انزلقت قيادة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أتون أزمة سياسية أكثر حدة، بعد استقالة أربعة من كبار مساعديه في غضون ساعات قليلة. وشملت الاستقالات مسؤولة ظلت حليفةً لجونسون طيلة 14 عاماً، جاءت استقالتها احتجاجاً على تشويه السمعة "المخزي" بحسب وصفها، من جانب جونسون الذي ربط زعيم حزب "العمال" السير كير ستارمر بأحد المتحرشين جنسياً بالأطفال ويدعى جيمي سافيل.
ورأت المستشارة المسؤولة عن تنسيق السياسات في "داونينغ ستريت" منيرة ميرزا في رسالة استقالة لاذعة، أنه "لا يوجد أي أساس عادل أو معقول"، للهجوم الذي شنّه رئيس الحكومة يوم الاثنين الماضي [على ستارمر]، موضحةً أن جونسون قاوم مناشدات المستشارين له بتقديم اعتذار.
ونأى زير الخزانة البريطاني ريشي سوناك الذي يرجح أنه يكون الخليفة المحتمل لجونسون في المنصب إذا ما أجبر رئيس الوزراء على التنحي، بنفسه عن بوريس جونسون، حينما أقر للصحافيين بأنه "بصراحة، ما كنت لأقول ذلك".
وكذلك رحب دومينيك كامينغز كبير مساعدي جونسون سابقاً الذي تحول عدواً لدوداً له، ببهجة بمغادرة ميرزا، معتبراً أنها تعد "إشارة لا لبس فيها، إلى أن المخبأ المحصن ينهار، ورئيس الوزراء هذا قد انتهى".
لكن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد. فبعد 3 ساعات من الوقع المدوي الذي أحدثته الرسالة المفاجئة للسيدة ميرزا، أعلن مدير الاتصالات في مقر رئاسة الوزراء جاك دويل، لموظفي "10 داونينغ ستريت" أنه سيستقيل".
وتذكيراً، ورد اسم دويل في فضيحة "بارتي غايت" Partygate بسبب تسليمه جوائز في حفل تناول مشروبات عيد الميلاد سنة 2020 في مقر رئاسة الحكومة. وقد أصر دويل على تأكيد أن تنحيه لم يكن مرتبطاً باستقالة السيدة ميرزا، مشيراً إلى أنه لطالما فكر في الوصول إلى هذه النقطة، ومذكراً بأن الأسابيع الأخيرة سببت "أضراراً فادحة" على صعيد حياته الأسرية.
وورد تأكيد على الأمر نفسه إلى "اندبندنت" من قبل أحد موظفي "داونينغ ستريت" الذي اعرب عن قناعته "بأنه انتوى [دويل] لبعض الوقت أن يترك المنصب، وتعرض لضغط هائل. لم يفعل كل شيء على النحو الصحيح، لكنه بذل قصارى جهده من أجل رئيس الوزراء".
بعد ذلك بوقت قليل، أعلن عن مزيد من الاستقالات، وجاءت هذه المرة من جانب السكرتير الخاص الرئيس لجونسون مارتن رينولدز، الذي وجّه رسالة الدعوة الشهيرة عبر البريد الإلكتروني للموظفين في مقر رئاسة الوزراء، وقد ورد فيها "أحضروا مشروبكم معكم"، وذلك في أثناء إغلاق كورونا. وكذلك قدم رئيس أركان رئيس الوزراء دان روزنفيلد، استقالته أيضاً.
وباستثناء تنحي السيدة ميرزا، يبدو أن هذه الموجة من الاستقالات شكلت جزءاً من تصفية مخطط لها لكبار موظفي "داونينغ ستريت"، جرى تصميمها لمساعدة بوريس جونسون على تفادي إلقاء اللوم عليه شخصياً في سلسلة الفعاليات الاجتماعية الاثنتي عشرة، التي يزعم أنها انتهكت قواعد إغلاق "كوفيد"، والتي ما زال التحقيق فيها جارياً من جانب شرطة العاصمة البريطانية Metropolitan Police. من المتوقع أن يبقى كل من رينولدز وروزنفيلد في منصبيهما حتى تعيين خَلَفَين لهما.
وفي ذلك السياق، يذكر أن عدداً من نواب حزب "المحافظين"، اشترطوا إجراء تعديل على مستوى كبار موظفي مقر رئاسة الوزراء، واعتبروه مطلباً رئيساً لتراجعهم عن المطالبة بإطاحة بوريس جونسون من خلال تصويت بحجب الثقة عنه. وفي الاعتذار الذي قدمه في وقت سابق من هذا الأسبوع، وعد رئيس الوزراء بإجراء تشكيلات، ووضع مكتب رئيس الوزراء تحت إشراف مسؤول دائم في الخدمة المدنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أحد المطلعين على ما يدور في "10 داونينغ ستريت"، وصف الجو السائد في مقر رئاسة الوزراء بأنه "مروع"، بحيث ينتظر المسؤولون هناك نتيجة التحقيق الذي تجريه الشرطة في 12 حفلةً يزعم أنها انتهكت قواعد الإغلاق، إضافة إلى نشر التقرير الكامل عن التحقيق الذي أجرته سو غراي، الموظفة البارزة في الخدمة المدنية في الموضوع.
وعلى نحو مماثل، وصف ذلك الموظف الحكومي الجو بأنه "مرعب، وقد أصاب عدداً من العاملين بالهلع نتيجة التعليق عن سافيل [أي تشبيه ستارمر بسافيل] وعدم تقديم جونسون اعتذاراً عن كلامه". وبحسب المصدر، "لن أفاجأ إذا صدر مزيد من الاستقالات في وقت قريب. فالجميع هنا باتوا منهكين".
واستكمالاً، تأتي سلسلة الاستقالات هذه في يوم عصيب تعيشه إدارة بوريس جونسون، خصوصاً لجهة تعرض ترتيبات تقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية للتهديد، على أثر استقالة رئيس الوزراء بول جيفان التابع لـ"الحزب الديمقراطي الوحدوي" DUP، احتجاجاً على البروتوكول الذي تفاوض عليه بوريس جونسون في إطار اتفاق "بريكست" للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وانعكاساته على إيرلندا الشمالية.
في غضون ذلك، عادت أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة التي تعانيها ملايين الأسر في مختلف أنحاء المملكة المتحدة، كي تطفو على سطح الحوادث في البلاد بشكل صارخ، إذ ارتفع سقف فواتير الطاقة المحلية سنوياً بالنسبة إلى الأسرة الواحدة بنحو 693 جنيهاً استرلينياً (943 دولاراً أميركيا)، الأمر الذي حدا بوزير الخزانة ريشي سوناك إلى تقديم حزمة مساعدات تصل قيمتها إلى 350 جنيهاً استرلينياً (476 دولاراً) لكل أسرة.
في إطار آخر، علم أن مستشاري رئيس الوزراء البريطاني حضّوا جونسون على عدم التطرق خلال النقاش في مجلس العموم يوم الاثنين الماضي، إلى ما قاله عن زعيم حزب العمال، السير كير ستارمر، بأنه "حينما كان مديراً للنيابات العامة، أمضى وقتاً أطول في محاكمة الصحافيين، وفشل في مقاضاة جيمي سافيل (المتحرش جنسياً بالأطفال)، وفق رأيي".
وقد اعتبر التصريح بأنه تصرف معهود "ينطوي على نقد صادم ومهين"، من النوع الذي استخدمه بوريس جونسون مراراً عدة بقصد صرف الانتباه عن المتاعب التي يواجهها.
في المقابل، بثت تلك التصريحات الذعر في أوساط عدد من نواب حزب المحافظين، ما حدا بوزيرة الداخلية البريطانية السابقة أمبر رود إلى وصفها بأنها "مشينة" و"ترمبية".
وفي أعقاب تمسك جونسون بالزعم الذي لا أساس له من الصحة، سواء في مقابلة صحافية، أو في جلسة الأسئلة لرئيس الوزراء في مجلس العموم، حينما اتهمه كير ستارمر "بترديد ببغائي لنظريات المؤامرة لفاشيين عنيفين"، تراجع رئيس الحكومة أخيراً يوم الخميس الماضي، إذ أخبر الصحافيين، "إنني أدرك تماماً أنه لم يكن لديه أي صلة شخصية بتلك القرارات".
في سياق متصل، أوضحت رسالة استقالة المسؤولة عن تنسيق السياسات في "داونينغ ستريت" السيدة منيرة ميرزا، أن مساعدي جونسون قد حضّوه على الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير، وتقديم اعتذار لزعيم حزب العمال، الذي جرت تبرئته من أي مسؤولية عن القرارات المتعلقة بالمتحرش سافيل، وذلك في تقرير صدر قبل أكثر من عقد من الزمن، قادته محامية مرافعة (كايت لامبادرد) تحمل لقب "كيو سي QC" أو "مستشارة الملكة".
وفي التفاصيل، دانت ميرزا في رسالة استقالتها التي حصلت على نسخة منها مجلة "ذا سبيكتاتور" The Spectator، "تلميح رئيس الوزراء غير اللائق والمنحاز، إلى قضية مروعة في الاعتداء الجنسي على الأطفال".
وقد خاطبت جونسون بوضوح، "أرى أنه كان من الخطأ أن تشير هذا الأسبوع إلى أن كير ستارمر كان مسؤولاً شخصياً عن السماح لجيمي سافيل بالإفلات من العدالة. لم يكن هناك أي أساس عادل أو معقول لهذا التأكيد. ولم يكن هذا هو المستوى المعهود للتنافس السياسي والمقارعة بالحجج".
وأضافت ميرزا، "حاولت إيضاح موقفك اليوم، لكنك على على الرغم من إلحاحي، لم تعتذر عن الانطباع المضلل الذي أعطيته. أنت رجل أفضل مما قد يفهمه كثيرون من منتقديك، ولهذا السبب من المحزن للغاية أن تخذل نفسك، من خلال توجيه اتهام شنيع إلى زعيم المعارضة".
وفي ذلك الصدد، حينما سئل رئيس الوزراء البريطاني عن تعليقات المسؤولة المستقيلة، رد جونسون في مقابلة أجراها معه برنامج "5 نيوز" 5News الإخباري، خلال رحلة إلى الشمال الغربي للبلاد للإعلان عن استراتيجية "رفع مستوى المناطق"، بكلمات جاء فيها، "أنا لا أتفق مع ذلك"، رافضاً مرةً أخرى تقديم اعتذار لستارمر.
وفي موازة ذلك، وجد وزير الخرانة سوناك نفسه عرضة لوابل من الأسئلة المتعلقة بكلام الافتراء في ما يتعلق بقضية سافيل، خلال مؤتمر صحافي عقده في "داونينغ ستريت" لترويج قراره مساعدة الأسر التي تضررت بالفواتير المرتفعة للطاقة. وبحسب كلماته، "بصراحة، لم أكن لأقول ذلك، وأنا سعيد بأن رئيس الوزراء قدم توضيحاً لما كان يعنيه"، لكن سوناك أصر على مواصلة مساندته رئيس الوزراء، "إنه يحظى بدعمي، وأنا سعيد بما يفعله".
في نفس مغاير، انبرى نائب سوناك في وزارة الخزانة سايمون كلارك، للدفاع عن بوريس جونسون، إذ ذكر في مقابلة أجراها معه برنامج "نيوز نايت" Newsnight الذي تعرضه قناة "بي بي سي 2"، أنه في وقت "أعرب فيه عن تقديري الفائق لوزير الخزانة، إلا أنني أرى أن الملاحظة التي أبداها رئيس الوزراء. لقد كانت معقولةً للغاية".
من جهة أخرى، لم يحاول كلارك إخفاء الضغوط التي فرضتها الحوادث الأخيرة داخل الحكومة، حينما نقل إلى "تشانيل 4 نيوز" ملاحظة مفادها "أعتقد أن الأيام الأخيرة في روما كانت أكثر متعة".
في غضون ذلك، رفض أندي ستريت عمدة "ويست ميدلاندز"، وهو من حزب المحافظين، منح دعمه لجونسون في فضيحة "بارتي غيت". وأخبر صحيفة "بيرمنغهام بوست" أنه "من الواضح جداً أن ما فعله [جونسون] خطأ. إنه تصرف سيئ بكل المقاييس. وأجد صعوبةً كبيرة في فهم كيف يمكن لذلك حقاً أن يحدث".
وتعد صدمة مغادرة السيدة ميرزا بمثابة ضربة مدمرة للغاية بالنسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني، لأنها كانت من بين الأعضاء القلائل المتبقين في دائرته المقربة، الذين ظلوا معه طوال فترة عمله رئيساً لبلدية لندن، ونجوا من الصراع الداخلي الشرس في الأعوام الأخيرة في "داونينغ ستريت". وقد أشاد جونسون بها في إحدى المرات، باعتبارها امرأة من خمس نساء كن الأكثر مساهمةً في إلهامه.
في سياق متصل، وصفت نيكي دا كوستا المديرة السابقة للشؤون التشريعية في مقر رئاسة الوزراء، المسؤولة المستقيلة [منيرة ميرزا] بأنها "كانت منيرة أفضل موظفة في "10 داونينغ ستريت"، وخروجها يشكل خسارة فادحة".
إشارة أخيراً إلى أن مقر رئاسة الوزراء أعلن عن تعيين النائب أندرو غريفيث بديلاً لميرزا، مع ملاحظة ورد فيها، "إننا نأسف جداً لمغادرة منيرة المقر، ونشعر بالامتنان لخدمتها وإسهاماتها في إطار الحكومة".
© The Independent