تلقّى العاملون في "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية" Natural Resources Defence Council (NRDC)، وهو مجموعة أميركية تدافع عن البيئة، معلومات عن هبوب عاصفة قريبة. غير أن العاصفة ليست بالمعنى المجرّد للكلمة، إنما هي عاصفة من الجدل تلوح في الأفق.
فقد كان المحامي الذي يعمل للمجموعة وهو روبرت فيتزجيرالد كينيدي جونيور، نجل السيناتور الأميركي الراحل روبرت فيتزجيرالد كينيدي، وابن شقيق الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي، وكلاهما قضيا في عمليتي اغتيال، يتهيأ لنشر مقال في مجلة "رولينغ ستون".
ففي هذا المقال الشائن - الذي تم التراجع عنه مرات عدة - وجاء تحت عنوان "المناعة القاتلة" Deadly Immunity، كرر كينيدي الادعاء الكاذب والفاضح بوجود صلة بين مادة "ثايميروسال" Thimerosal وهي مركّب من الزئبق تُستخدم مادة حافظة في اللقاحات، ومرض التوحد في مرحلة الطفولة.
ولم يقتصر كلامه على ذلك فحسب، فقد زعم روبرت كينيدي جونيور، الذي كان يُعتبر حتى ذلك الحين من دعاة حماية البيئة المحترمين، أن الحكومة الأميركية "تواطأت مع شركات الأدوية الكبرى لإخفاء مخاطر مادة ثايميروسال عن الناس".
جينا سولومون التي تولّت وظيفة عالمة رئيسة في "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية" لنحو 16 عاماً، أوضحت أن المؤسسة تلقّت مسودة المقال قدّمها لها كينيدي. وبمجرد قراءتها، قالت إنها شعرت بقلق على الفور من أنه إذا تم نشر المقال، فيتعيّن على مجموعة NRDC أن تكون مستعدة للردّ.
وأضافت متحدثة من مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا: "أتذكّر أنه كان هناك بعض الأخذ والرد، وأدركتُ أنه لن يكون في إمكاني إقناعه بتغيير ما كان يقوله". وتابعت: "حاولتُ أن أقارعه بالحجج العلمية، لكن سرعان ما أدركتُ أنه لا توجد طريقة لإقناعه بأن الحقائق التي يستند إليها كانت خاطئة".
حالة الهلع التي أحدثها المقال داخل أروقة "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية"، التي يتم الحديث عنها هنا للمرة الأولى، كانت نقطة فاصلة تمثلت في تحوّل تصور الناس لآراء كينيدي إلى خوف وقلق متعاظمين.
وحاولت مجموعة "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية" لأعوام عدة التوفيق بطريقة ما بين فوائد الارتباط بهذه الشخصية البارزة - ليس أقل تلك الفوائد قدرته على جمع التبرعات - وآرائه المتطرفة على نحو متزايد.
مجلة "رولينغ ستون" والموقع الإخباري "صالون" Salon اللذان نشرا المقال في وقت متزامن، أصدرا سلسلة من التوضيحات، منها خمسة تصحيحات قبل إزالته بالكامل في وقت لاحق. وكتبت في حينه رئيسة التحرير جوان والش: "يؤسفني أننا لم نتحرّك بسرعة أكبر في هذا الأمر، خصوصاً مع تواصل ظهور الأدلة التي تكشف زيف الربط بين اللقاحات والتوحّد".
وعلى الرغم من مبادرة موقع "صالون" ودورية "رولينغ ستون" لمعالجة أي ضرر قد وقع، فإن روبرت كينيدي جونيور، البالغ من العمر الآن 68 سنة، لم يعتمد التصرف ذاته، بل لجأ بدلاً من ذلك إلى مضاعفة تأكيداته بوجود صلة بين التوحّد واللقاحات.
وكان نشر عام 2014 كتاباً بعنوان": "ثايميروسال": دع العلم يتكلم: الدليل الذي يدعم ضرورة القيام بإزالة فورية للزئبق - السم المعروف للجهاز العصبي – من تركيبة اللقاحات" Thimerosal: Let the Science Speak: The Evidence Supporting the Immediate Removal of Mercury – a Known Neurotoxin – from Vaccines.
إحدى المدونات التي كشفت زيف محتوى كتاب كينيدي، وتعود إلى ديبورا بايلن التي كانت آنذاك عضواً في اتحاد العلماء Union of Concerned Scientists، قالت إنه "يغص بحقائق محرّفة وبتشويهات للأبحاث التي من شأنها أن تؤثّر في الناس - الذين يكونون غالباً الأكثر جدّية في البحث عن المعلومات - وتبعدهم عن العلم".
"مراكز السيطرة على الأمراض" Centers for Disease Control (CDC) ، وهي منظمة صحية بارزة تابعة لحكومة الولايات المتحدة، تقول في قسم على موقعها الإلكتروني يتعلق بسلامة اللقاحات، عن المزاعم بوجود صلة بين اللقاحات و"اضطراب طيف التوحّد" Autism spectrum disorder (ASD)، إن مادة "ثايميروسال" وهي مادة حافظة تقوم على الزئبق، تُستخدم لمنع الجراثيم (مثل البكتيريا والفطريات) من تلويث قوارير اللقاحات متعددة الجرعة".
وتضيف أن "الأبحاث تظهر أن ثايميروسال لا يسبّب الإصابة بـاضطراب طيف التوحّد"... وفي الواقع، خلصت مراجعة علمية أجرتها عام 2004 "الأكاديمية الوطنية للطب" National Academy of Medicine إلى أن "الدليل يميل إلى رفض أي علاقة سببية بين اللقاحات المحتوية على مادة ثايميروسال والتوحّد".
ومع تفشّي جائحة "كوفيد - 19"، وسعي الدول في مختلف أنحاء العالم إلى طرح لقاحات لمواجهة مرض أودى بحياة 5 ملايين و600 ألف شخص على الأقل على مستوى العالم، سعى كينيدي إلى توسيع هدفه، بحيث رأى في برامج التطعيم وفي الدعوات إلى إلزامية أخذ اللقاحات، جهداً للسيطرة على الناس. (وعلى الرغم من توافر اللقاحات على نطاق واسع في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فقد تم تحصين 63 في المئة فقط من سكان البلاد تلقيحاً كاملا، ويتوزع المشككون في نجاعة اللقاحات على كل من اليسار واليمين).
وفي أثناء حدث في كاليفورنيا العام الماضي نظمته حركة "الحرية الصحية" Health Freedom (تحالف يعارض تنظيم الممارسات الصحية ويدعو إلى زيادة الوصول إلى الرعاية الصحية غير التقليدية)، خاطب كينيدي الحشد قائلاً بتهكّم إن "الديمقراطيين" تناولوا مشروب "كول إيد" Kool aid (بمعنى أنهم يصدقون ما يُقال لهم بشكل أعمى من دون التفكير في ما إذا كان جيداً أو سيّئاً). وزعم أن "إعطاء طفل أحد هذه اللقاحات يُعدّ ممارسة طبية سيّئة على نحو إجرامي".
كينيدي المصاب بخلل النطق التشنجي، وهو اضطراب في الصوت يؤدي إلى تقلصات لا إرادية في عضلات الحنجرة، هاجم الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية" National Institute of Allergy and Infectious Diseases ومستشار الرئيس الأميركي جو بايدن.
وحمل في كتاب نشرته له العام الماضي دار "سايمون أند شوستر" بعنوان "أنطوني فاوتشي على حقيقته: بيل غيتس، شركات الأدوية العملاقة، الأمراض المعدية، والحرب العالمية على الديمقراطية والصحة العامة" The Real Anthony Fauci: Bill Gates, Big Pharma, and the Global War on Democracy and Public Health، على كل من فاوتشي وبيل غيتس، زاعماً أنهما يديران "كارتيلاً".
ويشير وصف للكتاب على الموقع الإلكتروني لدار "سايمون أند شوستر" للنشر، إلى أنه "يشرح بالتفصيل كيف يستخدم فاوتشي وغيتس وأتباعهما السيطرة على وسائل الإعلام والمجلات العلمية والوكالات الحكومية وشبه الحكومية الرئيسة ووكالات الاستخبارات العالمية والعلماء المؤثرين والأطباء، لإغراق الناس بدعاية مخيفة عن ضراوة فيروس كوفيد - 19 وتطوّره لجهة نشر العدوى، ووضع حدّ للنقاش وفرض رقابة لا ترحم على أي معارضة".
وكان "مركز مكافحة الكراهية الرقمية" Center for Countering Digital Hate (منظمة تقوم بحملات لدى شركات التكنولوجيا الكبرى لوقف تقديم خدماتها إلى الذين يروّجون للكراهية والمعلومات الخاطئة) قد صنف في العام الماضي روبرت كينيدي جونيور بأنه أحد "12 مروّجاً للمعلومات المضللة"، قائلاً إنه ومجموعة "الدفاع عن صحة الأطفال" Children’s Health Defense التي يقودها، كانا من بين أكبر ناشري المعلومات الخاطئة عن اللقاحات عبر الإنترنت. وقالت المنظمة إن هؤلاء الأشخاص الـ12 كانوا مسؤولين عن نشر ما يصل إلى 65 في المئة من المعلومات المضللة.
تجدر الإشارة إلى أن كينيدي محظور من استخدام شبكة "إنستغرام" المملوكة لموقع "فيسبوك". لكن ما زال لديه حساب على محرك "تويتر"، يحظى بنحو 400 ألف متابع.
وأطلق كينيدي أخيراً موجة جديدة من الاحتجاج، عندما بدا وكأنه يلمّح إلى أن محاولات الفرض الإلزامي للتطعيم باللقاح في الولايات المتحدة، كانت أسوأ مما حدث في ألمانيا النازية.
وقال في إحدى الفعاليات: "حتى خلال حكم هتلر لألمانيا، كنتَ تستطيع عبور جبال الألب والهرب إلى سويسرا، وكان يمكنك الاختباء في علّية كما فعلت آن فرانك". ومن بين المتحدثين الآخرين خلال ذلك الحدث، كان هناك الدكتور روبرت مالون، وهو أيضاً ناشط بارز في الحملات المناهضة للقاحات، وقد أدت تعليقاته الأخيرة ضمن "بودكاست جو روغان"، إلى صدور دعوات طالبت خدمة الموسيقى والبودكاست "سبوتيفاي" بوقف البرنامج.
وأضاف: "اليوم، يُجرى وضع الآليات التي من شأنها أن تجعل أيّاً منّا في وضع لا يمكنه معه الفرار، أو الاختباء".
تعليقاته هذه، التي قدّم في وقت لاحقاً اعتذاراً عنها، أثارت حالاً من الغضب. فقد رأت إدارة "النصب التذكاري لأوشفيتز" Auschwitz Memorial أن "استغلال مأساة الأشخاص الذين عانوا، وتعرّضوا لإذلال وتعذيب وقتل على يد النظام الشمولي لألمانيا النازية - بمَن فيهم الأطفال مثل آن فرانك - في نقاش يتعلّق باللقاحات والقيود أثناء وباء عالمي، هو أمر محزن، ويُعدّ من ظواهر الانحلال الأخلاقي والفكري".
زوجة كينيدي، تشيريل هاينز الممثلة في فيلم "اكبح حماسك" Curb Your Enthusiasm ، قالت في تصريح لها: "إن استشهاد زوجي بمثل آن فرانك خلال أحد التجمعات في العاصمة، هو أمر مستهجن، ولا يراعي مشاعر الآخرين. الفظائع التي تعرّض لها ملايين الناس خلال الهولوكوست، غير قابلة على الإطلاق للمقارنة بأي شخص أو أي شيء آخر. إن آراءه لا تمثلني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتؤدي هاينز في الفيلم دور زوجة لاري ديفيد، التي طالت معاناتها وتبرّعت لقضايا نبيلة مختلفة، بما فيها تلك التي ينشط فيها "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية".
وفي مقابلة قصيرة مع "اندنبدنت"، أكد كينيدي أنه لم يسعَ أبداً إلى مقارنة أي شخص بهتلر أو بالنازيين. وقال: "كنت أوضح نقطة مفادها أن التكنولوجيا الحديثة تؤدي إلى قيام أنظمة شمولية، وأعطيتُ أمثلة عدة على ذلك. وهي نقطة مختلفة تماماً".
وفيما ألمح إلى أن لا وقت لديه للاستفاضة في هذا الموضوع، أضاف قائلاً: "لقد اعتذرتُ أيضاً عن إشارتي إلى آن فرانك، لكنني لم أقارن أبداً أي شخص بالنازيين".
"مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية" لم يردّ على الاستفسارات. ولم تجِب منظمة كينيدي من جانبها عن أسئلة تتعلّق بآرائه في اللقاحات أو عن المزاعم التي تقول إنه كان ينشر معلومات مضللة.
يُشار إلى أن تعليقات هاينز وهي الزوجة الثالثة لكينيدي، ليست الأولى التي تصدر عن أفراد من عائلته، سعوا إلى النأي بأنفسهم عنه.
ففي عام 2019، كتب ثلاثة من أقاربه البارزين، هم: كاثلين كينيدي تاونسند وجوزيف بي كينيدي الثان، ومايف كينيدي ماكين، في مقال رأي نشرته "بوليتيكو"، يقولون فيه إنهم أحبّوا كينيدي، "لكنه جزء من حملة معلومات مضللة عواقبها مفجعة ومميتة. إن هذه الأرقام المأساوية ناتجة من تزايد الخوف وانعدام الثقة باللقاحات، التي يضخّمها المتشائمون على الإنترنت. إن روبرت فيتزجيرالد كينيدي جونيور - شقيق جو وكاثلين وعم مايف - هو جزءٌ من هذه الحملة التي تستهدف مهاجمة مؤسسات ملتزمة الحد من مأساة الأمراض المعدية التي يمكن الوقاية منها".
وأضافوا: "لقد أسهم في نشر معلومات مضللة خطيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو متواطئ في بث ما يؤدي إلى انعدام الثقة بالعلم الذي يقف وراء اللقاحات".
ويزعم عدد من الناشطين البارزين في مجال مناهضة اللقاحات أن انتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أعطى دفعاً لقضيتهم، بعدما ادّعى زوراً نحو 20 مرة أن هناك صلة بين التوحّد واللقاحات.
وكان قبل الفوز بالانتخابات، التقى بأربعة ناشطين مناهضين للتطعيمات، منهم الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد، الذي تم شطبه من سجل "المجلس الطبي العام في المملكة المتحدة" UK General Medical Council بعد نشر مقال ضار وبالغ التأثير في مجلة "لانسيت" الطبية في فبراير (شباط) عام 1998، أكد فيه خطأ أن هناك صلة بين التوحّد ولقاح MMR الذي يقي من الحصبة وعدوى النكاف والحصبة الألمانية.
وبعد فوز دونالد ترمب بالرئاسة، أجرى البيت الأبيض محادثات أيضاً مع كينيدي، وبدا لفترة من الوقت أنه كانت هناك نية لتعيينه رئيساً للجنة للتحقيق في مخاطر اللقاحات المزعومة. (هناك عدد لا يحصى من الدراسات التي تشهد بالفعل على سلامة وفاعلية التطعيمات).
ويرى خبراء في هذا الإطار أنه بالطريقة ذاتها التي ساعد انتخاب ترمب الحركة المناهضة للقاحات، فقد فعل الوباء أيضاً.
إيمي بيساني، الرئيسة التنفيذية لمجموعة الدفاع عن اللقاحات "طعّم عائلتك" Vaccinate Your Family، قالت إن كينيدي بات أكثر خطورة ممّا كان عليه قبل نحو عقد من الزمن، لأن موقفه حقّق له جمهوراً جديداً. وأشارت إلى أن منظمته جنت ملايين الأموال خلال فترة الوباء، وهذا مثال آخر على استخدامه لعامل الصدمة من أجل "جني الثروات".
وأضافت: "إن اعتماد سردية مماثلة يشكل أمراً خطيراً للغاية، نظراً إلى أن الأشخاص غير المعتادين على مثل هذه الأمور بسبب الوباء - وهم أشخاص لم يواكبوا سيرة كينيدي طيلة هذه الأعوام، ولا يدركون حقيقة أن الأسرة لا تتفق معه في الرأي، وأن هذا الخطاب خاطئ تماماً - إنما يمكن التلاعب بهم بسهولة لجهة الاعتقاد بأن عناصر نظرية المؤامرة هذه صحيحة".
وخلصت بيساني إلى القول: "لهذا السبب، أرى أن الأمر أصبح الآن أشدّ خطورة بكثير مما كان عليه قبل 10 أعوام".
© The Independent