من المرتقب أن يشهد قطاع العدالة في الجزائر سجالاً ساخناً بعد الكشف عن بعض مضامين مسودتي القانون الأساسي للقضاء وقانون تنظيم المجلس الأعلى للقضاء، ولعل إعلان نقابة القضاة عن وقفة احتجاجية يوم 26 فبراير (شباط) الجاري، يعد بداية "معركة" بين القضاة والسلطة.
وأوضح بيان نقابة القضاة أنه من خلال الاطلاع على النسخة المتداولة من مشروع القانون العضوي المتعلق بالقانون الأساسي للقضاء، ومشروع القانون العضوي الذي يحدد طرق انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وقواعد تنظيمه وعمله، "لا يسعنا إلا أن نعبر عن خيبتنا وأسفنا الكبير بعدما تم إفراغ مقترحات اللجنتين الوزاريتين المكلفتين إعداد مسودة القانونين عن محتواها"، ووصف الخطوة بـ"عمل الغرف المظلمة"، وشدد أن ذلك ينم عن انعدام الإرادة لتكريس ما هو منصوص عليه في صلب الدستور بشأن حماية القاضي، ودور المجلس الأعلى للقضاء في ضمان استقلالية القضاء.
وعبر القضاة عن "استغرابهم من تجهيز الصياغة النهائية لهذين القانونين قبل عرضهما للنقاش أمام الهيئة التشريعية دون اللجوء إلى المعنيين"، مؤكدين أن ذلك "يكرس استمرار فرض وصاية السلطة التنفيذية على نظيرتها القضائية"، داعين الجهات المعنية إلى استدراك الاختلالات المسجلة في المشروعين، وأعلنوا عن تنظيم وقفة احتجاجية في تاريخ 26 فبراير للتعبير عن رفضهم لما تضمنه مشروع القانون الأساسي للقضاء والقانون العضوي المحدد لشروط انتخاب المجلس الأعلى للقضاء.
وأضاف بيان القضاة، أن إقدام وزارة العدل على تغيير ما اتفق عليه بشأن مشروعي القانونين والتنصل منه واستبدال مضمونه، "يضر بمصداقية الدولة ويعاكس جهود تعزيز استقلالية القضاء وجعلها على رأس الأولويات، كما هو معبر عنه في مخطط عمل الحكومة"، واتهم الوزارة بـ "انتهاج أسلوب بعيد عن مبدأ الشفافية في عرض محتوى الصياغة النهائية للقانونين قبل إحالتهما إلى البرلمان".
ووفق ما تم تداوله بين القضاة، من بعض ما جاء في المشروعين، فإن القانون الأساسي للقضاء يضمن زيادات في الأجور بما يجعله في منأى عن الاحتياج، إضافة إلى التعويضات عن التمثيل والمسؤولية وواجب التحفظ والسيادة والتعويض الخاص عن الوظيفة وتعويض تمديد الخدمة والتعويض الخاص بالتوثيق ودعم التكوين والبحث، كما يشدد على ضرورة توفير الحماية الأمنية والقضائية للقاضي من التهديدات أو الاعتداءات أياً كانت طبيعتها، التي يمكن أن يتعرض لها أثناء قيامه بوظائفه أو بمناسبتها أو بسببها، حتى بعد الإحالة إلى التقاعد، وتقوم الدولة بتعويض الضرر المباشر الناتج من ذلك.
"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"
وتعليقاً على الوضع، يقول الحقوقي حسان براهمي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، إن "المتعارف عليه في كل الأنظمة السياسية وجود علاقة شد وجذب مستمرة بين القضاة والسياسيين، فكل طرف يريد فرض إرادته على الآخر، فالقضاة يريدون نظاماً قانونياً يضمن لهم استقلالاً تاماً عن الحكومة، والسياسيون يريدون من القضاة إصدار أحكام قضائية على المقاس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أن هذه المعضلة عجزت عن حلها أعرق الدساتير الديمقراطية، "فنجد دوماً هناك صراع حول اختيار قضاة المحاكم العليا في أميركا مثلاً، أو صدور أحكام قضائية تخالف القوانين البريطانية ما دامت تخدم المصالح الخارجية للدولة وغيرها"، لهذا تتعمق هذه المعضلة في الأنظمة الديمقراطية الناشئة، بين مطالب نقابات القضاة بنظام قانوني يغل يد السلطة التنفيذية أو البرلمانية عن التدخل في مسار أعمال القضاة بدءاً من طريقة تعيينهم إلى سيرورة مسارهم المهني بين التحويل والاستقرار الوظيفي، وضمان عدم تدخل كائن من كان في إصدار الأحكام إلى حرية الاحتجاج المهني وصولاً إلى عدم تدخل الحكومة في محاسبة القاضي المقصر".
وعلى العكس من ذلك، ترى الحكومة أنه لا يمكنها منح القضاة كل الصلاحيات لأن ذلك يعد انتقالاً إلى نظام دستوري معاكس تماماً لما استقرت عليه الأنظمة الديمقراطية حالياً، المعروف باسم "حكومة القضاة"، وهو ما يستحيل معه سير مؤسسات الدولة بصورة طبيعية، بحسب براهمي، الذي أبرز أنه من غير المقبول أن لا تخضع أية مؤسسة دستورية للرقابة الفعالة من بقية المؤسسات، وهو ما يستدعي أن تكون معه السلطة القضائية مستقلة في أعمالها، لكن مع ضوابط لصلاحياتها، على اعتبار أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، لذا نجد مثلاً أن الحق في الإضراب والحق في التعبير لا يمكن أن يستفيد منهما القضاة، لأنه يقابلهما مبدأ "عدم نكران العدالة" ومبدأ "واجب التحفظ"، كما لا يمكن للقاضي الاستفادة من الحق في الاستقرار الدائم في دائرة إقليمية واحدة تحقيقاً لمبدأ "حيادية القاضي"، غير أنه في المقابل يجب أن يعامل القاضي بنفس المعاملة التفضيلية التي تعامل بها بقية إطارات السلطة التنفيذية من حيث ضمان مكانة اجتماعية لائقة بمنصبه الحساس.
ويواصل براهمي، أن هذه المسائل الخلافية هي ما تسعى إليه النقابة ووزارة العدل لتثبيت رؤيتها لحلها في التعديل المقبل للقانون العضوي للقضاء الذي مضى على صدوره أكثر من 18 سنة، وختم "ننتظر منه أن يستفيد من المبادئ المستقرة في الأنظمة الديمقراطية التي تقوم على التكامل وليس الاستقلال بين السلطتين القضائية والتنفيذية".
نوايا السلطة
ولعل المناقشات التي عرفها البرلمان خلال عرض مشروع قانون عضوي متعلق باختصاصات مجلس الدولة وتنظيمه وعمله، في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، كفيلة بالكشف عن نوايا السلطة إزاء السلطة القضائية، إذ تركزت المداخلات حول ضرورة الاهتمام بتكوين القضاة على أعلى مستوى وضمان تخصصهم لتمكينهم من أداء المهام المنوطة بهم بكل شفافية وأريحية، والاعتماد على قضاة متخصصين في المحاكم الإدارية الاستئنافية وعدم الاستعانة بقضاة عامين، وكذلك الاهتمام بالممارسة الفعلية في مرفق العدالة واحترام مبدأ الفصل بين السلطات.
ونص التعديل الدستوري الأخير على إبعاد السلطة التنفيذية عن الشأن القضائي وإسناد تسيير المال المهني للمجلس الأعلى للقضاء المشكل أغلبيته من قضاة منتخبين، وهو ما طالبت نقابة القضاة بتطبيقه، وأكدت أنها تسعى إلى تجسيد سلطة قضائية مستقلة في تسييرها الإداري والمالي لتكون منصفة وعادلة في أدائها الوظيفي.