن العودة إلى الديمقراطية ودولة المؤسسات بعد الانتخابات المقررة في أواخر السنة الحالية ديسمبر (كانون الأول) 2022؟
ويرى مراقبون أن لحظة 25 يوليو 2021، "هزت عرش المنظومة السياسية التي حكمت طيلة السنوات التي تلت إطاحة حكم الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، وأجهزت على طبقة سياسية تورطت في التوافقات المغشوشة والمحاصصة الحزبية الضيقة، على حساب مشاغل التونسيين الحقيقية في الرفاه، وخلق الثروة".
مشروع الديمقراطية لن يُدفن
واستبعد الكاتب السياسي، خالد كرونة، أن ينتهي مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، مقراً بـ"وجود تعرجات في هذا المسار، وأن 25 يوليو 2021، مثل منعطفاً بعد أزمة في الحياة الديمقراطية".
وأعرب كرونة عن أمله في أن "يقبل التونسيون على مراكز الاقتراع، في آخر السنة الحالية، ويتم اختيار نواب وبرلمان ناجز، بعد هذا الحراك، وتنشأ طبقة سياسية جديدة مختلفة عما عشناه خلال العشرية الأخيرة". وعلى الرغم من إقراره بوجود مخاوف، اعتبر كرونة أن "مشروع الديمقراطية في تونس لن يدفن، والشعب التونسي، لن يقبل بالعودة إلى الديكتاتورية"، داعياً إلى "تعديل بعض فصول الدستور، وتغيير قانون الأحزاب ونظام الاقتراع، من أجل خلق توازن بين السلطات".
وخلص إلى أنه "لا يمكن تخيل تونس بلا برلمان"، مشدداً على "أهمية الانتظام السياسي من أجل ديمقراطية تمثيلية حقيقية".
لا ديمقراطية في ظل "الانقلاب"
في المقابل، قال الباحث في مجال الأنثروبولوجيا، الأمين البوعزيزي، إنه "لا يمكن الحديث عن ديمقراطية أو مؤسسات في ظل الانقلاب، الذي يقوض الديمقراطية، ويستهدف مؤسسات الدولة".
واستنكر البوعزيزي توجه الرئيس التونسي إلى "حل مؤسسات عدة على غرار هيئة مكافحة الفساد، والمجلس الأعلى للقضاء، إلا أنه لم يحل أي مشكلة اجتماعية".
واستحضر البوعزيزي تاريخ الثورة التونسية بالقول، "إنها كانت بلا قيادة، لذلك فرضت الديمقراطية بإجماع شعبي، وكانت المطالب تدور حول ثلاثة مفاهيم أساسية، وهي شغل، حرية، كرامة وطنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستبعد الباحث التونسي أن ينجح ما يسميه "الانقلاب" في فرض سياسته في تونس، لأن السياق العالمي اليوم لا يناصر الانقلابات، بل يدعم الإرادة الشعبية، معتبراً تاريخ 25 يوليو 2021، "فرزاً جديداً للمشهد السياسي المشتت في تونس".
وتوقع "تحطم مشروع قيس سعيد، على صخرة الاحتقان الاجتماعي"، قائلاً إن "البلد يغرق ويختنق والعالم لن يساند بلداً غير مستقر سياسياً وبلا برلمان ومؤسسات"، معتبراً أن "تونس اليوم في عزلة دولية".
ديمقراطية فاسدة
من جانب آخر، رأى المدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، طارق الكحلاوي، أن "هناك مشكل في توصيف التجربة التونسية وتقديمها كنموذج للانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية"، مشيراً إلى أن "هذه السردية وردية أكثر من اللازم". واعتبر أن "الديمقراطية التي كانت سائدة، ديمقراطية فاسدة، لا توجد بها إصلاحات اقتصادية واجتماعية، وطغت عليها التوافقات الشكلية، القائمة على مصالح جزء من النخبة السياسية".
وأكد الكحلاوي "عدم وجود تبني شعبي للتجربة التي كانت تعيشها تونس قبل 25 يوليو 2021، لذلك لم نلحظ رفضاً شعبياً لقرارات رئيس الجمهورية، الأحادية، والتي فيها أحياناً تجاوز للدستور، وهو ما جعل قيس سعيد يوسع صلاحياته".
ورجّح "العودة إلى دولة المؤسسات عبر انتخابات ديسمبر 2022، ووفق ما جاء في خريطة الطريق التي وضعها رئيس الجمهورية، على الرغم من المعارضة الحالية لهذا المسار"، داعياً إلى "ترجمة ما تم الإعلان عنه، في شكل مراسيم، وهو ما تطالب به الجهات الدولية".
وحول إمكانية العودة إلى الديمقراطية، قال الكحلاوي، إن "الوضع في تونس مفتوح على احتمالات عدة"، لافتاً إلى أن الوضعية الاقتصادية الصعبة في البلاد ستفتح المجال أمام ضغط الأطراف الدولية من أجل إصلاحات دستورية عميقة وعودة إلى المؤسسات والديمقراطية".
يذكر أن سعيد أكد في أكثر من مناسبة أنه لا ينوي الاستفراد بالحكم، أو تجميع السلطات بيده. وقال خلال لقائه أخيراً رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، "لن أتدخل في القضاء أبداً، ولا أريد أن أجمع السلطات، أريد أن يكون هناك دستور نابع من الإرادة الشعبية".