كان للذكرى السابعة عشرة لاغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري هذه السنة وقع مختلف. فهي حلت في 14 فبراير (شباط) ليس في ظل استمرار التداعيات المتواصلة للجريمة على المسرح السياسي اللبناني فحسب، بل لأنها مناسبة جاءت بعد أقل من ثلاثة أسابيع على إعلان نجله ووريثه السياسي زعيم تيار "المستقبل" رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تعليق عمله السياسي وتياره من زاوية المشاركة في البرلمان والحكومة في المرحلة المقبلة.
وفيما تحول إحياء الذكرى في السنوات الماضية إلى محطة سياسية مهمة كان يعلن فيها الحريري أو بعض حلفائه في بعض الأحيان مواقف سياسية مهمة في سياق الصراع السياسي المستمر في لبنان منذ اغتيال الحريري الأب، فإنه جاء هذه السنة صامتاً، واقتصر على تلاوة الابن "الفاتحة" على ضريح والده، مع عمته وعمه، من دون كلام أو خطابات سياسية.
التعاطف الشعبي على الضريح
وعلى الرغم من أن جزءاً من الوسط السياسي اللبناني وبعض الإعلام رأى في عزوف الحريري عن خوض الانتخابات النيابية مع النواب الأعضاء في تياره هو إعلان لاعتزاله العمل السياسي، فإن حشود مناصري "المستقبل" في الذكرى، والتي رافقته على الضريح، حولتها إلى نوع من التضامن الشعبي مع زعامته وتجديد البيعة له، وكان مؤشراً إلى أن "تعليق" مشاركته في العمل السياسي هو إلى حين تحدده الظروف وليس انسحاباً كاملاً من الحياة السياسية. وقال سياسيون من حلفاء الحريري، إن وجود الآلاف من مناصريه عند الضريح، هتفوا بالولاء له، يدل إلى أنه الأقدر، بعد "حزب الله"، الذي تستقطب زعامته قدراً من الجمهور الذي يتحلق حوله على الرغم من الظروف الاقتصادية القاسية التي يمر فيها اللبنانيون، فتكبد المناصرون عناء الانتقال من الأرياف لملاقاته، وجاؤوا من طرابلس وعكار والبقاع وصيدا والجنوب والجبل إضافة إلى العاصمة بيروت. إلا أن هذا لا يلغي أن خطوته أحدثت إرباكاً وخلطاً للأوراق الانتخابية وأبقت على القلق في الطائفة السنية من الفراغ في عملية تمثيلها في المؤسسات الدستورية، لدى رموزها والجمهور العريض.
البلد نحو الأصعب
فالحريري كرر خلال زيارته بيروت التي دامت أقل من 48 ساعة، في لقاء سريع مع نواب "المستقبل" ما سبق أن أعلنه في بيان العزوف عن المشاركة في بيانه في 24 يناير (كانون الثاني) الماضي التأكيد عدم ترشح أي منهم باسم التيار وباسمه، تاركاً الخيار لمن يريد الترشح للانتخابات النيابية، وكذلك بالنسبة إلى الجمهور في موضوع الاقتراع، قائلاً، "لن أفرض أي شيء على أحد، لكني على موقفي بعدم دعم أي مرشح، وإذا أقدم أحد على استخدام لافتة المستقبل في خوض الانتخابات "سأضطر إلى نفي ذلك". وألحق الحريري موقفه بتعميم تنظيمي يطلب من كل منتسب أو منتسبة إلى "المستقبل" في حال عدم التزام توجيهات رئيسه والعزم على المشاركة في الانتخابات كمرشحين "توجيه طلب استقالة خطياً إلى هيئة الشؤون التنظيمية... والامتناع عن أي ادعاء بتمثيل تيار المستقبل أو مشروعه خلال أي نشاط انتخابي".
لكن الحريري كما نقل عنه بعض أعضاء كتلته، نصح النواب بعدم الترشح لأن الوضع في البلد سيبقى على تدهوره وسيكون أكثر صعوبة، مستبعداً أن تتمكن التركيبة الحاكمة من إحداث تقدم في العملية الإنقاذية. ومن سيكون نائباً سيحصد في المرحلة المقبلة الشتائم من الناس لأنهم لن يلمسوا تحسناً في أوضاعهم المعيشية. واعتبر أنه يصعب حكم البلد في التركيبة الراهنة، قاصداً استمرار رئيس الجمهورية ميشال عون في الرئاسة ودعم "حزب الله" له. وقال في دردشة قصيرة مع صحافيين التقوه، "الله يساعد نجيب ميقاتي على التحديات الكبيرة". وأوضح أنه لا مجال لإيجاد الحلول للأزمة التي يغرق فيها لبنان مع حكامه الحاليين. وأشار إلى أن الدول العربية تعتبر أنه لا أمل من الوضع في لبنان في الظروف الراهنة.
نصائح بعدم الترشح
وأبلغ الحريري نواب كتلته بأنه نصح رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي كان قام بتحرك واتصالات مع ميقاتي ورئيس الحكومة السابق تمام سلام ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان تحت عنوان إيجاد آلية لتزكية ترشيحات لشخصيات تملأ الفراغ الذي سيتركه عزوف الحريري و"المستقبل" على الساحة السنية كي لا يتيح التشت للخصوم اقتناص الفرصة، بألا يترشح هو للنيابة، لأنه لا يتوقع أي جديد يتيح له "القيام بأي إنجاز لم أستطع أنا القيام به".
ويقول قيادي في "المستقبل" لـ"اندبندت عربية"، إن سبب عدم إلقاء الحريري كلمة في الحشود التي لاقته إلى ضريح والده، هو أن كل ما يقوله سيُعطى تفسيرات وقد يُحسب على أنه دعم لمرشحين معينين أو أنه موجه ضد فريق بعينه، ما يعاكس قراره "تعليق العمل السياسي" الذي يريد من ورائه التنحي جانباً ومراقبة الأمور ليبنى على الشيء مقتضاه لاحقاً. وهو ردد القول، إن تيار "المستقبل" سيبقى على تواصل مع الناس وجمهوره بأشكال تحدد لاحقاً، لكن لم يتم الاتفاق على أن يتم ذلك قبل الانتخابات أم بعدها. فالحريري يفضل "التفرج"، ليقرر إثره توجهه في ما يخص نشاط تنظيمه، ليؤسس بناء عليه لتوجهاته السياسية في ضوء المعادلة السياسية في البرلمان الجديد (مدته 4 سنوات)، وممارسات السلطة التي ستنبثق عنه.
وفي معرض سؤاله من بعض الذين التقاهم عن معاناته في الحكم خلال المرحلة الماضية أجاب الحريري، "معاناتي نقطة في بحر ما يعانيه اللبنانيون في ظل الانهيار الحاصل".
استمرار المناكفات وتأخر الإصلاحات
لماذا توقع الحريري أن يكون الوضع في البلد أكثر صعوبة في المرحلة المقبلة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يجيب سياسي مخضرم عن هذا السؤال بأن المشكلة بعد عزوف الحريري لا تتعلق بالطائفة السنية بل بالبلد ككل. وفي وقت الأولوية هي لخطة إنقاذية من الوضع المأساوي الذي بلغته الظروف المعيشية في لبنان، لا يبدو أن ممارسات الحكم ستتغير بدليل مواصلة نهج إدارة الأزمة عن طريق سياسة المناكفات الصغيرة والمحاصصة في مواقع الدولة. وهو ما حصل في الجلستين الماضيتين لمجلس الوزراء، حيث جرى تهريب تعيينات في المؤسسة العسكرية بإصرار من الرئيس عون، ما أثار حفيظة وزراء الثنائي الشيعي الذين عادوا عن اشتراطهم تنفيذ مطالبهم لوقف مقاطعتهم جلسات الحكومة التي عطلت اجتماعاتها ثلاثة أشهر، ضمن اتفاق مع ميقاتي على عدم طرح أي تعيينات على مجلس الوزراء، كي لا تُستخدم في سياق الحملات الانتخابية قبل 3 أشهر من موعد الاقتراع.
وتكرّس هذا النهج في طريقة إقرار موازنة 2022 التي تخضع لمعارضة نواب أحزاب يرفضون تضمينها زيادة في الرسوم على المواطنين، في وقت وافق وزراء تلك الأحزاب عليها خلال اجتماعات الحكومة.
وما زال إنكار الحاجة إلى الإصلاحات البنيوية من أجل الإقلاع في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي يتوقف على الاتفاق معه حصول البلد على مساعدات تنتشل ماليته من الحفرة التي هو فيها. فيمتنع الفريق الحاكم عن تنفيذ مطلب دولي مزمن بتعيين الهيئة الناظمة للكهرباء والاتصالات والطيران المدني من أجل ضمان النهوض بها.
سجال "المستقبل" مع الرئاسة وقضية سلامة
ويشير السياسي المخضرم، وهو متعاطف مع خطوة رئيس "المستقبل"، إلى المعركة الدائرة بين الرئيس عون ومعه "التيار الوطني الحر" وبين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عبر القضاء بهدف تنحيته من منصبه. وهو مطلبه منذ أكثر من سنة، سبق للحريري أن رفضه، وامتنع ميقاتي عن التجاوب معه وحاول تأخيره. وفي وقت يتهم عون سلامة بالمسؤولية عن تهريب أموال لبعض المحظيين، ويتذرع بوجود دعاوى ضده في عدد من الدول الأوروبية، يؤكد خصوم الرئاسة وبعض وسائل الإعلام أنها دعاوى من قبل فريق رئيس "التيار الحر" النائب جبران باسيل في هذه الدول، أُقفل بعضها بحكم غياب أي أدلة، وطلبت الجهات القضائية في بعضها الآخر معلومات عن أملاك سلامة وموجودات له من أجل التحقق من وقائع الادعاء، فجرى استخدام ذلك لتبرير ملاحقته من قبل جهة قضائية ولاؤها للرئاسة (القاضية غادة عون)، من أجل تسويغ إقالته. ويردد الوسط السياسي بأن إقالة سلامة شرط أساسي طرحه رئيس الجمهورية على الحريري عند تكليفه بتشكيل الحكومة في عام 2020، وعاد فأكده لميقاتي عند تشكيله الحكومة الصيف الماضي. لكن الفضيحة كانت حين أصدرت القاضية عون مذكرة جلب في حق سلامة بعد منعه من السفر، وكلفت جهاز أمن الدولة المحسوبة قيادته على الرئاسة في إطار توزيع ولاءات المواقع الأمنية تنفيذها، فيما تتولى قوى الأمن الداخلي التي ولاء قيادتها للحريري، تأمين الحماية لسلامة، وأن سجالاً حصل بين ضباط الجهازين عند توجه أمن الدولة إلى منزلين يملكهما الحاكم، وإلى مكتبه في مصرف لبنان، لإحضاره في 15 فبراير عنوة إلى مكتب القاضية عون، لكنه لم يكن موجوداً في أي منها.
واستدعى ذلك صدور بيان عن تيار "المستقبل" نبه "جميع اللبنانيين إلى أن ملاحقة الحاكم ومداهمة منازله ومكتبه في مصرف لبنان، خطوة في مسار الانهيار وليس خطوة في أوهام الحل ومكافحة الفساد". واعتبر أن قرار المداهمة والتوقيف اتخذا في القصر الجمهوري بطلب مباشر من الرئيس عون شخصياً إلى رئيس جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا، وأن موعد المداهمة معروف منذ أسبوع، وجرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي لناشطين عونيين". ورأى "المستقبل" أن الهدف تحقيق كسب انتخابي لـ"التيار الوطني الحر" وتبرير التقصير في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، متهماً عون بالسعي إلى اشتباك بين الجهازين الأمنيين. ورد مكتب الإعلام في الرئاسة معتبراً أن ما ورد في بيان "المستقبل" من كلام منسوب إلى رئيس الجمهورية كذب مطلق ولا أساس له من الصحة ويندرج في إطار الافتراءات التي درج تيار "المستقبل" على توزيعها".
رعاية "حزب الله" لنشاط معارضين خليجيين
في تعداد ما يفسر كلام الحريري عن يأسه من إمكان تغيير نهج الفريق الحاكم، يعدد بعض الأوساط المتعاطفة مع زعيم "المستقبل" وقائع تدعم وجهة نظره، وصولاً إلى التساؤل كيف يمكن الركون إلى إعلان الفريق الحاكم حرصه على أفضل العلاقات مع دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، في إطار السعي لمعالجة الأزمة الناشبة معها وبلغت حدتها قبل أكثر من أربعة أشهر درجة سحب 4 دول سفرائها وطلبها من سفراء لبنان مغادرتها. فبعد تنظيم "حزب الله" نشاط إعلامي مناهض للسعودية الشهر الماضي، على الرغم من رفض وزارة الداخلية ذلك، نظم الحزب نشاطاً مماثلاً لجمعية "الوفاق" البحرينية المعارضة. وعندما طلبت وزارة الداخلية من أحد المطاعم (الساحة) في ضاحية بيروت الجنوبية، إلغاء هذا النشاط جرى نقله إلى قاعة أخرى (الرسالات) في الضاحية أيضاً حيث عقدت الندوة عنوة عن تحذير الوزارة.
فالحزب تحدى كتابين أصدرهما وزير الداخلية بسام مولوي (نشرا في الصحف)، بعد التنسيق مع الرئيس ميقاتي يطلب فيهما من قوى الأمن الداخلي والمديرية العامة للأمن العام، "إبلاغ إدارة القاعة بعدم إقامة النشاطين لعدم حصولهما على الأذونات القانونية... لما قد يترتب في حال حصول النشاطين من عرقلة للجهود الرسمية المبذولة من قبل الدولة اللبنانية من أجل تعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي، في ظل المبادرة الكويتية التي التزمت الدولة إزاءها بالقيام بالإجراءات المانعة للتعرض اللفظي أو الفعلي للدول العربية الشقيقة". إلا أن "حزب الله" أصر على عقد الندوة، وحضرها نائب رئيس المجلس السياسي فيه الوزير السابق محمود قماطي. ونقل عن مصادر الحزب قولها، إن السلطة تخالف مبدأ حرية الرأي في لبنان. واكتفى الوزير مولوي بعدها بالقول، إنه سيطبق القانون، في وقت لم يُستجب لطلبه.
وبدا واضحاً أن الحزب يرد بهذه النشاطات على المبادرة الخليجية التي كان حملها وزير خارجية الكويت الشيخ أحمد المحمد ناصر الصباح في 22 يناير الماضي وتضمنت 12 بنداً لمعالجة الأزمة الخليجية مع لبنان، وردت السلطات اللبنانية عليها بالتزامها أفضل العلاقات مع دول الخليج. ويذكّر سياسيون أن الرئيس عون حليف لـ"حزب الله"، وسيخوض تياره السياسي الانتخابات بالتحالف معه، ويعتمد على أصوات ناخبيه لضمان فوز مرشحيه في دوائر انتخابية عدة، ويؤمن الغطاء الرسمي لمواقفه، على الرغم من بعض الخلافات الظرفية التي تنشأ بين الحليفين.
وتسأل الأوساط السياسية كيف يمكن إحداث أي تقدم في معالجة المأزق الاقتصادي السياسي الذي أصاب لبنان، في ظل هذه الوقائع وغيرها؟