من الباكر الجزم بأن روسيا تفاجأت بمتانة المقاومة الأوكرانية أو أن الاجتياح لن يحقق بعضاً من أهدافه، فنحن نتحدث هنا عن دولة تملك ثاني أقوى جيوش العالم، لكن ما يصعب نفيه هو أن تأخر الحسم بخلاف المتوقع وتوالي الدعم الغربي لجارة روسيا الصغيرة، إضافة إلى سياسة كتم الأنفاس اقتصادياً، كلها عوامل ستزيد متاعب موسكو.
مقاومة غير متوقعة
أبرز ما كشفته الحرب حتى الآن هو أن روسيا أمام مقاومة صلبة من الجيش الأوكراني لم يتوقعها الروس، وفق مسؤولين أميركيين، ولوحظ ذلك في صمود العاصمة كييف، في الوقت الذي يواصل الرئيس فولوديمير زيلنيسكي مباشرة مهماته والتواصل مع نظرائه للحصول على مزيد من الدعم، والأهم قيادة جبهة بلاده جنباً إلى جنب مع كبار مسؤوليه على الرغم من محاولات الإجلاء من قبل حلفائه.
أحد مشاهد المقاومة الأوكرانية كانت في مدينة خاركيف الصناعية القريبة من الحدود مع روسيا، حيث صد الأوكرانيون أمس الأحد 27 فبراير(شباط) محاولة توغل روسية في عمق المدينة بعد نصب كمين للعديد من قوات المشاة، فقتل بعضهم وأسر آخرون.
كما أظهرت لقطات نشرتها القوات الأوكرانية صباح الأحد، دماراً لحق بخمس مدرعات من طراز "تايغر إم" روسية في أحد شوارع خاركيف، ووثقت اللقطات استيلاء الجنود الأوكرانيين على الذخيرة والمعدات الروسية، ومنها صواريخ مضادة للدبابات، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال".
وشوهدت عربة مدرعة من الطراز نفسه تحترق على أحد تقاطعات خاركيف، في حين قال السكان إن المدينة بدت تحت سيطرة القوات الأوكرانية، وذكر حاكمها أوليه سينهوبوف عبر منشور في مواقع التواصل الاجتماعي أنهم "ينهون تطهير المدينة من العدو".
أما في كييف فأمرت السلطات الأوكرانية السكان بالبقاء في منازلهم حتى صباح يوم الإثنين للفراغ من القبض على المتسللين الروس الذين انخرطوا في عدة اشتباكات مع القوات الأوكرانية والمتطوعين المدنيين خلال الليل، ولم تسمع أصوات إطلاق نار خلال النهار. وقال عمدة المدينة فيتالي كليتشكو عبر رسالة مصورة، "كييف تواصل الصمود ولا توجد فيها قوات روسية".
تحديات لوجستية
روسيا تملك ثاني أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة وفق تصنيف "غلوبال فايرباور" لعام 2022، لكن القوة الروسية المتمثلة في عدد هائل من المقاتلات والدبابات والتقنيات المتطورة لا يبدو أنها كافية للحسم من دون تخطيط لوجستي فاعل، وفق خبراء دفاعيين.
وفي الحرب الحالية تواجه روسيا صعوبات في إمداد قواتها، وانعكس هذا في تكبدها خسائر بشرية ومادية شملت المدرعات والمقاتلات بفضل الدفاعات الجوية الأوكرانية التي كان أداؤها أفضل مما توقعته المخابرات الأميركية، وفق شبكة "سي أن أن".
ورداً على أسئلة "اندبندنت عربية" حول تأخر الحسم الروسي في أوكرانيا، أشار نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقا مايك مالروي إلى أن الجيش الأوكراني كان فعالاً للغاية في استهداف خطوط الإمداد، مما أضر بقدرة الروس في تحقيق المتطلبات اللوجستية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولذلك لم تسيطر روسيا بعد على الأجواء الأوكرانية، إذ يستمر الأوكرانيون في القتال لفرض السيطرة على المجال الجوي في الوقت الذي تواصل فيه المقاتلات الأوكرانية الاشتباك مع المقاتلات الروسية لمنع وصولها إلى بعض مناطق البلاد، الأمر الذي يصعب على الروس الحركة والرؤية لضرب الأهداف من الجو.
وقال أحد كبار المسؤولين الأميركيين لشبكة "سي أن أن" إن روسيا توقعت نصراً سريعاً، وربما أهملت التخطيط لكيفية إمداد قواتها بشكل كاف، موضحاً بأن خطوط الإمداد إحدى نقاط الضعف التي تواجه الجيش الروسي.
لكن مالروي حذر من أن هزيمة الجيش الروسي أو تأخره في ساحة المعركة التقليدية قد تدفعه إلى "استخدام تكتيكات أكثر وحشية ضد المدنيين"، مستشهداً بما حدث في سوريا حيث تدعم موسكو نظام الأسد، وقال، "لقد استخدما معاً الأسلحة الكيماوية ضد النساء والأطفال والبراميل المتفجرة على المستشفيات وحتى المدارس، ولذلك لا يوجد شيء ليسوا على استعداد لفعله".
في المقابل، تبرر روسيا تدخلها بالتدخلات الغربية الهادفة إلى عسكرة أوكرانيا، وفق تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وترفض تسمية عمليتها العسكرية بـ "الغزو" أو "الاحتلال"، إذ يقول المسؤولون الروس إن بلادهم لا تريد غير "نزع السلاح" الأوكراني، بخلاف المخاوف الأميركية والأوروبية فضلا عن المواطنين الأوكرانيين أنفسهم من ابتلاع بلادهم والتمدد إلى ما بعدها.
صمود ولكن!
حالت بلا شك التحديات المذكورة آنفاً دون سقوط المدن الأوكرانية في قبضة الروس سريعاً، وتحديداً العاصمة كييف التي كان المسؤولون الأميركيون قلقين من إمكان سقوطها في غضون أيام.
وتنضم إلى كييف مدينة خاركيف ثاني أكبر مدن أوكرانيا من حيث المساحة وعدد السكان التي فلتت من السقوط في أيدي القوات الروسية، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين توقعوا سقوطها في الليلة الأولى من الاجتياح لقربها من الحدود الأوكرانية مع روسيا.
لكن الصورة ليست وردية تماماً، إذ يحذر المسؤولون الأميركيون من أن الوضع على الأرض يمكن أن يتغير بسرعة كبيرة مع استمرار القوات الروسية في هجومها، مشيرين إلى أن القوات الروسية لا تزال تفوق القوات الأوكرانية بشكل كبير عددياً، وتواصل روسيا مناورة هذه القوات في مواقع حول المراكز الحضرية الرئيسة.
وإضافة إلى غلبة الجيش الروسي فإن خبرته طوال العقدين الماضيين تعزز مخاوف انهيار الجيش الأوكراني، فاجتياح أوكرانيا يعد التدخل العسكري الروسي السادس منذ تولي فلاديمير بوتين منصب رئيس الوزراء عام 1999. وشملت التدخلات الروسية كوسفو وشبه جزيرة القرم وجورجيا والشيشان، إضافة إلى سوريا.
التبرير الروسي
من جانبها، بدت موسكو وكأنها تحاول تصوير تقدمها البطيء في أوكرانيا على أنه محاولة لإنجاح المفاوضات لا انتكاسة عسكرية، وقالت وزارة الدفاع الروسية السبت الماضي إن قواتها تلقت أوامر باستئناف هجومها "في جميع الاتجاهات" بعد أن صدرت أوامر بوقف المفاوضات مع الحكومة الأوكرانية. وأضافت، "الأمر صدر بمواصلة الهجوم بعد أن تخلت أوكرانيا عن المشاورات".
إلا أن مستشار للرئيس الأوكراني نفى في الساعات الأولى من صباح السبت رفض أوكرانيا التفاوض.
وكان مسؤول في حلف شمال الأطلسي (ناتو) قال إن أحدث المعلومات الاستخبارية لدى الحلف تشير إلى معاناة القوات الروسية بعض المشكلات على صعيد توافر الوقود والبطء، إضافة إلى الروح المعنوية.
ورداً على سؤال عما إذا كان من المرجح أن يكثف الروس جهودهم، قال المسؤول إنه "ليس لديهم خيار"، مضيفاً، "لقد تأخروا كثيراً عن الموعد المحدد، فالأمر يخرج عن السيطرة بالنسبة إليهم، وكل يوم إضافي مؤلم جداً".
وتابع، "حتى مساء السبت في أوكرانيا، لم تلاحظ الولايات المتحدة أي مؤشر إلى سيطرة الجيش الروسي على أي مدينة أوكرانية حتى مع تحرك القوات الروسية لتطويق بعض المراكز السكانية بما فيها كييف".
دعم غير مسبوق
ويمتلك الجيش الأوكراني عدداً من الأسلحة المضادة للطائرات تشمل الصواريخ الموجهة بالرادار والصواريخ الحرارية، فضلاً عن المدافع المضادة للطائرات، كما زودت الولايات المتحدة الجيش الأوكراني بصواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات خلال الأسابيع الأخيرة.
وكان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أكد أن الدول الأعضاء في التكتل قررت تخصيص 450 مليون يورو لشراء أسلحة وتسليمها للجيش الأوكراني لمساعدته في مقاومة الهجوم الروسي.
وصرح بوريل بعد اجتماع عبر الفيديو مع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي سبقته محادثة هاتفية مع وزير الخارجية الأوكراني، أن الأخير "قال إنه يحتاج إلى طائرات يمكن أن يقودها الأوكرانيون". وبحسب بوريل فإن "الدول الأعضاء تمتلك هذا النوع من الطائرات وستوفره، إضافة إلى أسلحة أخرى لازمة للحرب".
وأردف أن "مساعدات الاتحاد الأوروبي تضاف إلى المعدات والأسلحة التي قررت كثير من الدول الأعضاء تقديمها بمفردها".
وأكد عدد من المسؤولين الأوروبيين أن دول الاتحاد الأوروبي بدأت في تسليم كميات كبيرة من الأسلحة إلى أوكرانيا السبت، "لتمكينها من الدفاع عن نفسها".
اتحاد أقوى
وبالتوازي مع الدعم العسكري أعلنت دول مجموعة السبع مساء الأحد استعدادها فرض عقوبات جديدة على روسيا بعد تلك التي أعلنت خلال الأسبوع، "في حال لم تضع حداً لحربها على أوكرانيا".
وخلال اجتماع لوزراء خارجية الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وكندا وإيطاليا والمملكة المتحدة، حضت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى موسكو "على وضع حد فوري للهجمات على أوكرانيا وسكانها المدنيين وبناها التحتية المدنية، وسحب قواتها من دون تأخير من البلاد"، وفق بيان نشرته الرئاسة الألمانية لمجموعة السبع.
ونبهت الدول السبع إلى أنها لن تعترف بأي تغيير في وضع أوكرانيا يفرض بالقوة، وسبق لموسكو أن ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014، واعترفت أخيراً باستقلال منطقتين انفصاليتين شرق أوكرانيا.
وتوالت التصريحات الأميركية والأوروبية حول دور الاجتياح الروسي في تقوية حلف الـ "ناتو" وتعزيز تماسك الاتحاد الأوروبي، وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن مجموعة السبع لم تكن قط أكثر اتحاداً "في الدفاع والحفاظ على حرية وسيادة أوكرانيا وجميع الدول".
والسبت، عمدت الدول الغربية إلى تشديد عقوباتها المالية على موسكو مستبعدة كثيراً من المصارف الروسية من منصة "سويفت" الدولية للتبادلات المالية، واتخذت أيضاً إجراءات تهدف إلى منع المصرف المركزي الروسي من دعم العملة الوطنية عبر تقييد وصوله إلى أسواق الرساميل الدولية.
وأورد بيان الدول السبع الصناعية الكبرى أن وزير خارجية أوكرانيا دميترو كوليبا شارك في الاجتماع، وتشاورت الدول أيضاً في المساعدة الإنسانية الواجب تقديمها إلى أوكرانيا.
وقالت اليابان، الأحد، إنها ستشارك أيضاً في إزالة بنوك روسية منتقاة من نظام "سويفت"، وإنها ستقدم مساعدات إنسانية وتسعى إلى تحديد وتجميد أصول عائدة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومسؤولين روس آخرين.
واعتبر بلينكن أن خطوة طوكيو تظهر "وحدة وتصميم" مجموعة السبع وستساعد في "فرض كلف باهظة على روسيا".
النووي الروسي
في المقابل، حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن الدول التي تدعم أوكرانيا ستتعرض للهجوم، وأعلن أمس الأحد وضع القوة النووية الروسية في حال تأهب قصوى.
واعتبر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن بوتين باتخاذه قرار وضع قوة الردع النووي في حال تأهب، إنما يسعى إلى صرف الانتباه عن المقاومة الصلبة التي تواجهها القوات الروسية في أوكرانيا.
وقال جونسون إثر لقائه أفراداً من الجالية الأوكرانية في لندن، "أعتقد أنه تجاهل لواقع ما يحصل في أوكرانيا. إنه شعب بريء يواجه عدواناً غير مبرر بالكامل، وما يحصل فعلياً هو أنهم يدافعون عن أنفسهم ربما بفاعلية أكبر وبمقاومة أكبر مما كان يتصور الكرملين".
ورداً على الهجوم الروسي في أوكرانيا، قررت الحكومة البريطانية تجميد أصول فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، فضلاً عن فرض عقوبات على أثرياء مقربين من الكرملين ومصارف روسية.
وفي سياق متصل، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن روسيا هددت بوضوح بشن هجوم نووي على الدول التي تدعم أوكرانيا بعد الغزو الروسي، لكن هذا لن يمنع التكتل من دعم البلاد.
وأضاف، "مجرد أن تشير لإمكان استخدام أسلحة نووية يعني انعدام مسؤولية إلى أبعد حد، ويكشف كثيراً عن شخصية فاعله".
وحثت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد روسيا أمس الأحد على تخفيف حدة "لهجتها الخطرة في ما يتعلق بالأسلحة النووية"، وقالت السفيرة في اجتماع لمجلس الأمن "هذه خطوة تصعيدية أخرى وغير ضرورية تهددنا جميعاً".
من جانبه، عد المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايك مالروي وضع موسكو قواتها النووية في حال تأهب "تصرفاً طائشاً ومؤشراً واضحاً إلى أن الرئيس بوتين يدرك أن أداء جيش أوكرانيا خالف التوقعات، فضلاً عن احتمال فشله بفضل عزيمة وبطولة القوات الأوكرانية".