تواجه السلطة الحاكمة في لبنان تحدي الانسجام مع توجهات دولية تدعوها إلى التناغم مع قواعد بديهية في العلاقة بين البلد وسائر الدول الأخرى المعنية بأوضاعه، نظراً إلى أن أزمته السياسية والاقتصادية الخانقة تفرض مساعدته من قبل المجتمع الدولي، من جهة، لأن الواقع الجيو سياسي الذي يظلل تلك الأزمة يفرض فصل أزمته عن التوترات والحروب القائمة في المنطقة، ومن جهة ثانية، من أجل ضمان فعالية تلك المساعدة في انتشاله من حالة الانهيار والإفلاس التي أصابته.
المراهنة على تعديل ميزان القوى بالانتخابات
ويبدو من خلال التحركات الدولية الجارية باتجاه بيروت أن هناك تصاعداً للضغوط على السلطة الحاكمة كي تحزم أمرها وتعدل من توجهاتها التي سادت في السنوات الأخيرة وأسهمت في تدهور الأوضاع السياسية والمالية إلى حد غير مسبوق، فالسلطة في لبنان خاضعة لنفوذ "حزب الله" بنظر المجتمع الدولي، الذي يراهن على أن تعدل الانتخابات النيابية المقبلة في 15 مايو (أيار) موازين القوى، بحيث يتراجع خضوعها لهذا النفوذ ويشجع الدول الغربية والدول العربية على تقديم المساعدة للبنان، ولهذا السبب لا يخلو موقف دولي أو عربي من الدعوة إلى إجراء هذه الانتخابات في موعدها.
ترسيم الحدود ودور واشنطن
وبموازاة هذا الرهان، تسعى الولايات المتحدة إلى تأمين توافق لبناني داخلي على مبدأ ترسيم الحدود البحرية من خلال وساطتها بين لبنان وإسرائيل، وذلك لعدة أهداف، أهمها أن إنهاء النزاع حول ملكية حقول نفط في عرض البحر مع إسرائيل سيمكّن لبنان من أن يستثمر ثروة نفطية وغازية دفينة بحيث لا يتردد الدائنون في إعانته مالياً، إذ يستحيل تعافيه الاقتصادي من دون إقراضه مبالغ ضخمة تصل في مرحلة أولى إلى عشرة مليارات دولار. أي إن إنهاء النزاع على الحدود البحرية مع الدولة العبرية ينقل لبنان فعلياً إلى مستوى دولة نفطية تتطلع إلى الرخاء بعد التعثر، بحيث تتجنب السلطة الحاكمة فيه الدخول في نزاعات إقليمية تحول دون تحسين الأوضاع المعيشية فيه.
ولواشنطن أهداف أخرى من وراء لعب دور الوساطة في هذه المفاوضات، أهمها ضمان أمن إسرائيل التي قطعت شوطاً في استكشاف الغاز واستخراجه، وللحؤول دون أي ذريعة تؤدي إلى تطور النزاع إلى صدام عسكري تسعى واشنطن إلى تجنبه، هذا بالإضافة إلى أن المسؤولين الأميركيين عن قطاع الطاقة يخططون للعب دور رئيس في سوق الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي اعتقاد مراقبين أن مع أولوية إقرار السلطات اللبنانية موازنة عام 2022 لتسريع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والإصلاحات، كممر إلزامي لمساعدة لبنان، بات إجراء الانتخابات والدفع في اتجاه تسوية على الحدود البحرية، من الخطوات السياسية التي لا يبدو أن التسهيلات المالية ستُعطى للبنان من دونها.
التمهيد لمواكبة لبنان ما بعد فيينا
ويرى مراقبون أن المراهنة الدولية على حصول تغيير في موازين القوى في الانتخابات النيابية، وعلى التقدم في عملية ترسيم الحدود البحرية، قد تستند إلى قرب حصول تطورات في المنطقة تسمح بوضع لبنان على سكة التهدئة الإقليمية، في ظل مساعٍ دولية هادفة إلى مواكبة البلد تلك التطورات، في حال تم التوصل إلى اتفاق مؤقت على النووي في فيينا في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، ما ينعكس تفعيلاً للمفاوضات التي كانت بدأت قبل بضعة أشهر لمعالجة أزمات إقليمية، منها حرب اليمن.
وفي رأي هؤلاء المراقبين فإن تكثيف التحركات الدولية باتجاه لبنان والدعم الأميركي في الأسابيع الماضية للحملة العسكرية الهادفة إلى الحد من تصعيد الحوثيين في اليمن، يُرجَّح أن تهيئ لأرضية لا تسمح لإيران بأن تستغل أي اتفاق على الملف النووي، يشمل رفع بعض العقوبات عنها والإفراج عن بعض أرصدتها المالية، من أجل تثبيت المكاسب التي كانت حققتها بعد اتفاق عام 2015 على الخطة الشاملة المشتركة إبان إدارة الرئيس باراك أوباما. فهناك خشية من أن تستفيد طهران من رفع العقوبات لدعم أذرعها في عدد من ميادين الصراع، وتستبق بالتالي مطالبتها بأي تنازل عن تدخلاتها الإقليمية. وهذه الخشية هي التي تجعل معارضي اتفاق فيينا في الكونغرس الأميركي، الذين يتهمون الرئيس جو بايدن بالتساهل مع إيران، يتربصون بإمكان تقديمه تنازلات، ويصعّدون الحملة عليه، لإضعاف موقع حزبه في الانتخابات النصفية في الخريف المقبل.
خشية من الخارج ومن الراعي على الاستحقاق
لكن مخاوف عدة نشأت في الآونة الأخيرة من تأجيل الانتخابات النيابية في لبنان، على الرغم من أن هذا الاحتمال كان تراجع عندما حسمت الحكومة الأمر وحددت موعد عمليات الاقتراع قبل شهر، في 15 مايو.
ولم يكن عبثاً، على الرغم من الانشغال الدولي بأزمة روسيا وأوكرانيا، صدور مواقف متلاحقة تؤكد الإصرار على الانتخابات خارجياً وداخلياً، من أمين سر دولة الفاتيكان للعلاقات مع الدول، الأسقف بول ريتشارد غالاغر، ومجلس الأمن، والدبلوماسية الأميركية، حيث تقصدت السفيرة في بيروت دوروثي شيا القول إن "لا مجال للمناورة" من أجل تأجيل الانتخابات، وجولات ممثلي الأمم المتحدة على كبار المسؤولين للتشديد على إجرائها في موعدها، وأخيراً اجتماع وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بمساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى يائيل لامبرت، في الرياض، حيث جرى التطرق إلى الأوضاع اللبنانية، بعد اجتماعها إلى وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير وكان تشديد وفق تقارير دبلوماسية، على أولوية إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها. كما أن هذ ا الأمر هو أحد البنود الـ12 التي تضمنتها الورقة الخليجية التي قدمتها الكويت إلى لبنان في 24 يناير (كانون الثاني) الماضي.
لكن التحذيرات من أي نية لتأجيل الانتخابات كثرت على الصعيد المحلي أيضاً وأبرزها من البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الذي قال في عظته لقداس الأحد في 5 فبراير (شباط) الحالي، "من غير المقبول التلاعب بالموعد المحدد لإجراء الانتخابات النيابية في 15 أيار المقبل، وهي ضمانة للانتخابات الرئاسية في أكتوبر (تشرين الأول) الآتي. إننا نشجب كل محاولة لإرجاء الانتخابات باختلاق أسباب غير دستورية أو سواها تولّد عدم الثقة في نفوس اللبنانيين، فيتساءلون: هل ستُجرى انتخابات؟". وعاد الراعي فقال في عظته في 9 فبراير لمناسبة عيد "مار مارون" (شفيع الطائفة المارونية) وبحضور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، إن "الشعب يتطلع إلى إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية ليعبّر عن رغبته الوطنية فلا تخيبوا آماله". وقالت مصادر سياسية وثيقة الصلة بالراعي إنه يستند الى معطيات متجمعة من أكثر من مصدر داخلي وخارجي حول نية جدية لتطيير الاستحقاق الانتخابي أو بالحد الأدنى تأجيله، وإنه يتخوف من استهداف آخر لأسس الاستقرار اللبناني من البوابة الأمنية، أي بافتعال حوادث أمنية تفضي إلى التأجيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حزب الله" والأغلبية و"النفوذ" الأميركي
لم يكن الراعي وحده من وجه هذا التحذير بل رافقه سياسيون ونواب لا سيما من حزب "القوات اللبنانية"، وممثلون للمجتمع المدني. ومَنشأ هذا التحذير معطيات تتردد عن تداول بعض الأوساط إمكانية اللجوء إلى التمديد للبرلمان لمدة سنة، بحجة انتظار اتضاح الوضع الإقليمي. وصدرت تكهنات في بعض وسائل الإعلام عن أن هناك احتمالات عدة لإفشال الانتخابات، بحجج يمكن أن يستخدمها "حزب الله" في اللحظات الأخيرة، إذا وجد أنه لن يحصل على الأغلبية، على الرغم من أن قادته ونوابه يصرون على إجرائها ويتحدثون عن ثقتهم بأن الحزب وحلفاءه سيتمكنون من تأمين حضور وازن في البرلمان المقبل. وقال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في مقابلة تلفزيونية مساء الثلاثاء 8 فبراير، إن "الحديث عن خسارة الأكثرية فيه مبالغات"، وإن الحزب سيخوض الانتخابات تحت شعار "حماية المقاومة وتحصينها لأن هناك أناساً تقول علناً إن مشروعها الانتخابي تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة... ونحن دائماً بمعزل عن الأغلبية والأقلية، يهمنا كثيراً أن يكون هناك أصدقاء للمقاومة كثر في المجلس النيابي". كما أوضح أن "حضورنا في البرلمان له تأثير في انتخاب الرئيس وله تأثير في تكليف رئيس الحكومة وله تأثير في تشكيل الحكومة"، لكن اللافت أن نصر الله أشار إلى أنه مع "أن نكون واقعيين حتى تظهر الصورة بشكل أوضح"، داعياً إلى ترقب ما سيحدثه انسحاب "تيار المستقبل". واعتبر أن "الرهان على الأغلبية غير مجدٍ، لأنها لا تحدث تغييراً، فمثلاً انتخاب الرئيس يحتاج إلى أكثرية الثلثين"، لكن نصر الله شن هجوماً على السفيرة الأميركية دوروثي شيا، قائلاً إنها "تتحدث في وسائل الإعلام عن الانتخابات النيابية وتجري لقاءات مع قادة سياسيين وفي ختام اللقاء يخرجون بتصريحات أنهم تحدثوا عن الانتخابات، ووفود من السفارة الأميركية تجول في البلد وتتدخل في موضوع الانتخابات". وركّز نصر الله على تبرئة الحزب من تهمة أنه "إيراني"، مشدداً على لبنانيته. ومقابل رده على مقولة "الاحتلال الإيراني للبنان"، نفى أن يكون هناك احتلال أميركي للبلد بل "نفوذ" مالي واقتصادي وأمني، داعياً إلى مواجهته. ولم يوفر الجيش اللبناني من انتقاداته، مشيراً إلى أن "السفيرة الأميركية لاصقة بقيادة الجيش وكذلك الضباط الأميركيين في وزارة الدفاع، والله أعلم إلى أي مستوى يتدخلون في المؤسسة العسكرية اللبنانية".
ترسيم الحدود البحرية
أما على مستوى التفاوض على الحدود البحرية، فإن زيارة كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية لأمن الطاقة، الوسيط بين لبنان وإسرائيل، آيموس هوكستين إلى بيروت في 8 و9 فبراير حملت أفكاراً جديدة لمعالجة النزاع حول المساحة المتنازع عليها. وقال هوكستين إن "هناك فرصة اليوم وقلصنا الثغرات في ترسيم الحدود البحرية ويمكننا التوصل إلى اتفاق"، لكنه لفت إلى "أننا لسنا نحن مَن نبرم الاتفاق وعلى لبنان وإسرائيل أن يقررا القيام بذلك". ولمّح إلى أنه ينقل "أخباراً جيدة" من إسرائيل، في موقف أدلى به خلال ندوة عن الطاقة شارك فيها فور وصوله. وأكدت مصادر رسمية أن هوكستين انطلق في الأفكار التي تداولها مع الجانب الإسرائيلي وعرضها على عون وبري وميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب وقائد الجيش العماد جوزيف عون، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، من تحديد المنطقة المتنازَع عليها مع إسرائيل ضمن الخط البحري 23 وليس الخط 29، كما أوحى بذلك فريق الرئيس عون في الرسالة التي بعث بها إلى الأمم المتحدة الشهر الماضي. وأبلغ قائد الجيش الموفد الأميركي أن الجيش يلتزم الحدود التي تقررها السلطة السياسية. وهو موقف يزيل من يد الرئاسة أي حجة بأن الخط 29 وضعه الجيش، فيما تقول مصادر متعددة إن الرئيس عون هو مَن طلب من الوفد العسكري المفاوض أن يتبنى هذا الخط في عام 2020.
لحظة "سد الفجوات"
وفيما أكد الرئيس عون بعد لقاء هوكستين "استعداد لبنان للبحث في النقاط التي طرحها ليتم استكمالها لاحقاً"، أوضح ميقاتي أنه سيتداول فيها مع رئيسَي الجمهورية والبرلمان. لكن السفارة الأميركية حرصت على تأكيد أن الوسيط الأميركي "أجرى نقاشاً إيجابيّاً مع الرئيس بري حول أفضل السبل للمضي قدماً في موضوع الحدود البحرية في سياق الإطار المتَّفق عليه". وهو تأكيد الانطلاق من الخط 23 الذي كان بري استند إليه في خريف 2020 في الإعلان عن إطلاق المفاوضات غير المباشرة مع الجانب الإسرائيلي، والذي عاد عون وعدله.