في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تصدّرت الفنانة المصرية الراحلة كريمة مختار حملة واسعة، تدعو المصريين إلى تنظيم الأسرة، مركزة على النساء في الريف، وقدمت أسلوب توعية خاصاً باستخدام وسائل منع الحمل.
ولم تتوقف الحملات المصرية التي تدعو إلى تحديد النسل على مدار عقود ماضية، والتي يرجع تاريخها إلى ما قبل الثمانينيات كثيراً، إذ جرى تأسيس "المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة" عام 1965، كأول إطار تنظيمي حكومي، كما خرجت أول فتوى بإجازة استخدام وسائل تنظيم النسل عام 1938، التي أصدرها مفتي الديار المصرية آنذاك عبد المجيد سليم البشري.
"الراجل مش بس بكلمته" للفنان أحمد ماهر، و"الخلفة الكتير تهدّ حيلك"، وأغنية "حسنين ومحمدين" للفنانة فاطمة عيد، وإعلان "أبو شنب" للفنان أكرم حسني، كانت جميعها حملات إعلامية كجزء من جهود رسمية تدعو إلى تنظيم الأسرة في مصر على مدار عقود طويلة.
اختلفت الطريقة ونمط الرسالة، وتوارد عليها عدد من الفنانين أصحاب الشعبية في الحضر والريف، واتفقت جميعها على الحاجة إلى تقليل معدل الخصوبة (عدد الولادات لكل امرأة)، وسط تنامي مطّرد في عدد السكان لا تتماشى معه وتيرة التنمية.
لكن، على الرغم من تحقيق هامش إيجابي ضيق للغاية أحياناً، غلبت النتائج السلبية في المعظم، ليصل معدل الخصوبة حالياً إلى 3.4 طفل لكل امرأة، ما دفع البرلمان أخيراً إلى مناقشة مشروع قانون لتنظيم النسل، ينص على تقليص الدعم الحكومي للأسرة التي لديها أكثر من طفلين.
طفرة مهولة وقوانين صارمة
لا يبدو أن الحملات المجتمعية والإعلامية ستكون كافية في مواجهة تنامي معدل المواليد في مصر خلال الأعوام القليلة الماضية، إذ تشير التوقعات إلى سيناريوهات أسوأ ربما تستلزم تدخلاً حكومياً صارماً. ففي حين تضاعف عدد المصريين أربع مرات تقريباً عام 1960، تحمل المؤشرات تضاعفاً مرة أخرى بحلول عام 2050، ما يهدد خطط التنمية الطموحة وسط محدودية موارد الدولة، التي يتجاوز عدد سكانها 100 مليون نسمة.
في ظل السيناريو الأكثر تفاؤلاً، تستهدف الحكومة المصرية خفض معدل الخصوبة إلى 2.11 بحلول 2032، مع استمرار خفض المعدل، ليصل إلى 1.65 بحلول 2052. غير أنه وفقاً لتقديرات نشرتها وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، فإنه في حال وقوع أسوأ سيناريو، وهو استمرار معدل الخصوبة عند 2.1 بحلول عام 2052، سيعني ذلك وصول عدد سكان مصر إلى 191.3 مليون نسمة، وهي زيادة تساوي عدد سكان كندا والسعودية والبرتغال مجتمعين.
وفي حين أن حجم الأسرة المصرية آخذ في الانخفاض منذ عقود، إلا أنه لا يزال مرتفعاً بشكل خطير في بلد يعيش فيه نصف السكان حول خط الفقر أو تحته. فمصر هي الأكثر سكاناً في العالم العربي، وتكافح الدولة لخلق فرص عمل للشباب، بخاصة أن ما يقرب من نصف المصريين دون عمر 25 سنة.
ومراراً، تناول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذه القضية في خطاباته العامة. ففي عام 2018 خلال المؤتمر الوطني للشباب، دعا الآباء والأمهات للاكتفاء بإنجاب طفلين وضرورة دراسة قرار الإنجاب وتبعاته على تعليم ورعاية الأبناء، قائلاً "فين (أين) الرعاية لمّا يكون عندك 4 أو 5 أطفال".
وكرر السيسي تحذيراته في لقاءات لاحقة، منبّهاً إلى خطورة الزيادة السكانية والتهامها معدلات التنمية، إذ أشار في فبراير (شباط) 2021، إلى أن مصر بحاجة إلى نحو تريليون دولار لتتناسب مع الزيادة السكانية وتحسين الحالة المعيشية، كما تحتاج إلى أكثر من 5.6 مليار دولار لتوفير فرص عمل لـ900 ألف شخص سنوياً.
لكن مع استمرار زيادة معدل المواليد، لجأ البرلمان المصري أخيراً إلى تشريع بخفض قيمة الدعم والخدمات إلى 50 في المئة للطفل الثالث، بينما يجري حرمان الطفل الرابع وما زاد من أي خدمات مجانية أو مدعومة، وهو التشريع الذي لا يزال ينتظر التصويت ورأي المؤسسات الدينية. وقد خفضت الحكومة بالفعل الدعم الذي يستنفد نحو 17.5 في المئة من الإنفاق السنوي لمصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استثمار الأطفال
بحسب مشروع "حلول للسياسات البديلة" التابع للجامعة الأميركية في القاهرة، فإنه على الرغم من استقرار معدل الخصوبة في مصر عام 2018 عند 3.1 مقارنة بـ3.5 عام 2014، إلا أن هذا المعدل ما زال دون المأمول المخطط من الحكومة، وهو الوصول إلى 2.4.
كما أن هذا المعدل المرتفع على الرغم من استقراره، جاء مصحوباً بانخفاض في معدل انتشار وسائل منع الحمل التي تراجعت إلى 58.5 في المئة عام 2014، بعدما وصلت إلى أعلى معدل لها في 2008، وفقاً للمسح الديموغرافي والصحي المصري.
وفي تصريحات سابقة لوزيرة التخطيط هالة السعيد، قالت إنه إذا ظل معدل المواليد عند مستواه الحالي حتى عام 2050، فستحتاج الحكومة إلى أربعة أضعاف القدرات الحالية لتوفير التعليم المجاني وزيادة الخدمات الصحية، بمقدار تسعة أضعاف عن المستويات الحالية.
ووفقاً لـ "بلومبيرغ"، فإن هذه المعدلات في المواليد تتطلب معدلات نمو اقتصادي أعلى كثيراً من التوسعات المتوقعة البالغة 6 في المئة في السنة المالية 2024 – 2025.
ليس من السهل كبح النمو السكاني في بلد يُنظر فيه إلى الأطفال على أنهم "خير"، ويتم إنجابهم استناداً إلى ثقافة المثل الشعبي الرائج "كلّ عيّل بيجي برزقه".
وعملياً، يشير مشروع "حلول السياسات البديلة" إلى أن الفئات الأكثر فقراً تنظر إلى الأطفال على أنهم "استثمار"، إذ تعتمد على شبكات الأمان الاجتماعي غير الرسمية التي تتمثل في أعضاء الأسرة، (الأطفال)، كمعيلين، وهو ما يقف وراء ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في مصر، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 1.8 مليون طفل يشاركون في سوق العمل غير الرسمية.
معادلة معقدة
تقول ميريت فاروق، زميلة ومديرة برنامج مصر لدى معهد الشرق الأوسط، مركز أبحاث في واشنطن، إن مصر تواجه معادلة معقدة للغاية في هذه القضية، التي تخلق اثنين من القضايا الأكثر إثارة للقلق، وهما التوظيف وتخصيص الموارد. فبطبيعة الحال، ترتبط سوق العمل ارتباطاً وثيقاً بالموارد التي تتأثر بشكل مباشر وغير مباشر بالنمو السكاني.
وليس خفياً أن "الزراعة" التي تُعدّ واحدة من المجالات الرئيسة والتي تعتمد عليها مصر في سوق العمل، تتعرض لتهديد خطير جراء تغيّر المناخ والتحديات التي من صنع الإنسان (مثل البناء على الأراضي الزراعية وسوء إدارة الموارد المائية والتلوث وسد النهضة الإثيوبي الذي سيؤثر بدوره في حصة مصر من مياه نهر النيل)، وهي مشكلة رئيسة تلوح في الأفق.
وتُسهم الزراعة بنحو 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتشكّل ما يقرب من ثلث وظائفها. ومما يزيد الأمور تعقيداً، تعتبر الزراعة من أرباب العمل الرئيسيين للنساء، فما يقرب من 45 في المئة من النساء يعملن في القطاع الزراعي.
وهنا يجب الإشارة إلى العلاقة بين عمالة المرأة وخفض معدلات الخصوبة، وهي علاقة لافتة ووثيقة بحسب تجارب دول عدة. ففي السنغال، وجدت دراسة أن زيادة عدد النساء ممن يعملن في غير قطاع الزراعة أدت إلى تأثير خافض للخصوبة، إذ إن الاستثمارات المتزايدة في قطاع تصدير المحاصيل صنعت فرص عمل للنساء الريفيات، وانخفض عدد المواليد لكل سيدة بشكل أكثر حدة في الأماكن التي زادت بها عمالة السيدات بشكل أكبر.
وبنظرة أوسع حول وضع تشغيل النساء في مصر، الذي يرتبط بشكل وثيق بمعدل الإنجاب، فإن نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة في مصر لا تتجاوز 21.3 في المئة.
ووفقاً للبنك الدولي، فإن نحو41 في المئة من النساء في مصر يعملن في السوق غير الرسمية، مما يجعلهن يفتقرن للوصول إلى برامج التأمين الاجتماعي والصحي والحد الأدنى للأجور.
ويشير مشروع الجامعة الأميركية إلى ارتباط خطي سلبي بين معدل الخصوبة العام وفرص النساء في الحصول على فرص عمل آمنة وعادلة.