تتواصل المعارك التي تتزايد ضراوتها يوماً بعد يوم بحثاً عن "الفرصة المنشودة" التي يتباين جوهرها ومضامينها بقدر تباين مواقف الجانبين المتحاربين، على وقع تصاعد حدة الحملات الإعلامية وسيل "الأخبار المكذوبة" التي تتباين بدورها في كثير من جوانبها عن حقائق ما يدور من أحداث وتطورات.
وإذا كانت وسائل الإعلام الروسية، لا سيما الرسمية منها، تقتصر على عدة وكالات وقنوات تكابد كثيراً من المتاعب بسبب ضراوة الإعلام الغربي وما يملكه من منصات عملاقة تضخ يومياً آلاف الأخبار "المسيسة" في معظمها وتتلقفها وسائل إعلام ما نسميها ببلدان العالم الثالث، ومنها بلداننا العربية، فإن ما يتناقله مراسلو الجانبين من موقع الأحداث على طبيعتها يظل يعاني قصوراً وتقصيراً شديدين، ثمة من يقول بالحاجة إلى تصحيحهما بسبب غلبة الخاص على العام والذاتي على الموضوعي.
ولعل ذلك يمكن أن يكون منطلقاً للعودة بالأزمة برمتها لسابق ثوابتها التي تقول اليوم إن روسيا تقف في مواجهة "إحدى شقيقات الأسرة السلافية"، التي تبدو مضطرة إلى خوض الحرب بالوكالة نيابة عن أعضاء حلف الـ "ناتو" بكل ما أعلنه من طموحات لا تتوقف، عند خط أحمر أو حدود جغرافية طالما تدخل التاريخ في رسم ملامحها من دون اعتبار لمواثيق أو متغيرات دولية، ومنها "ميثاق هلسنكي" الذي أعلن في أغسطس (آب) 1975 عن التزام الموقعين عليه بحرمة حدود ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ما يجرى اليوم من أحداث يقول إن الأبواب تظل مشرعة أمام شتى الاحتمالات التي تقول معظمها إن أوكرانيا في سبيلها إلى ضياع كثير من مقدراتها، وربما أيضاً أراضيها في حدود ما قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، وما قبل الانقلاب الذي أطاح الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، وذلك ما تكشف عنه التطورات الأخيرة للأحداث على صعيد الأزمة الأوكرانية، على خلفية ما جرى الحديث عنه في أكثر من موقع ومناسبة منذ فبراير (شباط) 2015 تاريخ توقيع "اتفاقات مينسك" تحت رعاية رؤساء روسيا وفرنسا وألمانيا.
المصادر الروسية، وفي الصدارة منها الرئيس فلاديمير بوتين، تقول إن الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين هو اعتراف بحدودهما التاريخية المنصوص عليها في دستوريهما، بما يعني "أحقية الجمهوريتين في استرداد ما سبق واستولت عليه القوات الأوكرانية بعد معارك ضارية نشبت في أعقاب إعلان الجمهوريتين انفصالهما عن أوكرانيا من جانب واحد في مارس (آذار) 2014".
وحول احتمالات عودة أوكرانيا إلى سابق حدودها قبل اندلاع أحداث الأزمة الأوكرانية في فبراير 2014، نقلت صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" عن فيتالي زاخارتشينكو، وزير الداخلية في حكومة الرئيس الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، "أن عدم استقرار أوكرانيا يعود في جوهره إلى أنها تقوم على رؤى مختلفة للحاضر والمستقبل واللغة والعقيدة. الغرب والشرق والوسط والبحر الأسود وشبه جزيرة القرم مختلفة لدرجة استحالة أن تتفق. يعتقد كل جزء أنه وحده الذي يعرف كيف يجب أن تكون التنمية في البلاد".
ولمزيد من التفسير قال زاخارتشينكو إن كل ما طلبته منطقة "الدونباس" احتجاجاً على الانقلاب الذي أطاح الرئيس الأسبق يانوكوفيتش، وتبريراً لرغبتها في الانفصال "لم يكن يتعدى في بداية الصراع الاستقلال الاقتصادي ثم الاستقلال السياسي"، وأضاف أنها لم تكن تنوي الانفصال عن أوكرانيا قبل بدء المواجهة المسلحة، لكنها اضطرت بعد الانقلاب وعندما بدأت المعارك المفتوحة وبدأ المدنيون يموتون إلى تغيير ما كانت عليه من آراء، ومن هنا يصير من الصعب الآن استمرار ما كان ممكناً في السابق، وما يفرض حتمية البقاء كجزء من أراضي أوكرانيا.
ولمزيد من الدقة أشار الوزير السابق إلى أن الوضع قد يكون في إطار ما سبق وحدده "حزب الأقاليم"، وما تتبناه الأحزاب التي تلتحف بشعارات "الثورة البرتقالية"، ومنها القوى القومية المتطرفة التي ترفع شعارات "النازية"، على حد تعبير المصادر الروسية.
تقليل الدمار والخسائر المدنية
وماذا عن أحداث اليوم وما يرتبط بها من بطء وتيرة التقدم على صعيد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا؟ للإجابة عن هذا السؤال كتبت صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" أن "العملية الخاصة في أوكرانيا دخلت يومها الخامس، وهذا الوقت ليس طويلاً إذا تذكرنا على سبيل المثال أن الحرب في قره باغ استمرت 44 يوماً في العام 2020، ومع ذلك يتساءل كثيرون: ألا تتقدم قواتنا وقوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ببطء؟ ونقلت الصحيفة عن نائب رئيس المجلس الروسي للشؤون الدولية والرئيس السابق لإدارة المعاهدات الدولية بوزارة الدفاع الفريق متقاعد يفغيني بوجينسكي ما قاله في حديثه إلى القناة الأولى في التليفزيون الروسي من أن العملية تسير على ما يرام، وأنه جرى الانتهاء بنجاح من مهمة المرحلة الأولى، غير أنه سرعان ما عاد ليقول إن الصعوبة الرئيسة التي يواجهها المشاركون في العملية من وجهة نظره، هي الأوامر بتقليل الدمار والخسائر المدنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعزا الفريق متقاعد بوجينسكي ذلك إلى أن القوات "لا تحتل المدن"، وأكد أن أحد القيود الجدية في إجراء العملية الخاصة هو أن "قواتنا الجو- فضائية لا تعمل بكامل قوتها"، على الرغم من حقيقة أنها في سوريا هي التي دمرت جميع قواعد الإرهابيين. ومضى ليقول إن القوات الخاصة عادة ما تواجه لدى مهمة "حصار المدن الكبيرة، وهي إذا واجهت مقاومة، تدخل في قتال شوارع".
ولمزيد من التفسير أوجز بوجينسكي الصعوبات الرئيسة التي تواجهها العملية العسكرية في كييف، بقوله إن المدينة "يسهل التعامل معها شرط أمر واحد يتمثل في ضمان موقف السكان"، مشيراً في الوقت نفسه إلى ما يتوفر من انطباع حول أن القيادة الأوكرانية لا تعير كثيراً ما يمكن أن يحدث لاحقاً، كما يفسره ما يقومون به من تفجير للجسور وللبنية التحتية للمدينة.
ومن أخبار الداخل الأوكراني ما أعلنته قيادات الجمهوريتين "المعترف بهما من جانب روسيا" حول مد فترة تداول العملة الأوكرانية "جريفين" حتى 31 من مارس (آذار) الحالي، في الوقت الذي تتواصل فيه العمليات العسكرية من أجل السيطرة على الأراضي التي كانت تابعة تاريخياً إلى مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك حتى 2014 تاريخ إعلان المقاطعتين لانفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا.
وكانت المصادر الروسية من داخل الجمهوريتين أعلنت ما يكابده سكانهما من متاعب ومشكلات جراء استمرار القتال، وما يتعلق به من انقطاع للكهرباء وعدم توافر كثير من مستلزمات الحياة.
فصائل المتطوعين
على أن هناك أيضاً ما يتوقف عنده كثير من المراقبين خلال الأيام القليلة الماضية، ويتعلق بتشكيل ما تسميه القيادة الأوكرانية بالفيلق الأممي أو بالمعنى الدارج فصائل المتطوعين، أو كما تصفهم المصادر الروسية بالمرتزقة ممن يتسلل إلى صفوفهم من إرهابيين يجري تجنيدهم بين صفوف إرهابيي "داعش" والفصائل الإرهابية التي قاتلت في سوريا والعراق، وسبق إرسال بعضهم إلى شبه جزيرة سيناء وليبيا، بحسب تصريحات مصادر سورية، منها نائب وزير الخارجية السورية والمندوب الأسبق لسوريا في الأمم المتحدة بشار الجعفري.
وبهذه المناسبة نقل الموقع الإلكتروني لقناة "روسيا اليوم" الناطقة بالعربية ما أعلنه الرئيس الأوكراني زيلينسكي حول إعفاء الأجانب "المرتزقة" الذين يصلون إلى البلاد للمشاركة في القتال إلى جانب كييف ضد روسيا من تأشيرات الدخول.
وأشارت القناة الروسية إلى أن المرسوم الذي أصدره زيلينسكي ينص على "تطبيق نظام الدخول من دون تأشيرة للأجانب الراغبين في الانضمام إلى فيلق الدفاع الإقليمي الأممي اعتباراً من أول مارس الحالي، وطوال فترة الحرب أو حتى يتخذ الرئيس قراراً آخر في هذا الصدد".
وأضاف وزير خارجية أوكرانيا دميتري كوليبا ما نصه أن "الأجانب الذين يرغبون في الدفاع عن أوكرانيا في إطار فيلق الدفاع الإقليمي الأممي يمكنهم مراجعة سفارات أوكرانيا في بلدان إقامتهم".
واللافت في هذا الصدد أنه في الوقت الذي تنشد فيه أوكرانيا مساعدة العناصر الأجنبية بغض النظر عن اللون أو العقيدة أو العرق، يظهر آخرون ممن يدعمون أوكرانيا على صعيد التضامن الأوروبي للإشادة بالمهاجرين الأوكرانيين ممن يتدفقون إلى البلدان الأوروبية المتاخمة لأوكرانيا.
وفي هذا الصدد كتبت سوسن الشاعر في صحيفة "الشرق الأوسط" تقول، "إن مراسلين أوروبيين لقنوات تلفزيونية شهيرة يصرحون علناً وبكل صفاقة عن تمييزهم للإنسان الأوروبي عن الإنسان العربي أو الأفغاني". ونقلت الشاعر عن "تليغراف" البريطانية ما قالته حول "إنها حرب ضد أناس أوروبيين يشبهوننا ويستخدمون نيتفلكس وإنستغرام، وليست حرباً ضد بلاد بعيدة وفقيرة".
أما الإعلام الفرنسي فقال "نحن لا نتحدث هنا عن سوريين بل عن أوروبيين مثلنا يحاولون النجاة بحياتهم". وتمضى سوسن الشاعر لتنقل عن مراسل "سي بي أس" ما قاله حول أن "أوكرانيا ليست العراق ولا سوريا ولا أفغانستان، هذا بلد متحضر ودولة أوروبية ولا يصح أن يحدث فيها مثل هذا".
ولم يقتصر الأمر على مراسلين أو صحافيين أو مراقبين، إذ تجاوزهم رئيس الوزراء البلغاري ليقول "إن اللاجئين الأوكرانيين ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، إنهم أوروبيون مثقفون ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً كأن يكونوا إرهابيين".
التعايش مع العقوبات
وعلى صعيد الداخل الروسي تواصل السلطات الرسمية إعادة بناء البيت من الداخل بما يتواءم مع العقوبات التي تتزايد حدتها يوماً بعد يوم، لا سيما بعد إعلان الاتحاد الأوروبي تهديداته لروسيا بحرب اقتصادية ومالية شاملة، بحسب إعلان برونو لومير وزير المالية الفرنسي في تصريحاته لراديو فرانس إنفو حول "أن الاتحاد الأوروبي سيحاول قمع موسكو اقتصادياً".
وكانت الدول الغربية أعلنت فرض عقوبات جديدة، ومنها حظر العمليات المتعلقة بإدارة احتياطات وأصول بنك روسيا، إلى جانب الضغوط التي تواجهها العديد من المؤسسات المالية الكبرى، بما في ذلك فصل بنك "Sberbank" وبنك التجارة الخارجية "VTB" عن منظومة "SWIFT".
وفي ما يتعلق بحظر الطيران الروسي في أوروبا، قامت موسكو بالإعلان عما اتخذته من قرارات تفرض المعاملة بالمثل، وهو ما قال ممثلو كثير من شركات الطيران الأوروبية إنه يلحق بها كثيراً من الأضرار الجسيمة، كما أعلن وزير المالية الروسية أنطون سيلوانوف خلال اجتماعه مع رئيس الحكومة عن إعداد عدد من المقترحات حول إصدار عفو عام عما وصفه بأكبر "عفو عن رأس المال"، جرى التعهد به في 2015 و2018 و2019، مؤكداً أن الحكومة الروسية تفعل ذلك لضمان رأس المال الروسي الموجود الآن في الخارج.
أما في ما يتعلق بالعزلة الدولية التي تحاول البلدان الغربية التشديد من ربقتها حول روسيا، فتقول المصادر الروسية الرسمية إن ما جرى ويجري بحق روسيا ليس غريباً على موسكو التي سبق وعاشت كثيراً من ويلاته إبان سنوات الحرب الباردة على مدى عقود طويلة.
وكانت موسكو تحسبت لذلك بتوطيد اتصالاتها مع كثير من البلدان الآسيوية ومنها الصين والهند وإيران، وكثير من بلدان جنوب شرق آسيا، فضلاً عن تدعيم علاقاتها بكثير من بلدان الفضاء السابق ومنها أذربيجان التي عقدت معها خلال الأسابيع القليلة الماضية عدداً من المعاهدات التحالفية، وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزيا وبيلاروس التي ترتبط معها بمعاهدات اتحادية.
وفي هذا الصدد ننقل عن رئيس كازاخستان قاسم توكايف ما قاله في معرض تفسيره لأسباب الازمة الأخيرة حول عدم تنفيذ السلطات الأوكرانية "اتفاقات مينسك" التي ظلت "حبراً على ورق"، على حد تعبيره.
ودعا توكايف طرفي النزاع إلى "إيجاد لغة مشتركة على طاولة المفاوضات"، وأضاف أنه "لا توجد طريقة أخرى. السلام السيئ أفضل من الشجار الجيد، ولن تكون هناك تنمية من دون سلام".
