في اعتراف ضمني بفشل الجهود الدبلوماسية الدولية لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية والحيلولة دون غزو روسي جديد للدولة السوفياتية السابقة، حذر البيت الأبيض من أن موسكو ستواجه "كلفة باهظة وفورية" إذا أقدمت على عمل عسكري ضد جارتها، مشيراً إلى أنها قد تغزو كييف "في أي يوم اعتباراً من الآن". وأكدت مجموعة السبع استعداد بلدانها لفرض عقوبات اقتصادية ومالية ذات "عواقب هائلة وفورية على الاقتصاد الروسي" خلال "مهلة قصيرة جداً" في حال شنت هجوماً عسكرياً.
طبول الحرب التي تتعالى أصواتها يوماً تلو الآخر، يتمدد صداها، بما يحمله من مخاطر وعواقب واسعة، إلى ما هو أبعد كثيراً من المجال الأوروبي، ليصل إلى الشرق الأوسط وأنحاء أخرى، ملوحاً بأزمة غذاء أو بالأحرى مهدداً الأمن الغذائي في عديد من الأنحاء وتلك المناطق التي تعتمد في غذائها على القمح الروسي والأوكراني.
ووفقاً لتوقعات وزارة الزراعة الأميركية للسنة التسويقية 2021/2022، فإن روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتمثل صادراتهما من القمح مجتمعة ما يقرب من ربع الإمداد العالمي. ومع ذلك، فإن هناك توقعات بأن تدفع التوترات المستمرة واحتمالات قيام روسيا بعمل عسكري (لضم مزيد من المناطق الانفصالية الأوكرانية لسيادتها) بأسعار القمح نحو الارتفاع خصوصاً القمح الأوكراني. فتكلفة الغزو الروسي لجارتها ستتوسع عالمياً لتدفع بارتفاع أسعار المواد الغذائية التي تشهد زيادة بالفعل منذ جائحة فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19"، ومن ثم تتمدد المخاطر إلى ما هو أبعد كثيراً من أوروبا الشرقية.
تهديد واشنطن وغيرها من العواصم الغربية لروسيا بتكبيدها "كلفة باهظة وفورية"، يتعلق على الأغلب إما بحظر موسكو من نظام "سويفت"، نظام الدفع الدولي الذي تستخدمه البنوك حول العالم، أو بخيار العقوبات الاقتصادية القاسية التي سيتم فرضها، على غرار ما حدث عندما قامت بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وهو الخيار الذي يثير القلق الاقتصادي بالنظر إلى التأثير العالمي للعقوبات على دولة تمثل مصدراً رئيساً للسلع الزراعية والمعادن والوقود، لا سيما إلى أوروبا الغربية والصين وحتى الشرق الأوسط. ويتوقع مراقبون أنه إذا تصاعدت الأزمة إلى حد إطلاق عقوبات واسعة، فقد تؤدي الضربة إلى ارتفاع الأسعار وتفاقم مشكلات سلسلة التوريد العالمية من خلال التأثير على أسواق السلع، بما في ذلك الغاز الطبيعي والمعادن مثل النيكل والنحاس والبلاتين المستخدم في تصنيع كل شيء من السيارات إلى المركبات الفضائية.
أزمة قمح تهدد الشرق الأوسط
واحدة من المناطق الأكثر تأثراً في حال نشب صراع عسكري في أوكرانيا، هي منطقة الشرق الأوسط، وعلى الأكثر مصر وتركيا، وهما بين أكبر مشتري القمح في العالم، ما يعني أنهما ستدفعان الثمن الأغلى في حال أسفر الصراع عن تعطيل إمدادات الغذاء العالمية، بالتالي ارتفاع الأسعار الذي سوف يثقل كاهل ميزانيات الدول.
وإضافة إلى تأثير العقوبات المشددة على روسيا، فإن أي توغل عسكري كبير من شأنه أن يعرقل تدفق البضائع من أوكرانيا، التي تشكل رابع أكبر مورد للقمح والذرة في العالم. وتكمن المشكلة الآن، وفقاً لمراقبين، في أن نشوب حرب في منطقة البحر الأسود لن يؤثر فقط على الإنتاج الزراعي لأوكرانيا، ولكن أيضاً على قدرتها على نقل القمح والمنتجات الأخرى إلى الخارج.
ويشير الكاتب الصربي نيكولا ميكوفيتش إلى أن "الاحتلال العسكري لموانئ البحر الأسود قد يؤدي إلى حجب كمية كبيرة من المواد الغذائية عن الأسواق الدولية، ما سيؤثر بلا شك على دول مثل لبنان ومصر واليمن وإسرائيل وعمان، مشتري القمح الأوكراني الرئيسين. كما يمكن أن تتأثر دول الخليج العربي التي تأتي خامساً ضمن أكبر 11 مستورداً للدجاج الأوكراني من دول الشرق الأوسط عام 2020.
لبنان واليمن
ويعاني لبنان واليمن على وجه الخصوص من تحديات خطيرة تتعلق بالأمن الغذائي، ومن ثم فإن أي أزمة إضافية في الموارد قد تكون كارثية. ويقول الكاتب الأميركي أنتوني فايولا في مقال في صحيفة "واشنطن بوست"، إنه على مدى السنوات العشرين الماضية، عززت المحاصيل الأوكرانية الوفيرة من دور البلاد كقاعدة خبز عالمية، إذ أصبح بعض أكبر عملائها هم من البلدان المتضررة اقتصادياً، أو التي مزقتها الحرب أو الدول الهشة في الشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك اليمن ولبنان وليبيا. ومن ثم فإن نقص الحبوب أو ارتفاع الأسعار لن يؤديا إلى تعميق الألم فحسب، بل سيسفران عن عواقب اجتماعية لا يمكن التنبؤ بها.
وأشار ألكس سميث، المحلل الزراعي لدى معهد بريكثرو، في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، في مقال في مجلة "فورين بوليسي"، إلى أنه في عام 2020، حصل لبنان على نصف استهلاكه من القمح من أوكرانيا. ويستورد اليمن وليبيا على التوالي 22 في المئة و43 في المئة من إجمالي استهلاكهما من القمح من أوكرانيا. ووفرت كييف في عام 2020 أكثر من 20 في المئة من استهلاك القمح في ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مزيد من ارتفاع الأسعار عالمياً
ومطلع الشهر الحالي، أفادت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) بأن مؤشر الأسعار العالمية للأغذية قد سجل ارتفاعاً في يناير (كانون الثاني) الماضي. يأتي ذلك امتداداً لقفزة أسعار المواد الغذائية العالمية لنحو 28 في المئة في العام الماضي، حين ارتفع متوسط السعر العالمي للحبوب بنسبة 27.3 في المئة في سبتمبر (أيلول) 2021 مقارنة مع شهر سبتمبر 2020، لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ عقد. ودفعت مخاوف الحرب العقود الآجلة للذرة بالفعل إلى أعلى مستوياتها منذ يونيو (حزيران) الماضي، كما دفعت عقود القمح الآجلة إلى أعلى مستوياتها في شهرين قبل التراجع أخيراً.
وبالنسبة إلى دول شمال أفريقيا، المغرب والجزائر وتونس، يقول ميشال تانشوم، الزميل لدى معهد الشرق الأوسط، في واشنطن، إن "هذه الدول دخلت في أزمة أمن غذائي، إذ تشهد بالفعل معدلات تضخم في أسعار المواد الغذائية لم تشهدها منذ الفترة السابقة للربيع العربي قبل أكثر من عقد". وأشار إلى أن أزمة الغذاء في الدول الثلاث تؤثر بشدة في أسعار الخبز الذي يعد جزءاً رئيساً من الوجبة الغذائية اليومية للسكان في الشرق الأوسط.
ووفقاً لمعهد الشرق الأوسط، بلغ سعر القمح المستخدم في صناعة الخبز 271 دولاراً للطن في نهاية الربع الثالث من عام 2021، بزيادة قدرها 22 في المئة على أساس سنوي. وارتفع السعر في الربع الرابع من عام 2021 بشكل أكبر مع تقلص المخزونات العالمية، حين تعرضت الولايات المتحدة وكندا وروسيا وبقية منتجي منطقة البحر الأسود لأضرار في المحاصيل بسبب الجفاف والصقيع والأمطار الغزيرة. في الولايات المتحدة نفسها، على سبيل المثال، من المتوقع أن يصل مخزون القمح إلى 580 مليون بوشل (مكيال الحبوب ويعادل الواحد بوشل من القمح 27.2 كغ) بحلول الأول من يونيو 2022، وهو أصغر مخزون منذ 14 عاماً.
مخاوف بريطانية من أزمة غذائية
وحذر سميث من أن تهديد صادرات القمح الأوكراني تشكل أكبر خطر على الأمن الغذائي العالمي، إذ لا يقتصر التهديد على دول الشرق الأوسط فحسب، بل إن الصين ودول الاتحاد الأوروبي من بين الزبائن الرئيسين للحبوب الأوكرانية، فعلى سبيل المثال صدرت كييف أكثر من 8 ملايين طن من الذرة إلى الصين عام 2020، وهو ما يزيد على ربع إجمالي صادرات الذرة الأوكرانية، وفقاً لوزارة الزراعة الأميركية.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، تحدثت وسائل إعلام غربية عن مخاوف داخل بريطانيا بشأن اندلاع أزمة غذائية في حال شنت روسيا عملاً عسكرياً ضد أوكرانيا، بالنظر إلى أن الأخيرة تشكل مصدراً مهماً لمنتجات الحبوب والدجاج للبريطانيين، خصوصاً أن توسع الصراع قد يضر بقطاع الأسمدة بالغ الأهمية للزراعة المحلية. ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن وزارة التجارة الدولية في المملكة المتحدة، فإن أوكرانيا تأتي في المرتبة 63 كأكبر شريك تجاري لبريطانيا، وقد بلغ حجم التجارة في البضائع بين البلدين 1.6 مليار جنيه استرليني بين 2020/2021.
وقال باتي تومس، رئيس غرفة التجارة الأوكرانية البريطانية، في تعليقات لصحيفة "بوليتيكو"، إن "أوكرانيا هي المنتج الزراعي الرائد في المنطقة، وأقوى منتج في أوروبا (إلى حد كبير)، مع إمكانية مضاعفة إنتاجها مرات عدة". مشيراً إلى أن أوكرانيا بمفردها يمكن أن تضمن الأمن الغذائي في المملكة المتحدة، التي تستورد أكثر من نصف الطعام الذي تستهلكه. وأوضح أن طرق التجارة بين البلدين ستكون آمنة من التوترات الجيوسياسية في البحر، بالنظر إلى وجود سكك حديدية يمكن أن تنقل البضائع بين البلدين في وقت قصير، ذلك ما لم يتم إغلاق الحدود.
وأضاف تومس "غزو أوكرانيا سيضر بشكل كبير بالأمن الغذائي لبريطانيا، إذ إنها أكبر مصدر غذائي قريب جغرافياً للمملكة المتحدة. كما أنه يمثل تهديداً للأمن البريطاني بنفس طريقة نابليون وهتلر وستالين عندما حاول كل منهم غزو أوروبا". ناهيك عن أن روسيا نفسها تعد مصدراً رئيساً للغاز الطبيعي لأوروبا، الذي يستخدم للتدفئة ولصنع الأسمدة، وكذلك لإنتاج الأساسيات مثل البيرة والخبز والجبن.
الحسابات الدبلوماسية
الحروب هي أحد الأسباب الرئيسة للجوع، والصراعات تؤدي دائماً إلى ارتفاع أسعار الغذاء. ولكن في ظل اقتصاد معولم، فإن التأثيرات على دائرة الغذاء تصل أبعد كثيراً من حدود الصراع، لذا يوصي المراقبون أنه بينما تبحث روسيا والغرب عن طريق سلمي للخروج من المأزق، فإن العواقب غير المقصودة للأمن الغذائي في العالم يجب أن تدخل في الحسابات الدبلوماسية.
وفشلت الدبلوماسية حتى الآن في تهدئة التوترات، إذ قام الـ "ناتو" بمقاومة مطلب روسيا بالتراجع عن بيان سابق يعود لعام 2008 في شأن قبول أوكرانيا وجورجيا كأعضاء في الـ "ناتو"، وتقديم تأكيدات ملزمة قانوناً بعدم نشر أسلحة حول روسيا يرى الكرملين أنها تشكل تهديداً صريحاً.
تنفي روسيا، التي حشدت أكثر من 130 ألف جندي على حدودها، نيتها شن غزو عسكري لدعم الانفصاليين في إقليم دونباس شرق أوكرانيا. لكنها في الوقت نفسه تتمسك بمطالبها الأمنية لخفض التصعيد، بما في ذلك ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي نهائياً.