سيراقب العالم في رعب ما إذا كانت روسيا ستجتاح أوكرانيا خلال الأيام القليلة المقبلة، لتبدأ أول وأخطر حرب بين دولتين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، لكن مع كل التركيز العالمي حول الصراع المحتمل بقوة، لم يتم إيلاء اهتمام كاف لما بعد الحرب، وماذا ستفعل موسكو رداً على الإجراءات الانتقامية المتوقعة من الغرب، والأهم ما إذا كانت الولايات المتحدة وحلف الـ "ناتو" على استعداد لسيناريو انتصار روسيا وسيطرتها على أوكرانيا؟
تغيير ميزان القوى
لا يساور المحللين العسكريين في الغرب والشرق أي شك في أنه إذا قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خوض غمار الحرب ضد أوكرانيا فسيفوز بسرعة في المرحلة التكتيكية الأولية، ويعتقد المسؤولون الأميركيون أن الجيش الضخم الذي حشدته روسيا على طول الحدود الأوكرانية، ويصل وفقاً للتقديرات الغربية إلى نحو 190 ألف عسكري، قد يستولي على العاصمة كييف التي يقطنها 2.8 مليون شخص في غضون أيام ويسيطر على البلاد خلال أسبوعين أو أكثر قليلاً.
وقد يكون تصميم بوتين على غزو أوكرانيا، الذي يعود لعقد من الزمان بحسب ما يقول مدير مركز "مايك روجرز" للاستخبارات والشؤون العالمية في واشنطن جوشوا هومينسكي، نتاج قناعاته وتجربته الحياتية، فهو يعتقد أن روسيا مهددة من الغرب، وأنها بحاجة إلى مناطق عازلة للحماية من العدوان الأجنبي مثلما فعلت على مدى قرون، كما عانت عائلته بمرارة خلال حصار النازيين مدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ) خلال الحرب العالمية الثانية، فقد أصيب والده في معركة وأصبح يعرج بقية حياته، كما ألقيت والدته وسط كومة من الجثث ولم تنج إلا عندما سمع أحدهم أنينها، ولهذا عندما يتحدث بوتين عن التاريخ الروسي فإنه يشعر به بشكل عميق.
لكن بوتين ربما يسعى في هذه اللحظة إلى إعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي لمصلحة موسكو، عبر تأسيس دائرة نفوذ أوسع لروسيا ومحاولة إعادة كتابة نتائج الحرب الباردة، بحسب ما يعتقد المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي أندريه كورتونوف، الذي يقول لوسائل إعلام غربية إن بوتين يعتقد أن الغرب استغل ضعف روسيا في التسعينيات وتعامل معها من دون عدالة، ولهذا فهو يريد تغيير ذلك بعدما تغير ميزان القوى، ولم يعد العالم أحادي القطب متمركزاً حول الغرب.
اختبار قيادة أميركا
وإذا كان زعيم الكرملين مصمماً على تفكيك البنية الأمنية الأوروبية الحالية، فإن المواجهة العسكرية ممكنة والاحتكاك سيكون طويل الأمد بين الشرق والغرب، لأن الرئيس الأميركي جو بايدن ونظراءه الغربيين يرون أن النظام العالمي القائم على القواعد سيكون مهدداً بغزو روسي غير مبرر، وأنه يتعين على بوتين دفع كلفة باهظة إذا بدأ الغزو، وأن أمن الولايات المتحدة وأصدقائها الأوروبيين يعتمد على وحدة وقوة حلف الـ "ناتو" في ظل إحساس متصاعد بأن الصراع في أوكرانيا يختبر عزم إدارة بايدن التي كانت تعمل على استعادة الثقة في القيادة العالمية لأميركا بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان وتراجعها عن الالتزامات الخارجية في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي أعلن أن الـ "ناتو" عفا عليه الزمن، فضلاً عن تقويض الجهود الأخيرة التي بذلتها الولايات المتحدة لتحويل انتباه الـ "ناتو" إلى التحدي الأمني الذي تشكله الصين وليس روسيا.
وعلى الرغم من أن كل تنافس جيوسياسي بين الإرادات المتصارعة يتطلب التفكير في الخطوة التالية لما بعد التطور الجاري، إلا أن واشنطن ولندن وبروكسل لا تفكر على ما يبدو في ما سيأتي بعد غزو روسيا المتوقع لأوكرانيا، وفقاً لتأكيدات أجهزة الاستخبارات الغربية، فقد انشغل مخططو الاستراتيجية الغربية في سياسة الردع من خلال تحذير بوتين من أن معركته الحقيقية ستبدأ بعد انتصاره الأولي، فإذا قرر 10 في المئة فقط من سكان أوكرانيا البالغ عددهم 41 مليون نسمة مقاومة الاحتلال، فإنهم سيسببون استنزافاً دموياً مستمراً للقوات الروسية، مثلما قامت مجموعات صغيرة من المقاتلين المتحمسين بتخريب القوة العسكرية الهائلة لأميركا في العراق وأفغانستان.
وعلاوة على ذلك، استخدمت الولايات المتحدة التحذيرات الصارمة من عزل روسيا اقتصادياً مع وجود خيارات متعددة تشمل اتخاذ إجراءات ضد بوتين ودائرته الداخلية، وفصل روسيا عن شبكة "سويفت" المصرفية، وفرض عقوبات على قطاعي التكنولوجيا والدفاع في البلاد، واستهداف الـ "أوليغارشية" وهي شبكة من فاحشي الثراء المستفيدين والمقربين من النظام، فضلاً عن دعم التمرد ضد القوات الروسية في أوكرانيا.
كيف سترد روسيا؟
بالنسبة إلى بوتين فإن العواقب الاقتصادية للحرب يمكن النجاة منها، على الأقل في المدى القصير، إذ إن بنكه المركزي لديه 600 مليار دولار من الاحتياطات، وهي كمية أكثر من كافية لتجاوز أثر العقوبات بحسب ما يقول بعضهم، غير أن المكاسب السياسية في أوكرانيا يمكن أن تطغى بسهولة على أي انتكاسات في الداخل، وهو المكان الذي سيقرر مصيره في نهاية المطاف.
لكن الرد الروسي الذي يتوقعه الغرب وتتناوله وسائل الإعلام يقتصر على ما إذا كانت روسيا سترد بالمثل في إطار خيارات تتوقف على تصرفات الغرب، بينها احتمال تعليق نقل النفط والغاز الروسي لأوروبا والذي يشكل 40 في المئة من حاجات الاتحاد الأوروبي، وهو سلاح لا يستهان به استخدمته موسكو في الماضي، وحتى إذا اختارت روسيا عدم تقييد الصادرات فمن الممكن أن تتأثر الإمدادات بالصراع في أوكرانيا، لأن العديد من خطوط الأنابيب تمر عبر البلاد.
كما أن روسيا مصدر رئيس للموارد الطبيعية الحيوية الأخرى مثل التيتانيوم الذي يدخل في صناعة الطائرات وكذلك البلاديوم وهو معدن نادر، إذ هددت بحجبهما أيضاً، مما سيحدث أثراً في الأسواق العالمية، فضلاً عن أن إنتاج الأسمدة يتم بكميات كبيرة في كل من أوكرانيا وروسيا، مما سيؤثر في حال الحرب على الزراعة في أوروبا، وقد ترتفع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم نتيجة ذلك.
بدائل أخرى للرد
وقد ترد روسيا بهجمات إلكترونية مثلما يتهمها الغرب منذ أشهر ضد كل من أوكرانيا والولايات المتحدة وتتحسب له واشنطن بحذر، إذ حذرت وكالات فيدرالية مختلفة، بما في ذلك وزارة الخزانة الأميركية ووزارة الأمن الداخلي، من هجمات إلكترونية محتملة على أهداف مثل البنوك الكبرى ومشغلي شبكات الكهرباء، بحسب ما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست".
ومن المحتمل أن تزيد روسيا حملتها السياسية لتوسيع جهودها من أجل تفاقم الانقسامات القائمة داخل الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة من خلال التلاعب عبر الإنترنت والتدخل في الانتخابات، بخاصة أن الأميركيين يتهمون روسيا باختراق القوائم الانتخابية وسرقة بيانات الانتخابات.
وتتزايد المخاوف الغربية من أن تخاطر روسيا بشيء أكثر جرأة وعدوانية في محاولة لزيادة الضغط في أماكن أخرى، مثل محاولة انتزاع جزيرة غوتلاند من السويد مثلما غزتها روسيا من قبل عام 1808، وقد يسعى الكرملين إلى إثارة أزمة في بلد يقطنه سكان من أصل روسي، مثل إستونيا التي يوجد فيها 330 ألف روسي من بين 1.3 مليون هم عدد سكان إستونيا، البلد العضو في حلف الـ "ناتو" والذي كان جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق.
حقبة جديدة
وعلى الرغم من أهمية هذه الردود الروسية وتأثيراتها، فقد حذر باحثون في واشنطن من أهمية أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا مستعدة لاحتمال آخر غير سقوط روسيا في المستنقع الأوكراني إذا ما فرضت روسيا سيطرتها على أوكرانيا بسرعة، فقد طالبت الباحثة في صندوق "مارشال" الألماني في واشنطن، ليانا فيكس، والمسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية مايكل كيميج بالاستعداد لحقبة جديدة إذا استطاعت روسيا السيطرة على أوكرانيا أو تمكنت من زعزعة استقرارها على نطاق واسع، إذ سيواجه قادة الولايات المتحدة وأوروبا تحدياً مزدوجاً يتمثل في الاضطرار إلى إنشاء نظام أمني أوروبي جديد نتيجة للأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا ، وفي الوقت نفسه عدم الانجرار إلى حرب أكبر مع روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير الباحثان في تحليل نشره موقع "فورين بوليسي" إلى أن موسكو قد تنصب حكومة موالية في كييف أو تعمل على تقسيم البلاد، وقد تصبح أوكرانيا دولة فاشلة بعد هزيمة الجيش والتفاوض على الاستسلام، وإذا حققت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية فلن تكون أوروبا كما كانت قبل الحرب، لأن الاتحاد الأوروبي أو الـ "ناتو" لن يتمكن من أن يضمن السلام في القارة، وستكون سياسة الأمر الواقع هي السائدة، ذلك أن السيادة الروسية على أوكرانيا ستفتح منطقة واسعة من زعزعة الاستقرار وانعدام الأمن من إستونيا إلى بولندا ومن رومانيا إلى تركيا، وطالما استمر الوجود الروسي في أوكرانيا فسينظر إليه من قبل جيران أوكرانيا على أنه استفزازي وغير مقبول وسيشكل تهديداً لأمنهم، ووسط هذه البيئة المتغيرة سيكون المنظور العسكري في مصلحة الكرملين، نظراً ليد روسيا القوية عسكرياً على الأرض أكثر من المجال الاقتصادي، كونها تمتلك أكبر جيش تقليدي في أوروبا، مما يصب في مصلحة الكرملين الذي سيعمل على تهميش المؤسسات غير العسكرية مثل الاتحاد الأوروبي.
الـ"ناتو" يعزز وجوده
وفي ظل اعتماد أوروبا على القوة الأميركية في الـ "ناتو"، فمن المرجح حال سيطرة روسيا على أوكرانيا أن ينتشر مزيد من قوات الحلف، بخاصة الأميركية، في دول شرق أوروبا خصوصاً في الشرق مع بولندا ودول البلطيق، كما يتوقع توسيع الـ "ناتو" ليضم فنلندا والسويد، وهما أقرب شريكين لحلف الـ "ناتو" ولكنهما ليسا عضوين بعد.
وبالنظر إلى التاريخ الصعب لكل منهما مع موسكو وتشاركها مخاوف جدية في شأن مسار أفعال روسيا في الخارج القريب، سيدفع غزو أوكرانيا المشاعر العامة نحو الانضمام، وهو ما أكده الأمين العام لـلـ "ناتو" ينس ستولتنبرغ أخيراً.
ويتوقع مدير مبادرة الأمن عبر الأطلسي التابعة لمركز "سكوكروفت" كريستوفر سكالوبا أن يركز الحلف على ردع العدوان الروسي على أراضي الـ "ناتو" من خلال زيادة جاهزية قواته واستكمال وضع قوته في دول المواجهة، وتنسيق القيادة والسيطرة على تلك القوات، كما أن الأزمة ستبث حياة وهدفاً جديدين في حلف الـ "ناتو"، وسيتدفق مزيد من قوات الـ "ناتو" للتمركز بشكل دائم في أوروبا الشرقية.
أزمة لاجئين
غير أن إحدى أكبر الأزمات التي ستواجه أوروبا ستظهر مع تدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين نتيجة الحرب إلى البلدان المجاورة وأوروبا الغربية، بل وإلى الولايات المتحدة أيضاً، إذ تتوقع نائب مدير مركز "أوراسيا" ميليندا هارينغ أن ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين أوكراني سيلتمسون اللجوء في بولندا إذا استولى بوتين على جزء كبير من أوكرانيا.
وستؤدي تدفقات اللاجئين الهائلة التي تصل أوروبا إلى تفاقم سياسة الاتحاد الأوروبي في شأن اللاجئين التي لم يتم حلها، وستوفر أرضاً خصبة للشعبويين، كما ستكون هذه القضية مادة خصبة للمعارك الإعلامية والسياسية والسيبرانية خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2024، وسيعتمد مستقبل أوروبا على هذه الانتخابات، فقد يؤدي انتخاب دونالد ترمب أو مرشح ترمبي آخر يحمل الأفكار نفسها إلى تدمير العلاقة عبر الأطلسي في ساعة الخطر القصوى في أوروبا، مما يثير التساؤل حول موقف الـ "ناتو" وضماناته الأمنية لأوروبا.
موقف الصين من الصراع
حينما تصبح موسكو في مواجهة دائمة مع الغرب يمكن أن تكون بكين بمثابة دعامة اقتصادية وشريك في معارضة الهيمنة الأميركية، إذ قد تتشجع الصين بسبب الموقف الروسي وتهدد بالمواجهة حول تايوان، لكن ليس هناك ما يضمن أن التصعيد في أوكرانيا سيفيد العلاقات الصينية - الروسية، ذلك أن طموح الصين في أن تصبح نقطة مركزية للاقتصاد الأوروبي الآسيوي سيتضرر جراء الحرب في أوروبا، وبسبب حال عدم اليقين التي تجلبها الحرب.
غير أن النتيجة المريرة لحرب أوسع في أوكرانيا هي أن روسيا والولايات المتحدة ستواجهان بعضهما الآن كأعداء في أوروبا، ومع ذلك سيكونان أعداء لا يستطيعان تحمل الأعمال العدائية إلى ما بعد عتبة معينة، بغض النظر عن وجهات نظرهم للعالم، ومهما كانت متعارضة أيديولوجياً، فإن القوتين النوويتين الأكثر أهمية في العالم ستضطران إلى السيطرة على غضبهما، فبينما تستمر الحرب الاقتصادية والصراع الجيوسياسي عبر القارة الأوروبية، إلا أن الحال قد لا تسمح بالتصعيد بالتحول إلى حرب مباشرة، ومع ذلك يمكن أن تمتد المواجهة الأميركية الروسية في أسوأ الأحوال لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو أفريقيا إذا قررت الولايات المتحدة إعادة تأسيس وجودها هناك مرة أخرى بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان.