"الثورة الرقمية جعلت أشياء كثيرة لا يمكن حدوثها قبل سنوات عدة أمراً ضرورياً لحياتنا اليوم، لا يمكن أن نتخيل حياتنا من دونها، باختصار، الإنسان أصبح عبداً للتكنولوجيا بكل ما تعنيه كلمة عبد من معنى، وكما هي العادة في كل المجازر التي تحدث هناك ناج وحيد (أم الطنافس الفوقا)".
هذه العبارات ليست سوى مقدمة تتكرر مع كل حلقة من حلقات المسلسل الكوميدي السوري، "ضيعة ضايعة" بصوت المذيع الراحل محمد السعيد، كلمات تلخص جوهر عمل مجبول بالكوميديا المضحكة المبكية، أبطاله أشخاص كاريكاتورية صنعوا أيقونة في عالم الكوميديا، وجمهوره أبعد من الإطار المحلي وأقرب إلى القلب والوجدان، والمسلسل من تأليف ممدوح حمادة وإخراج الليث حجو، وهو بجزأين، عامي 2008 و2010، وبطولة النجمين الراحل نضال سيجري وباسم ياخور.
ضياع "الضيعة"
واعتاد متابع هذا العمل الفكاهي بتكرار مشاهدته من دون كلل من خلال موقع "يوتيوب"، مع تداول الناشطين مواقف أبطاله المضحكة، حكاياته ترصد قصص أناس بسطاء لا يرتبطون بزمان ومكان محددين، لتكون أقرب إلى الفنتازيا الكوميدية، يعيشون في قرية تتربع بأعالي جبال الساحل في قرية "السمرة" غرب سوريا، مطلة بكامل بهائها على البحر المتوسط، حيث أضحت محجاً للسياح بعد عرض المسلسل للاستمتاع بجمال طبيعة المكان قبل الحرب السورية الأخيرة.
وبحلقات متصلة منفصلة يدور بقرية اسمها "أم الطنافس"، تلك الضيعة "الناجية" من ثورة التكنولوجيا والحداثة، كثير من المواقف المضحكة لكنها تحمل بين طيات حلقات المسلسل مفاجآت للجمهور قبل عقد من الزمن، هي اليوم بعد كل تلك السنوات أقرب إلى التنبؤات، وتلاشى الخط الفاصل بين كوميديا "ضيعة ضايعة" والواقع المعاش حتى أضحت تلك المواقف بفعل الصدفة الدرامية والواقعية بمثابة "تنبؤات".
تطابق مع الواقع
وبعد تدقيق في أحداث المسلسل بجزأيه، يمكن رصد العديد من أحداث العمل ومقاربتها مع الواقع، وفي هذا السياق لا بد من استذكار ما أثارته المعركة الانتخابية للظفر بمنصب نقيب الفنانين الذي كان يشغله الراحل زهير رمضان وأدى دور (المختار)، والفنان فادي صبيح "سلنجو" بالعمل نفسه أيضاً، وحدثت بعدم توقف المناكفات وتكرراها بين نجمي العمل مختار "الضيعة"، والشاب "سلنجو" الراغب بخطبة ابنة المختار في "الضيعة"، في حين أن الأخير لا يرغب بارتباط فتاته بذلك الشاب إلا بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة على الرغم من توسط أهل القرية لخطبتها.
وأثناء ذلك تدور قصص من الحب العذري بين الشاب والفتاة وجولات من ملاحقة المختار لهما، وللمصادفة أن الفنانين نفسيهما بالواقع خاضا أيضاً انتخابات النقابة في سوريا، إذ شكل الفنان فادي صبيح منافساً شرساً لتولي وانتزاع منصب نقيب الفنانين من الراحل زهير رمضان، ولم يستطع قبل أن توافيه المنية في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وهذا الدور ذاته تابعه الناس بإعجاب، إذ يصارع الشاب "سلنجو" المختار أملاً بانتزاع وظيفة المختار منه بانتخابات القرية وفشل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحلو لمؤلف العمل ممدوح حمادة اعتبار التطابقات مع الواقع توقعات وصلت للجزء الثاني والأخير، ويجزم الكاتب حمادة في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "بعض الأشياء التي حدثت وتطابقت مع ما يحدث الآن كانت لها مقدمات في الواقع قمت بالبناء عليها، أو حدثت بشكل مصغر في يوم ما فجعلتها في العمل أحداثاً مركزية".
وجاءت نهاية العمل المأساوية والصادمة للجمهور تتطابق مع ما تعيشه البلاد من مأساة الحرب والنزاع المسلح بعد العام 2011 حيث ظهرت القرية خاوية في ختام المسلسل بكل بيوتها بعد استنشاقهم مواد سامة وموت جميع أهل القرية، بينما الرياح العاتية تعصف بالبيوت وتنتزع النوافذ وتضرب القرية عن بكرة أبيها، هذا المشهد لا يمكن أن يتخيل حدوثه المشاهد السوري قبل العام 2010 والتي نعمت بلاده بالأمان، لكنه بات مشهداً مألوفاً لكثير من القرى الفارغة من دون سكانها بعد نزوحهم منها تفادياً لأهوال الحرب الدائرة.
وعن هذه النهاية المحزنة يقول الكاتب حمادة، "بالنسبة إلى النهاية المأساوية فقد جاءت في الجزء الثاني الذي أعتقد الآن أننا نعيشها، ولكنها تستغرق في الواقع زمناً أطول".
الفانتازيا الكوميدية
على صعيد آخر يوضح الكاتب ممدوح حمادة التساؤلات حول مسلسل "ضيعة ضايعة" ومقارنته بالمسلسل الأميركي الشهير "عائلة سيمبسون" لجهت تنبؤه بالأحداث، ويقول "لا أعرف علام اعتمد المسلسل الأميركي في تنبؤه بالمستقبل، لكن في ضيعة ضايعة كانت التوقعات مبنية على واقع من الطبيعي أن تكون نتائجه هكذا، وهناك بعض الحالات كانت بذورها موجودة في الواقع، أما التفاصيل التي تشبه ما حدث في المستقبل مثل صراع زهير رمضان في انتخابات النقابة فهي مصادفات لا أكثر".
وكان من المفاجئ أن تخرج تظاهرة في بلاد عاشت عقوداً من الاستقرار السياسي، إلا أن المسلسل عرض قبل الحراك الشعبي تظاهرة خرج بها أهالي القرية للمطالبة بحقوق مدنية، وهو أمر واجهته السلطات بالقمع عبر إظهار العمل الكوميدي سلطات وأفراداً من حفظ النظام تعمل على فض التظاهرة، لكن الأمر الأكثر إثارة هو ما حدث أخيراً حين جعل الشارع السوري برمته يستعيد مشاهدة إحدى حلقات الضيعة بعد صدور قرار من الحكومة برفع الدعم عن السلع الغذائية والمحروقات والوقود، واستبعاد عوائل بحسب تصنيفات وضعتها اللجنة الاقتصادية مع بداية شهر فبراير (شباط) من هذا العام، وكان المسلسل توقع إرسال الحكومة مبعوثاً للوقوف على أحوال الأهالي وفرز من يستحق أن تمنحه ليترات عدة من مادة المازوت، الأمر الذي لم يكن وارداً قبل الحرب حدوثه لتوفر المادة بكثرة.
ويعزو كاتب العمل عدم الخوض بتجربة الجزء الثالث بغية الحفاظ على نجاح العمل، "المحافظة على النجاح أمر صعب، والأصدقاء الذين يدعون لأجزاء أخرى سيهاجمونك بلا رحمة في حال فشل جزء من الأجزاء، ولن يتغاضى أحد عن فشلك". وختم، "أنا متأكد أن العمل كان من الصعب أن يستمر بالزخم نفسه، وأن الجزء الثالث كان سيصبح بداية الانحدار، ولهذا فمن الأفضل الوقوف في مكان يشرف على السهل بدل التدحرج إلى أسفل الوادي".