الحب في لبنان لم يعد كافياً لتأسيس أسرة، فأكداس الهموم والأعباء اليومية باتت أكثر من أن تحصى في البلاد التي تعاني أقسى أشكال الانهيار، ويوم الحب الذي يصادف الـ 14 من فبراير (شباط)، لن يمحو ما قبله وبعده، فهذه المناسبة التي جاءت نتيجة تعمق المجتمع الاستهلاكي تقف وجهاً إلى وجه مع الواقع اليومي المعاش.
ومن مظاهر الواقع المعاش والتي تخالف بصورة جذرية شعور الحب كعاطفة مثالية، التراجع في نسب عقود الزواج في لبنان مقابل الهرب إلى مكان جديد من طريق الهجرة.
تراجع الزواج بسبب الظروف
قد يبدو أن الربط بين تراجع نسب عقود الزواج والانهيار المالي والاقتصادي الذي بدأ يتبلور بوضوح عام 2018، من قبيل القفز في الذاتية والابتعاد من الطرح الموضوعي، ذلك أن عوامل أخرى بدأت تؤثر في قرار الزواج من عدمه، ولذلك لا يمكن حصر المؤثرات على هذه المؤسسة في عامل واحد.
إلا أن القصص الواقعية تؤشر إلى أن عدداً كبيراً من الشبان لن يتمكن من تأسيس أسرة مستقرة بسبب الانهيار المالي، ويختصر الشاب جهاد تجربته بمقولة "لو كنت أعلم أن الأوضاع ستكون على هذه الصورة ما كنت فكرت في الارتباط أبداً، وما كنت بادرت إلى الخطبة، إلا أننا ربطنا مصير ابنة الناس بنا، والتراجع في آخر الطريق أمر مخز"، لذلك فإننا أمام "مرحلة تجهيز مضنية ومرتفعة الكلفة".
وقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى ارتفاع هائل في كلفة الحصول على مسكن، فحتى الإيجار بات مستحيلاً، حيث بدأ أصحاب المنازل يطالبون بالدولار، والشقة الصغيرة التي يفترض أن يكون إيجارها 100 دولار فريش، هي بكلفة 2.1 مليون ليرة، أي ما يزيد على ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور، ناهيك عن الكلف الاستهلاكية والتشغيلية من فرش وتجهيزات كهربائية ورسوم خدمات وكهرباء وماء واتصالات، وغيرها من الأمور التي تطول القائمة على إحصائها، وتؤرق الشبان الساعين إلى الاستقرار.
كما يضيف الشبان إلى حديثهم قضية الإنجاب والعناية بالمواليد الجدد، في ظل شح المواد الأولية والكلفة العالية لتأمين الدواء والحليب والحفاضات ومستلزمات العناية بالأطفال.
كل هذه الحسابات تقف عائقاً أمام الإقدام على هكذا خطوة، لذلك يرى بعضهم أنه "إذا استمر الأحبة بالحسابات على الورقة والقلم فلن يتزوج أحد في لبنان"، لذلك "الاتكال على التيسير وأن يسند كل واحد الآخر".
فيما يبحث آخرون عن "فترة الخطبة الطويلة"، على قاعدة "إلا ما تفرج"، وفي هذا السياق يستحضر اللبناني فكرة الهجرة والسفر لفترة من الزمن من أجل "تأسيس المستقبل".
الهجرة تتقدم
في دراسة أعدتها الدولية للمعلومات، أظهرت قيود المديرية العامة للأحوال الشخصية تراجعاً في أعداد عقود الزواج وبالتالي نسب الزواج في لبنان خلال عامي 2019 و2020، وهو أمر يؤشر إلى ما هو الحال عليه حالياً مع تعمق الانهيار المالي والاقتصادي، ففي عام 2019 بلغ عدد العقود 34076، فيما تراجع إلى 29493 في 2020، أي أن نسبة التراجع بلغت 13.5 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما نسبة التراجع عما كانت عليه في الفترة السابقة أي بين 2015 إلى 2019 فبلغت 17.9 في المئة.
وترافق هذا الأمر مع تراجع في عقود الطلاق، ولكن بنسبة أقل حيث بلغت 11.1 في المئة، أي أن التراجع في نسب الطلاق أقل من الزواج. وانسحب الأمر على الولادات التي تراجعت من 86584 عام 2019 إلى 74049 عام 2020 أي تراجع بنسبة 14.5 في المئة.
في المقابل، ازدادت نسبة المهاجرين من البلاد وهو ما أظهرته دراسة جديدة للمؤسسة نفسها، ففي الفترة بين 2017 إلى 2021 هاجر 215653 شخصاً، وحظي عام 2021 بحصة الأسد حيث بلغ عددهم 79134 مهاجراً أو مسافراً من لبنان.
الثقافة تبدلت
في المقلب الآخر من المشهد، يعطي خبراء علم النفس الاجتماعي أبعاداً أخرى للموضوع في إطار أوسع يتصل بالتطور المادي الواقعي والثقافي الفكري، وتلاحظ المتخصصة في علم النفس الاجتماعي ماغي معلوف ظاهرة بحث اللبنانيات عن الزواج بشاب أجنبي أو مقيم في الخارج لأسباب عدة، إذ من جهة هم يريدون الانعتاق من المجتمع الذكوري والبحث عن المساواة في الواجبات والحقوق وتأمين بيئة مستقرة أمنياً واقتصادياً، كما تتحدث عن أثر استقلالية المرأة اقتصادياً، إذ يدفعها هذا الأمر إلى عدم البحث عن زوج تستند إليه، فيما تبحث في البيئات الفقيرة عمن ينفق عليها أو يدفعها أهلها إلى ذلك.
وتستغرب معلوف وجود حالات زواج وطلاق متكررة في المجتمع الراهن وبأعمار صغيرة، وهذا يؤشر إلى وجود صعوبة في التفاهم بين الطرفين وعدم قبول الآخر كما هو.
وتعتبر أن الوضع اللبناني أمر مستجد وله أثر يفرض نفسه في قرارالإقدام على الزواج بسبب عدم إمكان الإنفاق على الأسرة أو التربية والتعليم، وانعكس ذلك على قرار الإنجاب، "فهناك أزواج اتخذوا قراراً بعدم الإنجاب".
وتلفت معلوف إلى "حال عامة من الضغط النفسي" في البلاد بسبب "الشعور بالخيانة والغدر الذي قامت به الدولة والمصارف"، وهذا يؤثر في عدم تأثير حياة ثابتة مستقبلياً، إذ بتنا أمام "علاقات عابرة".
كما تأسف لتطبيق مبدأ "الزواج مقبرة الحب"، وأن "مرحلة ما قبل الزواج مليئة بالحب والمفاجآت والإبداع، أما بعد الزواج فتسيطر الهموم والأعباء، والدراسات تثبت أنه بعد خمس سنوات يشعر بعض الأزواج بالحاجة إلى الانفصال".
التواصل مقدم للتفاهم
تعتقد المتخصصة في علم النفس الاجتماعي أن "التواصل هو طريق لإنجاح العلاقات بين الناس كافة"، وتشير إلى مشكلة في المجتمع اللبناني حيث يقوم التواصل على قاعدة "الأوامر والطاعة ومنطق الفرض، بينما يجب الانتقال إلى الأخذ والعطاء والتفاهم والنقاش الدائم في الأمور من أجل تجنيب الآخر الأذى والزعل، لذلك نجد علاقات مسمومة بين الشريكين بسبب تسلط أحدهما وفرض الأمور من دون نقاش، ويعود هذا الأمر بسبب التربية والعنف في مراحل الطفولة المبكرة، إذ يتم تكرار النموذج الديكتاتوري في التعاطي مع العائلة الخاصة لاحقاً".
وتأسف إلى أن "نموذج الرجل الذي يتم الترويج له في الدراما التلفزيونية هو الرجل العنيف والمتسلط الذي يقصي المرأة عن القرار أو التشاركية، وأخطر ما في ذلك تحويل هذا النموذج إلى الإيديال المثالي الذي يجب تعميمه وقبوله مجتمعياً".
وترفض معلوف إعطاء "وصفة جاهزة لزواج مستقر ومستمر، إذ يجب على الأزواج انتقاء بعضهم بحرية، واكتشاف بعضهم وتأمين الإنسجام الفكري"، لذلك فهي تعطي الأولوية لـ "الانسجام الفكري" ذلك أن الانسجام الجسدي والعاطفي يدخل الروتين لاحقاً، فيما الجانب الفكري هو الباب للاستمرار ومعالجة المشكلات الطارئة.
الاعتراف بالآخر
وترى معلوف أن الاعتراف بتضحيات الآخر والجهد الذي يقوم به الآخر أساس التوازن في العلاقة، وتدعو إلى أخذ أعباء العمل المنزلي في عين الاعتبار، لأنه مساو للعمل في خارج الخلية المنزلية.
وتشير إلى أن بعض الدول تدفع أجراً للسيدات الذين يبقون في منازلهم من أجل رعاية أبنائهم وتربيتهم، لأنه يوازي ما يقوم به الطرف الآخر.
وتلفت إلى أن "التهرب من المسؤوليات سبب مدمر للعلاقات"، وتنطلق من خبرتها لتشير إلى أن "بعض الأزواج يبقى خارج المنزل لوقت متأخر من أجل التهرب من تدريس الأطفال أو الأعمال الشاقة داخل المنزل".