في أغسطس (آب) الماضي وخلال لقاء عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع ممثلي حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، أثنى سيد الكرملين على نشاط الدبلوماسية الوطنية بقوله "كانت دبلوماسيتنا تتعرض سابقاً لانتقادات بسبب موقفها المشوش في الدفاع عن مصالحنا الوطنية، على الساحة الدولية، أو على جميع المنصات الدولية، أما اليوم فالوضع مختلف تماماً، لا أفشي سراً إذا قلت إن مواقف مؤسستنا الدبلوماسية نشطة وهجومية".
"عسكري" في الخارجية
ترى هل كان هناك شخص بعينه وراء صحة الدبلوماسية الروسية في العقد ونصف العقد الماضيين؟
لن يترك بوتين القارئ في حيرة طويلة، إذ سيقصر عليه البحث، لا سيما أنه أردف بالقول "أجد نفسي مضطراً إلى تذكير سيرغي لافروف من حين لآخر بأنه وزير الخارجية وليس وزير الدفاع".
سيرغي فيكتوروفيتش لافروف، هو ثاني أطول وزير خارجية في روسيا بقاءً في مقعده، بعد سلفه العتيد (السوفياتي) أندريه غروميكو، الرجل الذي تصدى وتحدى الغرب طويلاً خلال زمن الحرب الباردة، وعلى الرغم من أنه يكاد يكون وجهاً غير محبوب ولا مرغوب في الغرب، فإنه يحصد في الداخل الروسي تشجيعاً كبيراً، وتصفيقاً حاداً لمواقفه التي يدافع فيها عن بلاده باستماتة.
يعد لافروف أحد أهم مجموعة "سيلوفيكي"، ذات التأثير القوي التي يستعين بها بوتين دوماً عند اتخاذه القرارات المهمة، بل أكثر من ذلك يعتبر البعض الدبلوماسي الروسي العتيد لافروف، الند والمكافئ الموضوعي لألكسندر بوتنيكوف، رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
ولعل المثير في أمر لافروف، الذي اختاره بوتين عام 2014 لمنصب وزير الخارجية، أنه لم يكن زميل بوتين في الدراسة أو العمل، كما بعض أصحاب المناصب العليا المحيطين بسيد الكرملين في الوقت الراهن، وعلى الرغم من ذلك فإن بوتين يحترمه كثيراً، ومرد ذلك احترافيته، وعمله الجاد وعدم ارتكابه أخطاء خلال مسيرته المهنية الطويلة.
نجح لافروف منذ عام 2014 بنوع خاص في إبعاد شبح العزلة عن روسيا، وبخاصة بعد ضم شبه جزيرة القرم إليها، فقد تفوق على نفسه كما يقال في الأسفار والمفاوضات واللقاءات المتكررة، لا سيما مع وزير الخارجية الأميركي وقتها جون كيري، الأمر الذي اعتبر نجاحاً ورصيداً مضافاً لموسكو وخصماً من واشنطن.
استفادت الدبلوماسية الروسية بشكل واضح من قدرات لافروف الذهنية بحسمه الواضح وعزمه العتيد، لا سيما أن صوته العميق الذي أثر فيه قدر التبغ الذي يدخنه بشراهة يومياً، عطفاً على وجهه الشبيه بالممثل الأميركي من أصل مكسيكي، أنتوني كوين، أعطياه مقدرة على التأثير النفسي والعقلي في أصدقائه قبل خصومه، ولهذا وجدت روسيا في لافروف سيد الأوقات الصعبة، ورجل المهمات الجسام، والقادر على بلوغ أهداف موسكو في الوقت القيم، أي ذاك الذي تعظم فيه الاستفادة.
في أوساط زملائه الروس لا سيما من الدبلوماسيين، يتمتع لافروف بسمعة الدبلوماسي المحترف المتفاني في الدفاع عن المصالح الروسية، وربما ترك أثره بنوع خاص في مجلس الأمن، هناك حيث عمد إلى استخدام حق النقض الفيتو مرات عدة، بهدف إبطال مشروعات سياسية كانت تختصم من قدرة ونفوذ روسيا.
قدوة من الزمن القيصري
هل من مثل أعلى يمضي لافروف وراءه ويراه نبراساً له في عمله الدبلوماسي؟
ذات مرة أشار لافروف إلى أن وزير الخارجية الروسي، ومستشار الإمبراطورية في القرن التاسع عشر، ألكسندر غورتشاكوف، هو مثاله، لا سيما أن غورتشاكوف هو الرجل الذي تمكن من استعادة النفوذ الروسي في أوروبا بعد الهزيمة في الحرب، وإن لم يفعل ذلك في ميادين الوغى، بل في ساحات الدبلوماسية.
هنا يكاد لافروف يشابه سلفه، لا سيما أن دوره بعد انتهاء الحرب الباردة، تمثل في تنفيذ سياسات بوتين الهادفة إلى جعل روسيا دولة عظمى على المستوى الدولي.
حين شبه بوتين لافروف بأنه وزير خارجية لكن بقناع وزير الدفاع، فإنه لم يتجاوز في الوصف، ذلك أنه يمارس الدبلوماسية بالتزام عسكري، إذ يبكر في دخول مكتبه في وزارة الخارجية صباح كل يوم، ذلك الواقع في إحدى ناطحات السحاب القليلة التي بناها ستالين قبل بضعة عقود، لتحدي العالم الغربي، وتحتوي على 27 طابقاً و28 مصعداً، وبها 2000 مكتب، استخدمت لإدارة شؤون الاتحاد السوفياتي سابقاً، وروسيا الاتحادية اليوم.
يدلف لافروف إلى مكتبه يومياً مع طاقمه الملتزم بالمواعيد، وكذلك الصحفيون الذين يحصلون على تصريح لمباشرة أعماله.
المثير في لافروف وكما يقص بعض من معاونيه ورجالات الصحافة الأجنبية، أنه يتفقد بنظراته كل من حوله، وكأنه جنرال عسكري في طابور للجيش، وليس عميد الدبلوماسية، فيما آخرون يتذكرونه وهو يتغاضى عن مؤتمر طال أمده، ومن غير أن يعير انتباهاً للمتبرمين.
بداية سيريلانكية وخبرة أممية
أنهى لافروف في عام 1972 دراسته في قسم اللغات الشرقية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، وكانت بدايات العمل الدبلوماسي في سيرلانكا التي عاد منها إلى موسكو عام 1976، ليعمل في إدارة العلاقات الدولية لدى وزارة الخارجية، وليترقى في المناصب، إلى أن عينه الرئيس بوريس يلتسين عام 1994 مندوباً لروسيا الاتحادية في الأمم المتحدة، وهناك سنحت له الفرصة للتعرف على العديد من الدبلوماسيين الأجانب، وتماس مع أهم القضايا الدولية التي تشغل المجتمع الأممي.
عشر سنوات قضاها لافروف في البيت الزجاجي، على حد تعبير السكرتير العام الأسبق الدكتور بطرس غالي، أكسبته قدرة كبيرة على فهم مساقات التطورات الدولية الجارية، وذلك قبل أن يستدعيه بوتين في 9 مارس (آذار) 2004 ليتم تعيينه وزيراً للخارجية، وليعاد تعيينه مرة أخرى في 2012 في حكومة الرئيس ميدفيديف.
مع تطورات الأزمة الأوكرانية، اعتبر البعض أن لافروف هو سلاح بوتين للدبلوماسية الخشنة، لا سيما أنه قادر على التعبير عن موقف الكرملين بمزيج من الصلابة والسخرية، وتحويل الكلمات إلى صفعات.
تحول لافروف إلى وجه مألوف في الأسبوعين الأخيرين لكاميرات التلفزة الدولية، ولم ينتقص منه كونه أحد الأحد عشر مسؤولاً روسياً، أولئك الذين وقعت عليهم واشنطن عقوبات مالية بدءاً من الرئيس بوتين عينه وبقية معاونيه.
استطاع لافروف أن ينقل هواجس روسيا إلى العالم الخارجي، لا سيما ما يتعلق بالأسلحة النووية الأوكرانية، والبداية كانت من عند إشاعات سرت حول قيام الولايات المتحدة الأميركية بإعادة تشغيل مفاعل تشرنوبيل مرة جديدة بهدف توفير السلاح النووي للأوكرانيين في وجه الروس.
تالياً كان لافروف يصرح بلهجة قاطعة بالقول "إن روسيا لن تسمح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة النووية، وإن روسيا التي شنت عملية عسكرية خاصة ضد أوكرانيا، ستواجه خطراً حقيقياً إذا حصلت كييف على أسلحة نووية".
شيء ما غير مفهوم في العملية العسكرية الروسية الأخيرة، لا سيما أن المنشآت النووية الأوكرانية كانت في مقدمة الأهداف التي سعت القوات المسلحة الروسية للاستيلاء عليها.
لافروف كان صاحب الصوت الأعلى في التحذير من أن الغرب يخطط لحرب، وأنها إذا اندلعت فستكون نووية بلا أدنى شك.
أكد الرجل أن بلاده لديها "عقيدة عسكرية" تتحكم وتفصل شروط استخدام السلاح النووي، وألقى بلائمة الأزمة النووية حال حدوثها على الجانب الأميركي، وبخاصة بعد أن ذكر الجميع أن الرئيس بايدن هو الذي أشار إلى أن البديل الجاهز للعقوبات على روسيا هو الحرب النووية.
على أنه وفي الجانب العقلاني من التصريحات نجد لافروف يؤكد أن بلاده لن تسمح لأي استفزازات أن تخرجها عن إرادتها أو تدفعها إلى شن الحرب، حتى وإن كانت أعمال من وصفهم بالنازيين على الجانب الأوكراني.
حديث لافروف عن النووي قرأه البعض بأنه قد يكون ضرباً من ضروب التنبؤات الذاتية التي تسعى لتحقيق ذاتها بذاتها، بمعنى أن روسيا تكاد تبلغ "الناتو" بأنها جاهزة لكل السيناريوهات، وبنوع خاص حال تمادي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الضغط على موسكو، أو المساس بكرامتها مرة أخرى بعد ما جرى في زمن تفكيك الاتحاد السوفياتي.
في الوقت عينه يفتح لافروف الباب للمفاوضات مع الأطلسي، لكن لا يبدو أنهم جاهزون للقاءات تقوم على أسس من الاحترام والندية، فـ"الناتو" دائماً يعمل على إظهار أنه صاحب الامتيازات دون غيره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قلب ومشاعر وإشاعات
هل لافروف وزير من غير قلب أو مشاعر؟
الشهادة هنا تأتي من بعض الأفارقة الذين تعاملوا معه، حيث تستغل روسيا المشاعر المعادية للغرب لكسب مربعات نفوذ جديدة في العمق الأفريقي.
يقول أحدهم عنه، إن لافروف الذي يتحدث الفرنسية بطلاقة، ليس كما يقولون بارداً وغير حساس، إنه رجل دافئ الأحاسيس والمشاعر، وأنه من السهل التحدث إليه وحتى عندما تقابله للمرة الأولى تشعر سريعاً كما لو أنك تعرفه منذ عشر سنوات وأنك قابلت صديقاً قديماً.
فيما الجانب غير المعروف عن الرجل يتمثل في كونه عاشقاً للرياضة ويذهب سنوياً مع أصدقائه للتجول والمشي في الطبيعة، كما أنه يحب كتابة الشعر، أما استهلاكه للتبغ فأمر معروف عنه، وقد قاده مرة للشجار مع أمين عام الأمم المتحدة الأسبق الراحل كوفي عنان، الذي حرم التدخين داخل مبنى الهيئة الأممية، غير أن لافروف خالف ذلك صراحة.
لافروف متزوج منذ نصف قرن تقريباً من ماريا ألكسندروفنا، وله منها ابنة واحدة اسمها "إيكاترينا" ولدت خلال عمله في نيويورك ولم تعد معه إلى روسيا حين استدعوه لتكمل دراستها، ومتزوجة من ابن أحد أكبر أصحاب مصانع الأدوية في روسيا، وحضر حفل زفافها شخصيات عالمية.
لا تخلو سيرة لافروف من بعض الإثارة، وهو ما فتحت صحيفة "التايمز" البريطانية مجالاً للحديث عنه، من خلال الإشارة إلى سكرتيرته الممثلة الروسية الهاوية سفتيلانا بوليكوفا، لا سيما أنها ترافقه في الكثير من رحلاته حول العالم، وإن كانت المصادر الرسمية الروسية قد اعتبرت القصة برمتها مزيفة من قبل عملاء لأجهزة استخبارية غربية.
وصف كوفي عنان لافروف بأنه رجل حكيم وذكي وقال "لقد تعلمت منه"، فيما يرى لين كيسلر الصحافي المخضرم وعضو مجلس الشؤون الخارجية، وهو مؤسسة بحثية أميركية، أن لافروف "رجل استعراض لا يتردد في استخدام خنجر دبلوماسي".
لافروف المتجهم العبوس، والنادر الابتسامة، استطاع أن يقود الدبلوماسية الروسية عبر عقد ونصف العقد من الزمن بمهارة كبيرة كانت قادرة على تعويض التطور الاقتصادي الضعيف لروسيا، والعهدة هنا على تقرير صادر من المجلس الروسي للأمن والسياسات الخارجية.
ويبقى التساؤل الأخير: هل سيقدر للرجل أن يعبر بسفينة بلاده الأزمة الأوكرانية بأقل قدر من الخسائر الداخلية وليكتب اسمه من بعدها في سجل وزراء الخارجية الروس العظماء؟