تحيط إشارات التحذير بنا منذ بعض الوقت- زيادة استخدام بنوك الطعام، والمعركة العلنية جداً حول من سيضطر لتحمّل تكلفة إطعام الأطفال الجوعى أثناء فترة الإغلاق- ولكننا اقتربنا من مرحلة نضطر فيها إلى مواجهة حقيقة بغيضة عن بريطانيا في هذا العصر: نحن بلد يسمح لمواطنيه بالوصول إلى درجة العَوَز.
والعوز لا يعني الفقر. فالفقر محيط بنا أساساً. بين العامين 2019 و2020، نشأ 4.3 مليون طفل ويافع في بيئة من الفقر في المملكة المتحدة، وهو ما يعادل ثلث إجمالي الأطفال، أو تسعة أطفال في كل صفّ يتألف من 30 تلميذاً. وهذا بحد ذاته وضع جديد نسبياً.
منذ ما يقارب الـ15 عاماً، وبعد جهود مضنية، تقلّص عدد الأطفال العالقين في دوامة الفقر إلى نحو 600 ألف طفل، وفقاً لاتحاد التعليم الوطني. ولكن في عام 2016، أُلغيت أهداف تقليص فقر الأطفال المقررة في قانون مكافحة فقر الأطفال من عام 2010 - كما ألغي واجب الدولة بتحقيق هذه الأهداف. أما الآن، فتضاعفت معدلات فقر الأطفال بنسبة 600 في المئة. وقد يتساءل المرء إن كان هذا سبب إلغاء هذا الهدف بكامله.
إن الفقر متغلغل ومنتشر على نطاق واسع ولكن العوز مختلف. فهو ليس نسبياً بل مطلقاً. والعوز يساوي العجز عن تحمّل تكلفة الأساسيات المطلوبة للحفاظ على حياة صحية: الطعام والملجأ والدفء. نعيش منذ أشهر أزمة متعلّقة بكلفة المعيشة سوف تزداد حدّة في المستقبل، وها أنّ العوز بدأ أساساً بالارتفاع.
تتوقع الدراسة التي نشرها المعهد الوطني للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في مطلع العام بأنّ زيادة 1.25 في المئة على كلفة نظام التأمين الوطني، المُفترض أن تدخل حيّز التنفيذ بعد شهرين، سترفع معدلات الفقر المدقع بنسبة 30 في المئة بعد إضافتها المدمّرة إلى ارتفاع أسعار الغذاء والوقود. ومن شأن هذا الوضع أن يجعل مليون أسرة تعيش على مدخول منخفض لدرجة أنه يمكن اعتبارها تعاني من العوز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسلّط التقرير الضوء على تبعات الجائحة على المداخيل ويتّهم وزير المالية، ريشي سوناك، بسحب إعانات كوفيد من العائلات المحتاجة بسرعة شديدة، ولا سيما بالنسبة للأسر التي تعيش في أكثر المناطق تضرراً من تغيير أنماط التوظيف والعمل. كان وزير المالية قادراً على فعل المزيد، أي بشكل خاص تحديد قيمة مناسبة للإجازات المرضيّة المدفوعة لأي شخص مضطر للانقطاع عن العمل طيلة عشرة أيام بسبب إصابته بكوفيد.
لا شكّ في أنّ سنوات الجائحة القاسية وقوانين العزل المرتبطة بها فاقمت خطر الوقوع في هذه الهاوية بالنسبة لكثيرين. ولكن الفقر ليس مشكلة جديدة كلياً في بريطانيا. وخلافاً لفيروس كورونا المستجدّ، لا يُعتبر الفقر أزمة اجتماعية ظهرت أمامنا من دون سابق إنذار ومن غير أن نتوقعها أو نستعد لها بما فيه الكفاية. كنا نعلم بارتفاع مستويات الفقر، كما كنّا نعلم بأنّ الأطفال يعيشون في منازل تفتقر لوسائل التدفئة، ويعيشون فترات من دون طعام ولكننا تمكّنا بطريقة ما من جعل هذا الوضع طبيعياً.
هل يريحنا هذا الوضع؟ وإن كان الجواب نعم، فلماذا؟ خلال عقدين من الزمن ليس إلّا، زادت القسوة في النظرة إلى الفقر لدرجة أنّ الإحصائيات المشابهة التي عليها أن ترعبنا تُنشر كما لو كانت نتائج مباريات كرة قدم. لكن حياة أولئك الأشخاص التي توصف بأنها فقيرة أو تعاني من عوز ليس حقائق وأرقاماً اقتصادية فحسب، ولا هي مجرّد أرقام تظهر على الشاشة.
فالواقع أقسى وملموس بشكل أكبر بكثير بالنسبة لتلك الأُسر: هو واقع له وجه طفل يرقد على أغطية مبللة لأن البرد قارس داخل الشقة ولا يسمح بمنع تسرّب تكثّف الماء داخل جميع المقتنيات؛ ووجه طفل يبكي من الجوع، وأم أو أب يأكل وجبة واحدة يومياً فقط في سبيل الحرص على أن يوفّر لطفله أقصى ما يمكن أن يوفر له؛ ووجه أم تترك أطفالها الصغار وحدهم بعد المدرسة لكي تعمل في وظيفة ثالثة وتحاول مجاراة كلفة المعيشة فحسب. عندما نحوّل الموضوع إلى إحصاءات فقط، هذه هي القصص التي نتوقف عن سماعها.
ما عادت الحكومة مقتنعة بأنه عليها قياس أدائها في هذا المجال المهم بسبب اختلاف على تعريف الفقر. وتُجمع معظم الهيئات الخيرية العاملة مع الأُسر الفقيرة في بريطانيا على أهمية إجراء مسح لما يُعرف بـ"الفقر النسبي". وهي تقول (وأوافقها الرأي) بأننا بحاجة أن نعرف كيف تتأثر حياة الأطفال بالنقص الذي يعانون منه مقارنةً بمن حولهم، سواء مادياً أو من حيث الفرص أو الدعم.
إن التظاهر بأنّ الإفقار النسبي غير موجود ليس سوى تجاهل متعمّد. معظمنا يعرف شعور امتلاك أقل من غيره. طبعاً، تبدأ هذه التجربة في الطفولة، ولا شكّ في أنّ آثارها تصبح دائمة عندما يكون هذا التفاوت كبيراً لهذه الدرجة. أما اعتبار المملكة المتحدة خالية من الفقر، على غرار ما قاله بعض أعضاء الحكومة الحالية، لأن الفقر هنا لا يشبه الفقر في بعض مناطق الهند مثلاً، فهو أمر مُحرج ويمثّل إهمالاً سياسياً.
كما ترك هذا الموقف أثراً خطيراً أشبه بالتخدير على الشعب برمّته. وفي النهاية، تحوّل هذا الهبوط الكبير في ما نعتبره مستوى معيشة مقبولاً إلى جزء من نفسيتنا الوطنية. لو سمحنا بتكرار هذه الحال مع بدء ارتفاع مستويات العوز، سوف نفتح المجال أمام تراجع كبير في ما نعتبره حياة أساساً في بريطانيا العصر الحديث. فهل سنسمح بذلك أم ستساعد صدمة مشاهدة العوز الحقيقي على إعادة ضبط الموازين؟
لا تحتاج لندن إلى الكثير من الجهد لكي تتوقف وتعيد النظر في الأمر وتصلح ما فات. فاستناداً إلى رأي فريق العمل على مكافحة فقر الأطفال، سوف تؤدي زيادة إعانات الأطفال بمبلغ 10 جنيهات أسبوعياً إلى رفع 450 ألف طفل فوق مستوى الفقر. ولو أعيد العمل بزيادة مبلغ 20 جنيهاً التي خصصت لمواجهة كوفيد إلى المساعدات الحكومية، سوف يحصل عدد أكبر من الأطفال على ما نعتبره مستوى مقبولاً للعيش في بداية العمر [في نعومة أظفارهم].
Rولكن ذلك يتطلّب حصول الأمر الوحيد الذي يبدو أنّ هذه الحكومة المتغطرسة تعجز عنه: الاعتراف بارتكابها خطأ، وتصحيحه.
© The Independent