بعد مرور أربعة أشهر على قرارات قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان التي اتخذها في 25 أكتوبر (تشرين الأول) بإعلان حال الطوارئ في البلاد وإنهاء الشراكة مع المدنيين بتعطيل العمل بالوثيقة الدستورية التي وقعها الجانبان في 17 أغسطس (آب) 2019، والتي بررها باتهام المكون المدني في السلطة بالتآمر والتحريض على الجيش، لكنه أكد التزامه بتسليم السلطة إلى قوى سياسية منتخبة من الشعب.
يتساءل كثيرون عن جدوى هذه القرارات، وهل حققت أهدافها وغاياتها التي رسمها المكون العسكري آنذاك أم أصبحت مجرد حبر على ورق، في ظل الأوضاع الماثلة الآن في الشارع السوداني؟
نتائج كارثية
الكاتب السوداني، الجميل الفاضل، قال، "في اعتقادي أن قرارات 25 أكتوبر لم تحقق لجنرالات الجيش السوداني غاياتهم بخاصة في مسألة الانفراد بالسلطة، بل إن مستقبل بقائهم ووجودهم في السلطة أصبح مهدداً، ومعظم دول العالم اعتبرت ما حدث انقلاباً عسكرياً، وطالبتهم بالعودة إلى الوثيقة الدستورية التي قاموا بخرقها بتلك القرارات التي أنهت الشراكة مع المدنيين بقصد قطع الطريق أمامهم لرئاسة مجلس السيادة خلال الفترة المتبقية من عمر المرحلة الانتقالية. كما لم تصبح لهم سلطة فعلية على أرض الواقع في ظل استمرار الحراك الثوري في الشارع الرافض قرارات 25 أكتوبر، فضلاً عن إغلاق الطرق القومية بخاصة شريان الشمال الرابط بين السودان ومصر".
أضاف، "في الحقيقة أن قرارات البرهان كانت نتائجها كارثية على الشعب السوداني، إذ قطعت الطريق أمام عودته للمجتمع الدولي، كما أفسدت كثيراً من الاتفاقيات الاقتصادية والتنموية، وحرمت البلاد ما يقارب 30 مليار دولار عبارة عن تقديرات أولية لدخول كبرى الشركات العالمية للاستثمار في السودان على ضوء نتائج مؤتمر باريس الذي نظمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مايو (أيار) 2021، بهدف تشجيع مستثمري القطاع الخاص على العودة إلى السودان الذي يواصل عملية خروجه من ثلاثة عقود من العزلة، وإعادة بناء اقتصاده المنهار، وهو المؤتمر الذي أكد خلاله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مسؤولية المجتمع الدولي لمساعدة السودان على تعزيز انتقاله الديمقراطي، وإعادة بناء اقتصاده، وتحقيق السلام والتنمية المستدامة لكل مجتمعاته المتنوعة".
خسائر لا تحصى
ومضى الفاضل قائلاً، "هذا غير المنح والقروض المقدرة بنحو أربعة مليارات دولار، إضافة إلى الجهود التي بذلت لإعفاء الديون الخارجية التي تقارب 60 مليار دولار من خلال وصول السودان نقطة الإكمال (التنفيذ) بعد أن بلغ نقطة القرار، فكمية الخسائر الاقتصادية كبيرة بكل المقاييس، إذ لا تحصى ولا تعد، وقد انعكست جلياً وبشكل سلبي على المواطن من خلال موجة الغلاء المستفحل بارتفاع الأسعار خلال الأشهر الأربعة الماضية ما لا يقل عن 400 و500 في المئة سواء في السلع أو خدمات الكهرباء والغاز والوقود والخبز، فهي زيادات صعبة وقاسية على أي فرد وأسرة لأنها تدخل في أساسيات الحياة اليومية، وبالتالي تهدد بحدوث انفجار للأوضاع في البلاد بشكل أوسع مما هو عليه الآن"، وتابع الفاضل أنه "قبل 25 أكتوبر، كان الشارع متوافقاً وقابلاً بالشراكة مع العسكر، وبالتالي، أغلقت تلك القرارات الطريق لمشاركة ضباط آخرين من الجيش في سلطة الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبين الكاتب السوداني أنه تأكد تماماً مما لا يدع مجالاً للشك، أن قرارات 25 أكتوبر لم تكن محسوبة بشكل جيد، وأوصلت البلاد إلى بوابة العزلة الدولية، وأصبح جنرالات المكون العسكري المسيطرون على مقاعد السلطة في المجلس السيادي مهددين بالعقوبات الفردية من قبل الإدارة الأميركية، والآن يتجهون في توقيت غريب إلى مغامرة جديدة بالتوجه نحو موسكو وفقاً للزيارة التي قام بها نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى روسيا الأربعاء 23 فبراير (شباط)، ما يعني إصرارهم على التعنت وعدم قبول محاولات المجتمع الدولي لإنهاء الأزمة السياسية، والانحياز إلى خيار اللا عودة لتوفيق الأوضاع في الداخل.
انعدام وزن
في السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية محمد خليفة صديق، "في تقديري أن إجراءات 25 أكتوبر وضعت البلد في حال انعدام وزن، وتمت بموجبها إقالة حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ولم تأت ببديل لها، كما لم تجد هذه الإجراءات رضا الشارع السوداني، ولا رضا المجتمع الدولي، وظلت تتعامل مع التحديات والمشكلات التي تجابهها بالتجزئة، فقد حاولت إعادة حمدوك لرئاسة الحكومة من جديد بموجب اتفاق ثنائي لكنه لم يصمد طويلاً لعدم وضوح الرؤية، وعدم التعامل مع الأزمة بحنكة ومنهجية علمية، وظلت الدولة تشهد فراغاً واضحاً بسبب عدم وجود رئيس وزراء تنفيذي، لذلك باتت الأوضاع والقرارات متضاربة، وبرز ذلك أخيراً في اتخاذ جهات حكومية قرارات بزيادات في أسعار بعض الخدمات ليقوم المجلس السيادي في اليوم التالي بإلغائها".
وتابع صديق، "في ظل هذا الوضع الغريب، نجد أن الفترة الانتقالية تمضي من دون وضع خريطة طريق لكيفية إدارتها، بل يتحدث القادة العسكريون عن ضرورة إقامة انتخابات عامة في الموعد المحدد لها في منتصف 2023، من دون اتخاذ خطوات عملية نحو الإحصاء السكاني وإيجاد مفوضية لهذه الانتخابات وغيرها من المتطلبات. ولا ندري كيف تسير البلد في ظل الغلاء الطاحن والصعود المتواصل للدولار واضطراب السياسات المالية، وكلها مؤشرات لانهيار الاقتصاد، فضلاً عما يحدث من انفلات أمني في العاصمة وبقية المدن، وتدهور الأوضاع في إقليم دارفور، وعدم إيجاد حلول توافقية لأزمة الشرق، وتواصل إغلاق طريق شريان الشمال".
أضاف أستاذ العلوم السياسية، "لا أعتقد أن قرارات 25 أكتوبر وصلت إلى ما كان مخططاً له، لذا يجب مراجعتها، فالدولة الآن في حاجة إلى رئيس وزراء قادر على انتشال البلاد من حال الانهيار، ووزراء بصلاحيات واسعة، وهذا لن يتم إلا بالتوافق السياسي الذي أصبح عملة نادرة نظراً إلى تباعد المواقف بين الأحزاب السياسية من جهة، والعسكريين من جهة أخرى، لكن من المهم السعي في هذا الطريق من خلال التوصل إلى حد أدنى من التوافق بالجهود المحلية والدولية، وهذا يتطلب توحيد رؤية القوى المدنية من أحزاب ولجان مقاومة وتجمع المهنيين، إلى جانب الحركات المسلحة، بخاصة أن الأوضاع مأساوية ولا بد من معالجات سريعة وإعادة الأمور إلى نصابها حتى تكمل الفترة الانتقالية بسلام".
هيمنة وإقصاء
في المقابل، أوضح القيادي في الجبهة الثورية ونائب رئيس جبهة "كفاح" السودانية، حذيفة محيي الدين البلول، أنه "نتج عن ثورة ديسمبر (كانون الأول) عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019 حكومة انتقالية كان طابعها إقصائياً بدرجة كبيرة، وشكل عامل الهيمنة والاستئثار بالسلطة السمة الغالبة لأحزاب الفترة الانتقالية، إضافة إلى السعي نحو التمكين الحزبي، وأدى هذا الوضع إلى الغبن بين مكونات هذه الفترة بخاصة شركاء السلام من الحركات المسلحة، كما برزت دعاوى للإصلاح وتوسيع قاعدة المشاركة، بيد أن القوى المهيمنة على المشهد والقرار السياسي تمسكت بمواقفها الرافضة للحوار مع الآخرين والسير في طريق الهيمنة والإقصاء، متجاهلة مبادرة رئيس الوزراء وغيرها من مبادرات وطنية".
أضاف البلول، "أسهم هذا الوضع المتأزم في إرباك المشهد السياسي، وإحداث حال من الانسداد والاحتقان، وكادت البلاد تخطو نحو الهاوية، فجاءت قرارات 25 أكتوبر للسيطرة على الموقف الذي وصل مرحلة من الخطورة، فأنهت هذه القرارات حقبة الشراكة مع الحاضنة السياسية قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، كما أوقفت التشاكس على السلطة والتزمت بحماية الثورة والفترة الانتقالية والحكم المدني الديمقراطي، لكن ضعف المؤسسة العسكرية حال دون تنفيذ تلك القرارات، ما خلق سيولة أمنية واضطرابات سياسية ما زالت قائمة"، ونوه القيادي في الجبهة الثورية بأن "قرارات 25 أكتوبر كانت ضرورية في ذلك الوقت، إلا أنها لم تجد طريقها للتنفيذ، ما ساعد بشكل كبير في ما نشاهده من هشاشة سياسية وأمنية. لكن بشكل عام، الوضع الحالي للبلاد، ممثلاً في قواه السياسية ومكوناته المختلفة، غير مؤهل لقيادة دولة تسع الجميع وتؤمن بالديمقراطية والحكم المدني. وبالتالي، مستقبل استقرار البلاد غير مرئي، فالوضع ينبئ بأن القادم أسوأ، وللأسف لا تلوح في الأفق القريب حلول".