ترتبط أوبرا "عايدة" للموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي (1813 – 1901) بافتتاح قناة السويس في مصر خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1969 برباط محكم لا يرى كثر عنه بديلاً، بمعنى أنه يبقى من الصعب دائماً إقناع هؤلاء بأن هذه الأوبرا التي تُعتبر من أشهر إبداعات فيردي، بل ربما أشهر أوبرا أوروبية على الإطلاق، لم تكُن هي ما قُدّم للمناسبة العالمية التي شاءها الخديوي إسماعيل نقطة الذروة في جهوده الهائلة المتمثلة في رفد مصر بمشاريع وإبداعات، تؤكد ما كان يريد لهذا البلد الذي عشقه أن يكون، أي قطعة حيّة من أوروبا.
الحق على الحرب الألمانية
صحيح أن فيردي لحّن تلك الأوبرا بناء على طلب من الخديوي الطموح، وأنجزها في وقت يكفي للعمل على تنفيذها وتقديمها في المكان المحدد والموعد المضروب. الموعد المتعلق بالاحتفالات العالمية التي ستشهدها مصر في ذلك الحين يوم يُحتفل بشقّ القناة. وصحيح أن الخديوي قد دعا زعماء العالم ووجوهه السياسية والفكرية والفنية والاجتماعية لحضور الحفلات الصاخبة الممتدة من السويس إلى القاهرة وصولاً إلى جولات في أنحاء مختلفة من وادي النيل، وأن أكثر أولئك قد لبّوا الدعوة بالفعل، ليتجمعوا في مصر بشكل لا سابق له حتى إن تخلّف بعض كبار الكبار، غير أن أولئك الحضور لم يتمتعوا بمشاهدة "عايدة" كما كانوا يأملون، بل شاهدوا بدلاً منها أوبرا أخرى سابقة عليها لفيردي هي "ريغوليتو". غير أنهم في الموعد المعين لتقديم الأوبرا كانوا يعرفون ذلك. وكانوا يعرفون السبب. وفيردي نفسه كان أعلن السبب في رسالة بعث بها إلى صديقه النحات الروماني فنشنزو لوكاروني يقول فيها بوضوح: "إن الأوبرا التي لحّنتها من أجل القاهرة قد أنجزت، لكنها لن تُقدّم لأن الأزياء والديكورات التي صُنعت من أجلها بقيت عالقة في باريس. لكني لست أرى في ذلك شراً كبيراً. الشر الأكبر يكمن في تلك الحرب المريعة التي شنها البروسيون على فرنسا حيث تُحتجز الأزياء والديكورات. والشر الأكبر يكمن في تلك الهيمنة التي يمارسها البروسيون والتي ستكون قاتلة في المرحلة التالية حتى بالنسبة إلينا. فهي لم تعُد حرب غزو أو حرب طموحات، بل هي حرب عنصرية، حرب سوف تدوم زمناً طويلاً (...) إن جبروت هؤلاء الغوث الهمجيين الجدد هي ما يرعبني".
تطلعات حاكم متنور
واضح هنا أن ما يتحدث عنه فيردي خارج سياق تأكيده عدم التمكن من تقديم "عايدة" في موعدها المصري، إنما هو الحرب البروسية (الألمانية) – الفرنسية التي كانت قد بدأت تندلع لتصل إلى ذروتها في كومونة باريس عام 1871، التي طبعاً ستوقف، في ما توقف، عمليات تنقّل الشحن بين فرنسا ومصر. بالتالي ستمنع "عايدة" من أن تُقدم حيث كان يجب أن تقدم، أمام الجمهور الذي كان ينتظرها بلهفة وفي حضرة الخديوي الذي كان هو في الأصل صاحب الفكرة. ونعرف طبعاً استناداً إلى تاريخ هذه الأوبرا وعلاقتها بالبلاط المصري كما بقناة السويس، أن إسماعيل، حفيد محمد علي باشا وابن إبراهيم باشا، الذي كان قد آلى على نفسه أن يحقق حلماً كان يداعب فكر وخيال مصر من الأسرة العلوية ويتمثل في ألّا يكون انتماء مصر إلى أوروبا مجرد خطب وشعارات أو أمنيات، بل فعلاً حضارياً، يتحرك في الاتجاهات شتى لتحقيق ذلك الحلم الذي تنوعت أساليبه تحت أنظار العالم والسان سيمونيين والنخب المصرية نفسها، فاستدعي كبار المعماريين تحت زعامة البارون هوسمان، باني باريس الحديثة، ليعيدوا تخطيط وبناء وسط القاهرة وفردينان دي ليسبس ليحقق حلمه بشق تلك القناة الهائلة الرابطة بين البحر الأحمر والبحر الأبيض، جاعلة من مصر مركزاً لعالم جديد، وزيّن ذلك كله بنهضة فنية وفكرية وعمرانية وحتى سياحية ستكون الإمبراطورة الفرنسية أوجيني، زوجة نابليون الثالث وضيفة الخديوي الرئيسة في الاحتفالات التي تحدثنا عنها، حجر الرحى فيها بالتجوال الذي قامت به في الديار المصرية، مصحوبة بصحافة العالم تتابع أخبارها في كل لحظة وحين.
بين فاغنر وغونو وفيردي
ولتتويج ذلك كله، رأى الخديوي أن لا بد من أن تكون ثمة أوبرا خاصة تليق بالمناسبة، في وقت كان فن الأوبرا يشغل مركز الثقل في الحياة الفنية الأوروبية. ومن هنا، طلب من مستشاريه، لا سيما منهم مارييت باشا، الفرنسي المعتبر حينها من أعلم الأوروبيين بالتاريخ المصري القديم كما بالذهنيات الراهنة في مصر، أن يُصار إلى التوصية على أوبرا تُكتب خاصة للمناسبة، مصرّاً على أن يُعهد بالمشروع إلى واحد من ثلاثة: الألماني ريتشارد فاغنر الفرنسي شارل غونو والإيطالي جوزيبي فيردي. ووقع الاختيار على فيردي في نهاية الأمر، هو الذي كان قد أنجز للتو أوبراه الكبيرة "قوة الأقدار" لحساب المسرح الإمبريالي في سانت بطرسبورغ الروسية، وأوبرا "دون كارلوس" لحساب أوبرا باريس، مثبتاً قدمين راسختين في تلحين الأوبرات التاريخية وذات المشاهد الجماعية. ومن الواضح أن ذلك ما كان مطلوباً لافتتاح قناة السويس الصاخب. ومن هنا، وافق فيردي على المشروع، وبدأ العمل من فوره وكله أمل في أن يتحقق الحلم الذي بات جماعياً هذه المرة: حلم أن تشهد الليلة المحددة، ليلة 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1869 العرض العالمي الأول لتلك الأوبرا التي ستعيش حياة صاخبة وسمعة هائلة بعد ذلك. ولكن، وكما أشرنا، ليس في ذلك الموعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البديل في ميلانو
أما في ذلك الموعد فتم، إذاً، تقديم "ريغوليتو" وسط خيبة أمل سرعان ما تبددت خلال دقائق من بدء العزف، فـ"ريغوليتو" في نهاية الأمر واحدة من أعمال فيردي الكبرى. وكانت متعة مشاهدتها في القاهرة لا تقدّر بثمن. أما "عايدة"، فإنها سوف تقدم في القاهرة بعد ذلك بعامين وأكثر، وبالتحديد يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) 1871، ولكن من دون حضور فيردي نفسه الذي بدا الآن ضئيل الاهتمام بمتابعة المصير المصري لعمله الكبير هذا، ومن دون نجمة الغناء الأوبرالي العالمية في ذلك الحين تيريزا ستولتز التي كانت مرتبطة بعقود إيطالية تمنعها من السفر. ومهما يكُن من أمر، كانت هي وكذلك ملحنها المفضل فيردي يوم التقديم المصري لـ"عايدة" منهمكين في التحضير لتقديم هذه الأوبرا نفسها على خشبة "سكالا" ميلانو التي كان فيردي لا يتوقف عن أن يحلم بالعودة بموسيقاه إليها منذ ثلاثين عاماً، وها هو يفعل الآن عبر أوبرا كانت حكاية قناة السويس وتأجيل تقديمها هناك، وارتباطها بفورة الاهتمام العالمي بمصر، ناهيك عن المقالات الصحافية المسهبة التي راحت تملأ الصحف الأوروبية والعالمية عموماً حول الديون الضخمة التي نجمت عن النفقات التي بذلها الخديوي إسماعيل، بما فيها ما أنفقه على تلك الأوبرا التي لم تقدم – وهي الديون التي سوف تتسبب في احتلال الإنجليز لمصر في تلك الأيام بالذات، تالياً لثورة عرابي وسقوط إسماعيل المدوي بكل أحلامه الحضارية ونشاطاته التنويرية، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع -، كانت تلك الحكاية قد ضاعفت من الاهتمام العالمي بها.
"أغنى تجربة فنية في حياتي"
مهما يكُن، نعرف أن "عايدة" التي كان قد فات أوان حصولها في مصر على مكانة أساسية وإن كانت قد فتحت عيون كبار المبدعين المتنورين في المحروسة على ألوان موسيقية وغنائية يمكنهم أن ينهلوا منها محلياً بالاستناد إلى تاريخ بلدهم القديم. وفي هذا السياق ذاته، لن يفوت فيردي أن يقول لخلصائه أمام النجاح الجماهيري والنقدي الذي حققه تقديم "عايدة" في "سكالا ميلانو" كم أن هذا النجاح أثلج قلبه وعوّض عليه خيبته المصرية. ومن المعروف أن فيردي وعلى ضوء ما جابه هذا العمل من نقد وتحليل، عمل خلال المرحلة اللاحقة على إحداث قدر كبير من التعديلات على بعض أهم أوبراته الكبيرة من "دون كارلوس" إلى "سيمون بوكانيغرا" و"قوة الأقدار"، مروراً بـ"نابوكو" (نبوخذ نصر)، ما كان يمكنه أن يجريها لولا مروره بـ"تجربة عايدة" التي ظل حتى آخر حياته يعتبرها "أغنى تجربة فنية في تلك الحياة".