مع تعطل العالم عن العمل الطبيعي وسط وباء كوفيد-19، يتسابق العلماء في دول عدة على إنتاج لقاح فاعل للمرض. حتى أنه جرى الكلام على أن عمليات الإغلاق الصارمة التي يتم تنفيذها في البلدان على امتداد الكوكب قد لا يتم رفعها في بعض الأماكن حتى يصبح هذا اللقاح متاحاً.
ويشكل الأمل الذي وضعته الحكومات في اللقاحات تناقضاً حاداً لدى ما تُسمى حركة "مكافحة التلقيح" التي ترسخت إلى حد كبير في الغرب، في الأعوام الأخيرة. وعلى الرغم من أن اللقاحات من ضمن التدخلات الأكثر نجاحاً للرعاية الصحية في تاريخ البشرية، فإن أقليةً جهورية خاصة تواصل التشكيك في سلامتها وفاعليتها وضرورتها، وفي منطقها في كثير من الأحيان.
وتضم الحركة المناهضة للتلقيح في صفوفها وجوهاً مؤيدة بارزة عالمياً، بمَن فيها لاعب التنس نوفاك ديوكوفيتش الذي أكد هذا الأسبوع أنه "يعارض التطعيم"، والمغنية ميا التي كانت قد قالت أخيراً، "إذا اضطُررتُ إلى الاختيار بين اللقاح والرقاقة، فسأختار الموت".
وكان دونالد ترمب قد غرد عبر حسابه على "تويتر" في وقتٍ سابق عن علاقةٍ مزعومة لم تُثبت علمياً، ما بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية MMR ومرض التوحد، على الرغم من أنه قام منذ ذلك الحين بتغيير علني لموقفه، من خلال الحض على العمل بشكل أسرع، و"الوصول الحصري" للولايات المتحدة إلى لقاح فعال للمرض.
أما الآن، ومع وجود أكثر من مليونين و500 ألف شخص حول العالم أصيبوا بفيروس كورونا في مقابل وفاة أكثر من 170 ألفاً منهم، لاحظ خبراء أن بعض معارضي التلقيح على الأقل، يعيدون التفكير مرةً ثانية في موقفهم من الموضوع. لكن في المقابل، دفع الوباء بمناهضي التطعيم الآخرين إلى أن يصبحوا أكثر حماسةً لوجهات نظرهم، وأشد مغالاةً في التشكيك في الحلول.
هايدي لارسون، مؤسسة "مشروع الثقة في اللقاحات" Vaccine Confidence Project، التي تتخذ من لندن مقراً لها، قالت لـ"اندبندنت"، "بالنسبة إلى الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر عميقة، أعتقد أن هذا الوضع جعلها أعمق".
وتقدم أبحاث لارسون، التي تتضمن تحليل ملايين المواد المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي يومياً، نظرةً ثاقبة إلى الطريقة التي قد يكون الناس تأثروا فيها بالوباء.
وتضيف، "بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يمكنهم حسم قرارهم، الذين يرون أن ذلك يشكل تهديداً حقيقياً، فإنهم يريدون اللقاح. لكن الاختلاف الكبير هو أنه يشكل تهديداً حقيقياً في العمق وملموساً في ما يتعلق بالأمراض، في حين أن الكثير من لقاحات أمراض الطفولة التي يمنعها الأهل عن أبنائهم، تبقى أقل وضوحاً بالنسبة إليهم".
وتشير لارسون إلى أن "هذا لا يفيد مع كوفيد-19، فالمرض يشكل تهديداً حقيقياً. وبالنسبة إلى أولئك الذين يقيسون أي خطر من اللقاح في مقابل الخطر المتأتي من المرض، فإن المعادلة مختلفة تماماً مع كورونا".
ويتعاظم القلق من المواقف السلبية من اللقاحات، بحيث أبلغت هيئات الخدمات الصحية في عددٍ من الدول، عن أنماطٍ مقلقة في انخفاض تلقي التطعيمات في الأعوام الأخيرة.
وقد حددت "منظمة الصحة العالمية"، ظاهرة "تردد الأفراد في أخذ اللقاحات"، بأنها كانت من بين التهديدات العشرة الأولى للصحة العالمية خلال العام الماضي، وسط زيادة بين المترددين بنسبة 30 في المئة في حالات أمراض الحصبة. ومن أجل السيطرة على مرض مثل الحصبة، يجب أن يحصل السكان على مناعة قطيع تتطلب تلقيح ما لا يقل عن 90 إلى 95 في المئة من السكان ضد المرض.
وبحسب أرقام هيئة "خدمات الصحة الوطنية" في المملكة المتحدة NHS، لم تتمكن خلال العام الماضي سوى 33 سلطة محلية من أصل 149 من تحقيق هدفها تطعيم السكان بنسبة 95 في المئة ضد الأمراض التي يمكن الوقاية منها بالتحصين. هذا الأمر أدى إلى فقدان بريطانيا وضعها الخالي من الحصبة، وهو اللقب الذي كانت قد منحتها إياه "منظمة الصحة العالمية".
وفي المقابل، سجلت الولايات المتحدة العام الماضي، أكبر عدد من حالات الإصابة بالحصبة منذ عام 1992. وكانت تلك الإصابات هذه في معظمها بين الأشخاص الذين لم يتم تطعيمهم. أما في البلدان الأوروبية، لا سيما منها فرنسا وسويسرا، فيقل الاعتقاد بنجاعة اللقاحات. وقد تكون هذه أنباء سيئة وسط مخاطر وباء فيروس كورونا.
وتقول هايدي لارسون، "نرى أن بعض الدول التي يوجد فيها مزيد من الشك حيال اللقاحات بشكل عام، هي البلدان نفسها التي رأينا أن لديها رغبةً أقل في إيجاد لقاح لعدوى كوفيد-19. لذا يمكن أن يكون هناك بعض التطابق. ففي سويسرا على سبيل المثال، أكد نحو 20 في المئة من الناس أنهم لن يأخذوا اللقاح المضاد لـكوفيد-19".
وأوضحت أن "في المملكة المتحدة، قال نحو 7 في المئة من الأشخاص في نهاية مارس (آذار) الماضي، إنهم لن يأخذوا اللقاح. لكن هذه النسبة انخفضت إلى 5 في المئة. إنها كمية صغيرة، لكن الاتجاه يشير إلى أن الناس ربما كانوا أكثر وعياً بهذا الأمر ويفكرون في أنه "نعم، ربما سآخذ اللقاح بعد كل شيء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير ديفيد روبرت غرايمز، الباحث في مجال السرطان والمؤلف الذي يكتب عن التفكير النقدي، إلى أن "مرض كوفيد-19 هو تذكير مؤلم بما يحدث عندما لا يكون لدينا لقاح، وعدو للرضا عن الذات". واستبعد أيضاً أن يغير عتاة المتشددين في عدائهم للقاحات موقفهم، في ظل الوباء الراهن.
واعتبر في حديثٍ مع "اندبندنت"، أن "من الأهمية بمكان ملاحظة أن المرض لن يغير العقلية المتجذرة المضادة للقاحات، فهي موجودة منذ أيام العالم جينير (مكتشف لقاح الجدري). إن موقف أصحابها هو تعبير عن الوجود أكثر منه اعتماداً للمنطق، ولا يمكنك أن تعقلن أشخاصاً هم خارج الموقف السليم ولم يقوموا أبداً بعقلنة أنفسهم في المقام الأول. إنهم في الواقع يدعون أن داء كوفيد-19 هو خدعة، أو عملية احتيال لبيع مزيد من اللقاحات".
وحذر غرايمز من الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة التي تثيرها هذه الجماعات، التي يمكن أن تثير الشكوك، بحيث يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بالناس إذا ما عاد الفيروس.
ورأى أن هذا يمكن أن يحدث "بعد سنوات، عندما يتلاشى الرعب المذل الناجم عن فيروس كورونا إلى حد ما". وتوقع أن "يواصل هؤلاء نشر الأكاذيب التي تتباطأ أو تنمو وفقاً لمنحى الرضا عن النفس لديهم، كما رأينا في الماضي. ويمكن لهذه الروايات الخيالية أن تذهب أبعد من ذلك بكثير، بحيث قد تسبب ضرراً جسيماً".
قد تكون إحدى أهم الأدوات التي تمتلكها السلطات في الدول في الوقت الراهن، هي تهدئة شكوك الناس قبل وقوع مزيدٍ من الضرر. على سبيل المثال، في عام 2017، كان للشائعة التي تقول بأن التطعيم يتسبب في عجزٍ جنسي للأفراد، تأثيرٌ كبير في حملة التلقيح التي أجرتها الحكومة الهندية من أجل تطعيم الناس ضد نوعٍ جديد من الحصبة والحصبة الألمانية، في خمس ولايات داخل البلاد.
وتوضح لارسون، أن أحد أهم الأمور التي ينظر فيها "مشروع الثقة في اللقاحات" الذي تديره، هو الأسئلة والمخاوف الناشئة من إيجاد لقاح محتمل لمرض كوفيد-19. ويمكن أن يحول تزويد الأشخاص القلقين بإجابات على مخاوفهم، من دون انتشار الشكوك التي لا أساس لها من الصحة، على نطاق واسع.
تختم قولها، "إن الأمر لا يتعلق بالحكم على الناس، بل بفهم مخاوفهم. وأحد المخاوف التي تظهر بعض الشيء، وهو ليس مستغرباً، أن اللقاح لن يتم إيجاده سريعاً، ولا يمكن أن يكون آمناً. وقد سمعنا هذا الكلام أيضاً في السابق عن لقاح H1N1 (عام 2009)، وكان أحد أسباب عدم تناوله من قبل بعض الناس".
© The Independent