يمكن تناول مسرحية يحيى جابر "تعارفوا" بالنقد المسرحي التقليدي، أي الإخراج والسيناريو والسينوغرافيا وأداء الممثلين والإضاءة والموسيقى. لكن في هذه المسرحية تحديداً، لا يمكن استخدام عدة النقد المتعارف عليها لعمل مسرحي، لأن هذه المسرحية لا تضم ممثلين محترفين، ولم تبن على نص مكتوب ومحدد أو معروف، بل هم شباب وصبايا لبنانيون من طوائف ومذاهب ومناطق وطبقات مختلفة، وتضم أيضاً شباباً من جنسيات غير لبنانية أو من جنسيات مشتركة لبنانية وسورية وفلسطينية تحديداً، خصوصاً أن الأم اللبنانية لا يمكنها منح جنسيتها لأولادها في ما لو كان زوجها من جنسية أخرى وتحديداً فلسطينية وسورية. يشترك بعض الممثلين بهذا التيه الهوياتي، لكونه ولد وتربى وترعرع وعاش كل عمره في لبنان، ولكنه لا يحمل الجنسية اللبنانية لأنه من أم لبنانية وأب من جنسية أخرى. ثم يضاف إلى الهوية نفسها ما يتتابع تحتها، من صورة صاحب الهوية عن نفسه وصورته في عيون الآخرين، ونظرته إلى حياته وتفاصيلها في الاجتماع اللبناني الذي يضم شعوباً ومناطق ومذاهب وأفكاراً مسبقة تسبغ على كل شخص بحسب هويته ومكملاتها هذه.
المخرج الطبيب النفسي
المسرحية في جلها نتجت عن ورشة عمل دؤوبة ومجهدة ومسلية ومنتجة في الوقت عينه. فقد تمكن يحيى جابر من جمع شتات من الشباب اللبناني ودفعهم نحو خشبة المسرح كي يعبروا عن مكنوناتهم تجاه ولادتهم هنا وحملهم لهوية دينية أو طبقية أو مناطقية معينة. وقد ساعدهم جميعهم بأن يظهروا إلى العلن هذه التعقيدات الوجودية في نفوسهم، والتي بسهولة تحولت إلى عقد نفسية متراكمة بعضها فوق بعض، مثلهم مثل غيرهم من اللبنانيين سواء الأصغر منهم سناً أو الأكبر سناً، والذين مروا بالتجارب نفسها التي يمر فيها هؤلاء الشباب. وقد لعب جابر في ورشته التي أقامها بدعم من جمعية "مارش" اللبنانية دور المخرج والطبيب النفسي لهؤلاء الشباب. ومعروف أن جمعية "مارش" تدعم كل المشاريع التي تهدف إلى التقريب بين فئات الشعب اللبناني وتحديداً الشباب.
فتح جابر للشبان والشابات خلال التدريب، خشبة المسرح كأنها سرير الطبيب النفسي الذي يفضون إليه مشاعرهم المتراكمة كجبال في نفوسهم. وهذا لم يفتح للشباب الـ18، وهو عدد الطوائف اللبنانية التي تحاول التعايش، الباب كي ينفسوا عن همومهم فقط، بل واكتشاف مواهبهم الخاصة التي تبين بقليل من الجهد أنها مكنونة في كل واحد منهم، ولكن كانت تحتاج إلى من يكشف عنها أو يصقلها. فصار هؤلاء الشباب يقيمون في أربع طيات زمانية ومكانية داخل هذه المسرحية. فهم في مواجهة المخرج أولاً، لا يتلقون التعليمات والنصوص منه، بل يقومون بها أمامه ويختار من بينها الألمع أو الأكثر مباشرة. وفي الطية الثانية يقفون أمام أنفسهم يحاولون تقديم الصورة الأبرع والأظرف والأكثر تهكماً عما يعايشونه. ويقفون بعضهم أمام بعض كي يعبروا عن كل اختلافاتهم التي ستفضي إلى تعارفهم. وهم ثالثاً أمام الجمهور، ينقلون له ما قدموه أمام مخرجهم الذي يسحب منهم طاقتهم الكامنة، ويتقدمون بمجمل العمل المسرح وهو مجموع مونولوغات كل واحد منها يعبر عن الذات والنقاش الحاد في داخلها، وثم تحويلها إلى عمل مسرحي متناسق ومتسلسل كما أراد له المخرج أن يكون.
هكذا تكون تركيبة المسرحية بأكملها قد اكتملت: لقاء المخرج مع الشباب، ثم لقاؤهم والتعارف وبعده ثم التفاهم ثم محاولة إيجاد نقاط مشتركة بين الجميع، يبنى على أساسها النص. وهذا ما نجح فيه يحيى جابر نجاحاً واضحاً. وقد ساعدته بذلك العفوية التي يتمتع بها كل ممثل، والصراحة والجرأة في طرح المواضيع التي تجعل من اللبنانيين ومن جيرانهم غير اللبنانيين الذين يسكنون بين ظهرانيهم، بعيدين بعضهم عن بعض أو غير متعارفين أو يملك كل واحد منهم صورة "كيتشية" عن الآخر، لا يمكن له أن يكسرها أو يبدلها إلا من خلال التعارف بهذا الآخر.
كوميديا طائفية
هكذا يصبح عنوان المسرحية شديد الوضوح "تعارفوا" (كوميديا طائفية)، فهو، رغم أنه فعل أمراً، فإنه يبدو كسؤال أكثر، أي ما الذي قد نكتشفه في ما لو جمعنا شباباً لبنانيين شديدي الاختلاف في انتماءاتهم وسكنهم ومداخيلهم؟ وكذلك في الصورة التي يملكها كل واحد منهم عن الآخر؟ ويبدو أن العنوان مستل من الآية القرآنية، "إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، أي أن سبب خلقكم مختلفين هو أن تتعارفوا في ما بينكم وتتقبلوا بعضكم بعضاً. وبمفهوم يحيى جابر لا يكون التعارف لزوم ما لا يلزم، أي مجرد تعارف خارج عن متطلباته الطبيعية والمنطقي والواقعية (تعارف واقعي على خلاف التعارف الحديث على الطريقة الافتراضية)، أي التعارف عبر عرض ما في داخل النفس إلى الخارج وعلى مرأى ممن نريد التعارف معه.
وهذا ما نجح فيه المخرج يحيى جابر، وباللغة الشعرية نفسها التي استخدمها في مجمل مجموعاته الشعرية أو مسرحياته، مثل مسرحية "ابتسم أنت لبناني" أو "مجدرة حمرا" أو في مجموعتي "الزعران" و"بحيرة المصل"، حيث الصوت اللغوي الواضح والمباشر والممزوج بتهكم عال الصوت، وهو ما يتقنه يحيى جابر في التعبير عن نفسه، وهو ما يفعله أيضاً في الفيديوهات التي ينشرها على موقع "فيسبوك" حول حياته الشخصية وحول الأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، والتي يتهكم عليها يحيى جابر بجدية سوداء، حتى يحار المشاهد بين أن يضحك أو يحزن بعد الانتهاء من مشاهدتها.
طوائف ومناطق
الشباب المشتركون في المسرحية والذين يؤدي كل واحد منهم الشخصية المفترض أنها متعارف عليها بين الجمهور، كأن يكون الشيعي من منطقة معينة ومن طبقة فقيرة يملأ جسمه بالوشوم ويتكلم بنبرة مشاكسة ويطلب العنف طلباً، أو أن يكون المسيحي مهذباً طوال الوقت والسني كما لو أنه غير متصل مباشرة بالأحداث على الأرض، وفق ما يرد به وصف سنة لبنان عموماً... ولكن لا بد من الإشارة إلى أن يحيى جابر لا يأتي من مكان آخر ليكتشف ما سيقوله الشباب عن هوياتهم، بل من الواضح أن تجربة جابر الحياتية في لبنان والمبتدئة في كونه مقاتلاً ميليشياوياً خلال الحروب الأهلية اللبنانية، وقد حكى عنه مطولاً في "الزعران"، تظهر واضحة في كل النص الذي هو عبارة عن مونولوغات منفردة، أو "ستاند آب" كوميدي جماعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحيى الذي يصنف في لبنان من جيل "شعراء الحرب"، يعرف تماماً موضوعه، وكانت له أعمال ومشاركات فاعلة في الثقافة اللبنانية الحربية أو تلك التي عادت في زمن السلم الأهلي القصير منذ بداية التسعينيات، وكذلك في الزمن الراهن الذي هو أشبه بعود على بدء الحروب الماضية. في هذه الموضوعة تحديداً يبدو يحيى جابر مشتركاً كبيراً في إلصاق بصمته على مجمل العمل المسرحي هذا. وبهذه الطريقة يكون قد عجن العجينة بطحينه، ومن ثم عركها إلى حين اختمارها في ما قام به هؤلاء الشباب بمواهبهم الخاصة التي أسهم المسرح بخشبته وجمهوره، بتحويلها إلى انفعالات مشهدية.
في المسرحية نفسها اطلعنا يحيى جابر على هويات الشباب في هذا الزمن، العالمي واللبناني، فقد رأينا رقصاً بديعاً، وغناء الراب وسمعنا عزفاً موسيقياً على آلات مختلفة.
تعارفنا في مسرحية يحيى جابر، ولو أننا نعرف كل حالة من الحالات التمثيلية والتعبيرية على حدة. لكن جمعها كلها في ساعتين من الاشتغال على خشبة المسرح يبدو وكأنه جمع لأجزاء لعبة "بازل" مبعثرة، قام جابر بجمعها أمامنا بمعية ممثليه الموهوبين وبدفع وجهد من جمعية "مارش"، ليرينا الصورة النهائية لرقعة البازل بعد جمعها. وهي أننا إذا لم نخبر الآخر عمن نكون، ولم يخبرنا الآخر عمن هو، بدافع التفاهم والاشتراك في شيء ما، فإننا لن تعارف البتة. والدليل هذه المسرحية الاختبارية.