لم يكن ينقص المشهد المشتعل الملتبس الحالي سوى دخول مرتزقة أو حتى مقاتلين أجانب على الخط، فقبل أيام قليلة ظن العالم أنه تلقى أقصى درجات الدهشة حين غزت أو دخلت أو اعتدت أو اضطرت روسيا إلى الاعتداء على أوكرانيا، لكن واقع الأحداث المذهلة المتسارعة يشير إلى أن الدهشة كانت مجرد فاتح شهية، وأن ما هو قادم أعتى وأقوى وأدهش. مصادر الدهشة تعددت وتواترت، فمن تخبط وتردد غير مسبوقين من أغلب دول العالم التي وقف أغلبها متردداً متحسساً طريق الشجب أو التأييد حتى ساعات قليلة مضت، إلى تفجر المخاوف الشعبية من القوى النووية التي تلوح في الأفق، إن لم يكن من أقصى الشرق فمن منتصفه، إلى تأرجح الرئيس الأوكراني الممثل الكوميدي السابق فولوديمير زيلينسكي بين وصم العالم له بالضعف والارتباك، ثم وصفه له بالتفرد والتميز والثبات، ولم يكد العالم يتلقط أنفاسه حتى ضربته الدهشة مجدداً.
فتح باب التطوع للأجانب
الإعلان الأوكراني عن فتح باب الحرب أمام المتطوعين من محبي أوكرانيا من غير الأوكرانيين حول العالم من أجل تحريرها، لم ينافسه في الغرابة سوى ردود فعل عالمية لم تشجب أو تندد أو تستنكر الدعوة العامة لاستقبال مقاتلين أجانب، بل أعلنت تفهمها وتقبلها للفكرة وتقديمها كافة التسهيلات التي تساعد مرتزقة العالم أو محبي أوكرانيا الأجانب على دخول أوكرانيا وحمل السلاح. فقبل ساعات دعا زيلينسكي الأجانب المحبين لأوكرانيا إلى التوجه لسفارات بلاده في جميع أنحاء العالم للانضمام إلى "لواء دولي" للمساعدة في تحرير أوكرانيا من القوات الروسية الغازية. وجاء في بيان الرئيس الأوكراني أن القيادة ترحب بالأجانب الراغبين في الانضمام للمقاومة وحماية الأمن العالمي، وما عليهم سوى القدوم للبلاد والانضمام إلى صفوف المدافعين عنها، وجاء أنه يجري حالياً تشكيل وحدة منفصلة من الأجانب المقاتلين، وعلى سبيل تحفيز "الأجانب المحبين لأوكرانيا" قال زيلينسكي "إن المسألة ليست مجرد غزو دولة لدولة أخرى ذات سيادة، لكنها بداية حرب ضد أوروبا كلها".
حلبة الحرب العالمية الثالثة
أوروبا التي تخشى أن تكون أراضيها حلبة الحرب العالمية الثالثة ونقطة انطلاق شعلتها لم تفزع لهذه الدعوة، بل يبدو أنها توقعتها أو هضمتها أو أيدتها أو أخرجتها من مأزق عدم مشاركتها بإرسال المقاتلين الذين تفتقد أوكرانيا وجودهم بشكل لا يدع مجالاً للشك. وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس فاجأت العالم بتأييد منقطع النظير للدعوة، وقالت "إن بريطانيا تدعم من يرغب في التوجه إلى أوكرانيا للانضمام إلى اللواء الدولي للقتال، وأن قرار التوجه للدفاع عن كييف والمشاركة في هذه المعركة التي تدور من أجل الديمقراطية متروك لمن يرغب".
أما وزير الدفاع البريطاني بن والاس فقال "إن بلاده ستدعم أوكرانيا، لا عن طريق إرسال قوات بريطانية للقتال ولكن بدعمها حتى تتمكن من القتال في كل الشوارع باستخدام كل أنواع المعدات التي يمكن لبريطانيا الحصول عليها".
التصريحات الأوكرانية الرسمية تشير إلى أن سفاراتها في دول عدة في العالم بدأت تستقبل جحافل المقاتلين الأجانب الراغبين في التوجه إليها، مع تأكيدات متكررة على أن هؤلاء سيتم تدريبهم وتسليحهم عسكرياً.
مقاتلون ومرتزقة
التدريب والتسليح العسكري لأجانب للانضمام إلى صفوف المقاتلين ليس وليد الأزمة الأوكرانية الروسية، والمسمى المباشر لهؤلاء الذي يزعج بعضهم هو "مرتزقة"، والمرتزق بحسب موسوعة بريتانيكا، "هو الجندي المحترف المستأجر الذي يقاتل من أجل أي دولة أو أمة من دون شرط الإيمان بقضية المتحاربين أو أيديولوجيتهم".
العديد من الحروب التي دارت رحاها في دول عدة حول العالم على مدى قرون شهدت وجود مقاتلين أجانب يقاتلون في صف هذا الجيش في مواجهة ذاك، وأحياناً كان مقاتلون أجانب ينتمون لقبيلة واحدة أو دولة واحدة يجدون أنفسهم يحاربون بعضهم في الحرب ذاتها.
كما تزخر كتب التاريخ بكوارث كبرى نجمت عن ضلوع محاربين أجانب في حروب لا علاقة تاريخية أو وطنية أو قومية أو حتى أيديولوجية لهم بها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المقاتلين الإسبان الذين استأجرتهم الإمبراطورية البيزنطية لمحاربة الأتراك انقلبوا بعد المساعدة في هزيمة العدو على من استعان بهم، وهاجموا إحدى المدن البيزنطية وظلوا يعيثون في المدينة والمدن المجاورة لها فساداً وخراباً قبل أن يسافروا لمقدونيا.
السفر صعب
السفر لأوكرانيا حالياً صعب لكنه ليس مستحيلاً، والتصريحات التي ترد من أوكرانيا تشير إلى أن السلطات الأوكرانية تدرك أن المجال الجوي مغلق، لكن يجري تنسيق طرق السفر البديلة لاجتياز الحدود ودخول أوكرانيا براً وربما بحراً.
وتشير تقارير صحافية إلى عبور نحو 22 ألف مواطن أوكراني كانوا يقيمون في الخارج عبروا الحدود إليها منذ بدء العملية الروسية العسكرية الخميس الماضي، بهدف مساعدة القوات الأوكرانية أو الانضمام إلى أسرهم المقيمة في الداخل.
كما أفاد مراسل موقع "باز فيد" الأميركي الإخباري بأن 10 من قدامى قوات العمليات الخاصة من جنسيات مختلفة موجودون في بولندا ويخططون للعبور إلى أوكرانيا للانضمام إلى "جهود الدفاع عن أوكرانيا وأوروبا والعالم"، وأن أحد الضباط المخضرمين في الجيش يتخذ الإجراءات اللازمة لمرورهم.
المجموعة تتكون من ستة أميركيين وثلاثة بريطانيين وألماني، وجميعهم تلقى تدريباً من قبل الـ "ناتو"، ولديهم الخبرة في القتال المباشر ومكافحة الإرهاب، ويأملون بأن يكونوا النواة الأولى لـ "اللواء الدولي" الذي دعا إليه الرئيس الأوكراني لتحرير بلاده.
دعوات مبكرة
الغريب أن العديد من المنصات الإعلامية الأوكرانية سبقت زيلينسكي في مناشدته المفاجئة لدعوة المقاتلين الأجانب السفر إلى كييف لحمايتها، فمنذ يناير (كانون الثاني) الماضي والدعوات موجهة إلى الأجانب الراغبين في الدفاع عن أوكرانيا "ضد عدوان روسي محتمل"، لاتباع الإجراءات والخطوات المنصوص عليها، وتم فتح باب التبرعات المالية لمصلحة أوكرانيا وهي التجربة التي خاضتها الأخيرة في موقف شبيه عام 2014 حين تلقت تبرعات عينية ومالية لمصلحة الجيش النظامي و"تشكيلات المتطوعين"، وحصيلة التبرعات هذه المرة ستذهب لدعم الجيش الأوكراني و"المتطوعين" بالسلاح والبرمجيات العسكرية والطائرات المسيرة والتدريب وغيرها.
يشار إلى أن قانون المقاومة الوطنية الجديد صدر في أول يناير الماضي وجعل من كيان اسمه "قوات الدفاع الإقليمية عن أوكرانيا" كياناً قانونياً، وهذا الكيان يستقبل الأوكرانيين من المدنيين الراغبين في الانضمام للدفاع عن البلاد بنظام "نصف الوقت"، أي الدوام الجزئي ومن دون أن يخسروا وظائفهم المدنية أو يتركوا أسرهم.
كما يستقبل الأجانب الذين أقاموا مدة خمس سنوات في أوكرانيا بشكل قانوني، ويودون الإسهام عسكرياً في عملية الدفاع ودرء الخطر الروسي والمعلومات وشروط التقدم موجودة على "فيسبوك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المقاتلون الأجانب المدربون فيمكنهم التقدم للانضمام إلى القوات المسلحة الأوكرانية، وكذلك الحرس الوطني كجنود في الخدمة العسكرية الفعلية، وهو ما يسمح به القانون في أوكرانيا.
ويتيح القانون للجيش الأوكراني توقيع عقود خدمة مع أشخاص أجانب تنطبق عليهم شروط اللياقة البدنية والعقلية لشغل وظائف جنود على أن تتراوح الأعمار بين 18 و40 عاماً، وقد تمتد لـ60 عاماً في حالات استثنائية. ويتقاضى هؤلاء رواتب مثل التي يتقاضاها الجنود الأوكرانيون.
"فاغنر" الغامضة
الأبواب الأوكرانية المفتوحة على مصاريعها حالياً تعيد ذكريات العمليات العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا عام 2014، وكان للمرتزقة والمقاتلين الأجانب دور كبير في القتال مع وضد كل المتحاربين.
استدعاء منظومة المقاتلين الأجانب أو المرتزقة مجدداً في الوضع الراهن يستوجب التذكير بـ "فاغنر"، المنظمة الروسية "شبه العسكرية" أو الشركة العسكرية الخاصة، وفي أقوال أخرى المنظمة الروسية المتخصصة في المرتزقة تطرح نفسها كفكرة بقوة هذه الآونة، وكان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على "فاغنر" في ديسمبر (كانون أول) الماضي لاتهامات طالتها تتعلق بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق النزاع التي قاتل فيها "موظفوها" مثل جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وغيرهما. وأشار الاتحاد وقتها إلى أن الغموض الذي يكتنف الوضع القانوني لها يجعل مساءلة المجموعة صعبة للغاية.
صعوبة تحديد وضع "فاغنر" تعني أنها غير موجودة على الورق منذ تأسيسها عام 2014 لدعم الانفصاليين الموالين لروسيا شرق أوكرانيا، والاستقصاءات الصحافية وربما الاستخباراتية لدول عدة تشير إلى أن الشركة يمولها رجل الأعمال القريب من الرئيس الروسي يفغيني بريغوجين الذي فرض عليه كل من الاتحاد الأوروبي وأميركا عقوبات بسبب اتهامات له بزعزعة الاستقرار في ليبيا والتدخل في الانتخابات الأميركية.
وحين سئل الرئيس الروسي عن "فاغنر" العام الماضي قال إنها شركة خاصة لديها مصالح مرتبطة باستخراج الطاقة والذهب والأحجار الكريمة، وأنه في حال تضاربت مصالحها مع نظيرتها الدولة الروسية فبالتأكيد يحب أن نتصرف".
شركات المقاتلين
مساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية والمتخصص في الشؤون الأميركية عمرو عبدالعاطي يرى "أن المقاتلين الأجانب وشركات الأمن الخاصة أصبحوا هاجساً لدى كثير من الدول، لا سيما بعدما أصبح في حكم المؤكد استخدام روسيا لها في العديد من أماكن الصراع".
ويقول "إنه على الرغم من انتقاد الدول الأوروبية لهذا النوع من المقاتلين، فإن الموافقة الضمنية الحالية على الاستعانة بهم لمواجهة التدخل الروسي في أوكرانيا مسالة براغماتية لأقصى حد في ظل الوضع المتأزم الحالي والوضع بالغ الصعوبة الذي وجدت الدول الأوروبية نفسها فيه، حيث التخبط الواضح في ردود الفعل تجاه الأزمة".
ويضيف، "على الرغم من الموافقة الضمنية على الاستعانة الأوكرانية بمقاتلين أجانب، لا سيما في ظل تقاعس أو اختيار هذه الدول لعدم إرسال قوات لدعم القوات الأوكرانية، إلا أن مخاوف كبرى تعتري هذه الدول جراء ما قد ينجم عن شوكة المقاتلين الأجانب التي ستقوى في أوكرانيا وتمتد منها إلى بقية أوروبا".
انتقال الخبرات العسكرية إلى المدنيين أمر بالغ الخطورة، لا سيما في ظل تنامي النزعات والنعرات القومية البيضاء في عدد من دول الغرب، وهو ما قد يؤدي إلى تقوية ودعم موجات الإرهاب الداخلي في تلك الدول.
ويوضح عبدالعاطي "أن نجم الإرهاب في العالم حالياً لم يعد مصدره تنظيمات مثل (داعش) أو (القاعدة) بل بات داخلياً، وعدد قتلى عمليات الإرهاب الداخلي يفوق نظيره الخارجي بكثير".
توسيع قاعدة المقاتلين الأجانب
واستساغة فكرة المرتزقة يتوقع أن تقوي شوكة المعارضة المسلحة في دول لم تعتد هذا الشكل من التعبير السياسي العنيف في التاريخ الحديث، ويتوقع عبد العاطي "أن يؤدي الدعم الأوروبي أو حتى الصمت على مبدأ الاستعانة بمقاتلين أجانب في أوكرانيا إلى السكوت عن الاعتماد الروسي الكبير على شركات الأمن الخاصة، وهي شركات شبه عسكرية قد تتطور بدورها وتستخدم الأسلحة الثقيلة في مرحلة قريبة".
من جهة أخرى، يلفت إلى "الخلفيات الاجتماعية والتعليمية والثقافية المختلفة التي ينتمي إليها المقاتلون الأجانب، والتي في الأغلب لا تؤهلهم للتعامل السلمي مع أسرى الحرب والجرحى وغيرها من المسائل المتعلقة بقواعد الجيوش النظامية، وهو ما قد تنجم عنه انتهاكات رهيبة يصعب محاسبة مقترفيها لأنهم ليسوا جنوداً"، بالإضافة إلى أن كلفة النعوش العائدة إلى الدول التي سمحت لمواطنيها بالسفر للحرب "من أجل الدفاع عن أوكرانيا وأوروبا والسلام"، ثم قضوا هناك، وهي العودة التي تكلف الأحزاب والأنظمة الحاكمة كثيراً وتنتقص من شعبيتها، وقد تنهي مسيرتها السياسية.
وعلى الرغم من خبرة عميقة وأليمة لعدد من الدول العربية في ملف "المقاتلين الأجانب" أو "المرتزقة" وما يعرف بـ"الأفغان العرب" الذين سافروا للانضمام إلى صفوف المقاتلين في أفغانستان لمقاومة الغزو السوفياتي، وهي الخبرة التي نجمت عنها عقود طويلة وأيديولوجيات غيرت وجه الحياة ونسيج عدد من المجتمعات، فإنه لا يتوقع أن يشكل المقاتلون العرب جزءاً كبيراً من "اللواء الدولي" لتحرير أوكرانيا، إلا لو خرج هؤلاء من بلدانهم بطرق غير قانونية أملاً في التربح من المشاركة في القتال. أما أصحاب الأيديولوجيات المتطرفة لأغراض دينية فهؤلاء يحسبون أوكرانيا على "الغرب الكافر"، مما يعني انتقاء داعي الحرب من الأساس".