تنتظر دمشق بفارغ الصبر نتائج محادثات فيينا على النووي والمعادلة التي سترسو عليها العلاقة الإيرانية - الأميركية، وسط تطلعات لدى كبار المسؤولين في النظام السوري بأن تخرج طهران رابحة من العودة إلى تفعيل اتفاق 2015 بين الجانبين، مع بعض الإضافات التي تأخذ في الاعتبار المستجدات التي طرأت بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق السابق، ورفع الجانب الإيراني درجة تخصيب اليورانيوم.
وفي وقت لم تتوقف الدول الكبرى، حتى روسيا، عن حث النظام على تسريع خطوات الحل السياسي، فإن حسابات الفرقاء في شأنه مختلفة ومتناقضة، ومن هذه الحسابات، وفق مطلعين على موقف القيادة السورية، سعيها إلى تأخير التنازلات المطلوبة منها في محادثات الحل السياسي بالاعتماد على دعم إيران، الدولة الحليفة الأولى التي ساندت النظام في قتاله مع المعارضة، وتجاوز كل الدعوات إلى تحسين العلاقة مع العرب والغرب بالتمسك بالموقف الرافض لإحداث تغيير في طبيعة النظام السياسي، حتى لو كانت هذه الدول تسلّم بأن يتم هذا التغيير في ظل استمرار بشار الأسد في موقعه في سوريا. وتشمل المطالبة الدولية للأسد بالإصلاحات السياسية في النظام، اشتراط الدول الغربية والعربية أن يأخذ مسافة عن إيران، التي تبذل جهداً استثنائياً من أجل الحفاظ على المواقع المتقدمة التي اكتسبتها بنفوذها في بلاد الشام منذ اندلاع الثورة على حكم الأسد في العام 2011 .
واشنطن واشتراط الحلول مع بقاء الأسد
وتفيد معلومات شخصيات سياسية زارت واشنطن في الأسابيع الماضية، بأن بعضها نقل تكراراً لمواقف سابقة لإدارة الرئيس جو بايدن وللإدارات السابقة، بأن واشنطن سلمت ببقاء الأسد في الرئاسة لكنها تتوقع منه أن يقوم بشيء إيجابي على صعيد الحلول السياسية في بلده، بينما هو يمتنع عن ذلك. والمعلوم أن واشنطن تحتفظ بأوراق عدة في سوريا، أبرزها وجودها العسكري شرق الفرات، إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية، ولا سيما في مناطق دير الزور حيث حقول النفط التي تستفيد منها الإدارة الكردية لتلك المناطق، ودورها مع حلفائها في إعادة إعمار المناطق المهدمة، وهي تعتبر أن مقابل أوراق الوجود العسكري، والنفط وإعادة الإعمار، طالما أنها سلّمت بالنفوذ الروسي في سوريا، يجب أن يقابله تقدم على صعيد الحل السياسي، وبدء عودة النازحين ووقف ملاحقة المعارضين... وعلى الرغم من أن القيادة السورية سعت، السنة الماضية، للانفتاح على إدارة الرئيس بايدن، ما أغضب الجانب الروسي، فإنها لم تعر أهمية للرسائل التي وردتها عن الموقف الأميركي.
الانفتاح الخليجي لم يؤتِ ثماره
الانفتاح من قبل بعض الدول الخليجية على النظام سواء بزيارة وزير الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى دمشق، والتي كان يفترض أن تفتح مجالاً لتوالي اللقاءات، ولسبل التعاون الاقتصادي، بقيت في حدود فتح خطوط التواصل من دون الانتقال إلى تطوير العلاقة، إذ اقتصرت على وجود قائم بالأعمال للإمارات في العاصمة السورية، فحاجة سوريا إلى المساعدات الاقتصادية جراء الأزمة التي تمر بها والتي تنعكس شحاً في العملة الأجنبية وعجزاً عن تأمين الحاجات الضرورية والأساسية للسوريين، شجعت بعض الدول العربية على السعي لاجتذاب الأسد إلى الحظيرة العربية مجدداً، وبتقديم بعض المساعدات المالية، على أن يتمايز عن إيران وسلوكها الذي تعتبره الدول العربية، ولا سيما الخليجية، عدائياً، من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان، بخفض النفوذ الإيراني في سوريا. لكن الخيبة من موقف دمشق عادت لتطغى، لا سيما أنه لم يصدر عنها أي إدانة أو أسف لقصف الحوثيين لأبو ظبي ودبي.
كما أن الدول الخليجية أولت أهمية لدور السلطات السورية في الحد من موجات تهريب المخدرات إليها، والتي تمر في خطوط عدة منها لبنان والأردن، ومع أن الانطباع الذي شاع بعد زيارة بن زايد للعاصمة السورية أن مساراً جديداً قد بدأ، وأن أبو ظبي خصصت بعض الأرصدة المالية لدعم الليرة السورية بدأت بضخها قبل زيارة وزير الخارجية الإماراتي، لكن الأموال التي تلقتها دمشق توقف إرسالها الشهر الماضي. وانعكست الخيبة من إمكان تغيير النهج السوري تراجعاً لفكرة عودة سوريا إلى الجامعة العربية عبر عنها بوضوح الأمين العام للجامعة أحمد أبو الغيط، الذي كرر العبارة التي يستخدمها منذ سنوات بأن هذه العودة لم تنضج بعد.
الاقتراح العُماني: وساطة سورية مع إيران
وشملت المحاولات الخليجية، وخلال زيارة وزير الخارجية العُماني بدر بن حمد بن حمود البوسعيدي في آخر شهر يناير (كانون الثاني) الماضي إلى دمشق على رأس وفد رسمي، والتي اعتبرها نظيره السوري فيصل المقداد "مفصلية وهامة". وعُلم أن الجانب العماني اقترح على القيادة السورية أن تتولى دمشق دوراً جوهرياً في خفض التوتر في المنطقة، بأن تطلب من حليفتها إيران أن توقف قصف الحوثيين المتواصل من اليمن للأراضي السعودية، ولأبو ظبي ودبي، وأن يخفف "حزب الله" في لبنان حملاته على المملكة العربية السعودية والإمارات.
ومع أن الجهات التي تلقت هذه المعلومات لا تملك معطيات عما إذا كانت القيادة السورية أبدت استعداداً للعب هذا الدور في محادثاتها مع الوزير العُماني أم لا، فإن الأوساط المطلعة على علاقة دمشق بطهران استبعدت أن تقدم القيادة السورية على لعب دور الوسيط مع القيادة الإيرانية، التي لها أجندتها الخاصة، أو أن تتمكن من إقناع "حزب الله" بوقف حملاته ضد السعودية ودولة الإمارات الداعمة للحوثيين. فالحزب يخوض حملاته تحت عنوان التضامن مع "أنصار الله"، وفي سياق مراهنة محور الممانعة على أن ينجز الحوثيون انتصارات عسكرية في مأرب وغيرها، تعزز موقع القيادة الإيرانية التفاوضي مع الجانب السعودي في اجتماعات الحوار التي ترعاها بغداد بين الرياض وطهران، بالتالي، فإن الحزب مصر على نصرة الحوثيين في المواجهة مع الرياض تحت شعار "التضامن مع المظلومين"، وأن هذه القضية متروكة لطاولة التفاوض مع الحوثيين، بل على العكس من ذلك، صدرت مواقف سورية متضامنة مع الحوثيين وضد السعودية في وسائل الإعلام التابعة للنظام، فلسان حال الجانب السوري أنه عندما كان النظام في خطر كانت إيران إلى جانبه، بينما كان بعض الدول العربية يمول التشكيلات العسكرية التي قاتلته.
استباق إيراني لإغراء دمشق: العقوبات ستُرفع
في الخريف الماضي، زارت وفود إيرانية عدة دمشق، وأهم الزيارات كانت لوزير الصناعة والتجارة الإيراني علي رضا بيمان باك على رأس وفد كبير، في آخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 بعد زيارة لوزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في أكتوبر (تشرين الأول).
وأفادت معلومات مطلعين على نتائج اللقاءات السورية- الإيرانية بأن طهران أبلغت رأس النظام وكبار المسؤولين السوريين بأن المفاوضات على النووي حققت تقدماً مهماً وأن الاتفاق بات قريباً، وسينتج من الاتفاق رفع العقوبات وأن ما على سوريا إلا الصمود وعدم تقديم التنازلات للدول التي تسعى إلى استخدام الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها. ووعد الجانب الإيراني القيادة السورية بأنه سيقدم مساعدات عاجلة لدمشق فور إنجاز الاتفاق على النووي. وقيل إن طهران وعدت الجانب السوري بمساعدات نفطية، وفي مجال إعادة إعمار البنى التحتية والاستثمارات في مجالات عدة، فطهران تراقب، بتوجس، محاولات الانفتاح العربي على دمشق لاجتذاب قيادتها بعيداً من التحالف الوثيق معها، وهي ترصد هذه المحاولات وتسعى لاستباقها بشتى الوسائل، إلا أن هذا لا يمنع استمرار الاتصالات عبر قنوات خلفية بين الجانب السوري وبعض الدول الخليجية.
إحاطة بوغدانوف قبل زيارة المقداد وبيدرسون
وسط هذه الصورة، لا تخفي القيادة الروسية قلقها من حال "الستاتيكو" في سوريا، وهي تستقبل في اليوم 21 فبراير (شباط) وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، وسط ملاحظاتها التي باتت معروفة، وتعلو أحياناً وتخفت أحياناً أخرى حول عرقلة النظام الحلول السياسية، لا سيما في أعمال اللجنة المشكلة منذ سنتين لتعديل الدستور.
وقدم المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط وبلدان أفريقيا نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف صورة شاملة عن خلفيات تحرك موسكو قبل خمسة أيام من استقبال المقداد للحض على التعجيل بالحل السياسي عبر اللجنة الدستورية التي انفضت الجولة السادسة من اجتماعاتها في جنيف في أكتوبر الماضي بلا نتائج وبلا موعد للجولة السابعة، وألقى الجانب الروسي حينها وعلناً مسؤولية إفشال أي تقدم على النظام والمعارضة معاً، بعدما كان مارس ضغوطاً على النظام من أجل إخراج اللجنة من الجمود، وعبرت أوساط الخارجية في موسكو عن الامتعاض من إغراق وفد النظام الجولات السابقة في نقاش يدور حول أمور لا علاقة لها بالإصلاح الدستوري.
وأوضح بوغدانوف في حديث مطول مع "روسيا اليوم" أن موسكو تنتظر بعد زيارة المقداد والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسون تحركاً، "لأن الأزمة طالت وأريقت دماء كثيرة وهناك الكثير من النازحين والبلد مدمر وهناك وجود أجنبي، إسرائيلي في الجنوب، الأميركيون في الشرق والأتراك في الشمال، وهناك مشاكل أمنية لأنه لم يتم القضاء الكامل على الإرهاب وتنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام" وهي جماعات خطرة، وخلايا نائمة وهناك انفجارات تحصل حتى في دمشق". وأشار إلى مشكلات تتعلق بالحل السياسي، وأخرى إنسانية واقتصادية اجتماعية، وفي الوقت نفسه هناك وثيقة سياسية للحل هي قرار مجلس الأمن 2254 الذي أقر بالإجماع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكّر بوغدانوف أن العمل على تنفيذ مبادئ الحل جاء نتيجة صيغة تم التوصل إليها في فيينا قبل سنوات، حين جلس وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري والمبعوث الدولي السابق ستافان دو ميستورا، فتم إقرار المبادئ (للحل) بمشاركة العرب والإيرانيين (وزير الخارجية الإيراني آنذاك محمد جواد ظريف) والأتراك، وحصل التوافق الدولي ولم يعارض أحد تلك المبادئ. وأشار إلى أن الفكرة الرئيسة لاتفاق اللاعبين الدوليين كانت التفاوض بين الحكومة الشرعية في دمشق والمعارضة التي تمثلها منصات موسكو والقاهرة والرياض وغيرها، والمجتمع المدني، في إطار اللجنة الدستورية وبيدرسون هو المنظّم، وهذا عمل صعب، وأكد وجوب عودة النازحين "والكادر البشري والشباب لتطوير البلد، وإعادة بناء البنية التحتية والمدن التي دمرتها الحرب".
تدخل موسكو في السويداء وقلقها من قتال طائفي
وما أقلق موسكو، المنشغلة من رأسها إلى أخمص قدميها بالأزمة الأوكرانية، بحسب ما ينقل عنها زوارها، أن تشدد القيادة السورية في التعاطي مع الاحتجاجات على تزايد الصعوبات المعيشية للسوريين جراء رفع الدعم عن المواد الرئيسة الضرورية ولا سيما المحروقات والمواد الغذائية والخبز، وزيادة الرسوم على السيارات حتى القديمة، كاد يؤدي إلى تجديد الحملات العسكرية الكبيرة لجيش النظام وإلى صدامات دموية، تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، كما حصل مع التحركات المطلبية في محافظة السويداء قبل ثلاثة أسابيع.
فبينما تركز موسكو على أن مفتاح معالجة الأزمة الاقتصادية المالية في بلاد الشام هو إحداث تقدم في الحل السياسي بين النظام والمعارضة، يسمح بعودة الاستثمارات الغربية والعربية إليها سواء لتمويل عودة النازحين أو إعمار المناطق المهدمة، فإن النظام صعّد لغة القوة حيال تنامي التظاهرات الاحتجاجية في السويداء ذات الأكثرية الدرزية، بعد أن رفعت شعارات خلالها طالبت برحيل النظام وبأنه سبب حال العوز الذي بات يعيشها الشعب السوري، ومهّد الموالون للرئيس الأسد لحملة عسكرية على السويداء على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل قمع الاحتجاجات فيها بعد ظهور شعارات ترفع السقف ضد النظام السوري وحكم الأسد، مخافة امتداد العودة إلى رفع مطالب سياسية من هذا النوع إلى محافظات أخرى شهدت بدورها مظاهر تحركات ضد تردي الأحوال المعيشية. وشملت الحملة ضد تحركات المحتجين في السويداء والتي شارك فيها بعض رموز النظام تحريضاً أخذ طابعاً مذهبياً لتعبئة الطائفة العلوية ضد الدروز، مثل القول إن الذين رفضوا إرسال أبنائهم إلى القتال ضد الإرهاب خلال المعارك العسكرية، وتركوا لأبناء الطائفة العلوية أن يُقتلوا ويخسروا من شبابهم، يتحركون مجدداً ضد النظام، وأن هؤلاء يتحركون بتحريض إسرائيلي (باعتبار أن دروز الجولان والأراضي المحتلة تضامنوا مع دروز السويداء). وشملت الحملات على تحركات السويداء بهدف استنفار التشكيلات العسكرية العلوية تمهيداً لمواجهة في المحافظة، اتهام بعض وجهاء الدروز بالتنسيق مع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" اللبناني وليد جنبلاط باعتباره معادياً للأسد وحكمه.
وكادت المواجهة أن تأخذ طابعاً دموياً إزاء تحرك دعا إليه المحتجون في السويداء، في 11 فبراير، حين استبقه النظام بإرسال حشود عسكرية قبل أيام قليلة من الجيش ومن قوات "الدفاع الوطني" التي هي ميليشيات موالية للنظام مع إشارات بأنه مصمم على قمع هذا التحرك، لولا تحرك كبار الضباط الروس نحو المحافظة لمنع المواجهة، وسط تخوف من حصول صدام يذكر ببداية الحرب السورية حين قمعت أجهزة الأمن السورية احتجاجات محافظة درعا بطريقة دموية أشعلت شرارتها، ونجح الضباط الروس في تهدئة المحتجين في السويداء، ليكون تحركهم سلمياً فلا يتوجه نحو المقرات والمراكز الرسمية لرفع شعارات ضد الحكم السوري، واعدين ببحث مطالبهم المعيشية، وبذلوا جهداً مع قوات النظام التي انتشرت في بعض المواقع الحساسة كي لا تهاجم التحركات الشعبية، ما جنّب المحافظة صداماً كاد يتحول إلى مواجهة طائفية.