هي بكل تأكيد واحدة من أطول الروايات في تاريخ الأدب الأوروبي بل العالمي. لكنها أيضاً صاحبة الرقم القياسي المطلق بالنسبة إلى عمل أدبي يتناول حياة شخص واحد مع بعض الأقارب والمعارف المحيطين به على مدى ألوف الصفحات. وهو أمر لا سابق له بالتأكيد ولا نعتقد أن ثمة لاحقاً عليه. لكن هذه الرواية تحمل من الأبعاد ما هو أكثر كثيراً من هذين البعدين القياسيين، بالنظر إلى أن في الإمكان اعتبارها "الرواية الأوروبية" بامتياز، وربما أيضاً العمل الأدبي الذي حدد لأوروبا وهذا النمط من الأدب فيها دوراً إنسانياً لا لبس فيه.
صداقات رفيعة
أما هو، كاتبها، فكان في زمنه واحداً من الأسماء الأدبية والفكرية الأكثر بروزاً في العالم وحتى من قبل أن يُمنح عام 1915 واحدة من أولى جوائز نوبل الأدبية في التاريخ. فمن باناييت إستراتي إلى نيقوس كازنتزاكيس، ومن تولستوي وصولاً بخاصة إلى ستيفان زفايغ الذي كان من الإعجاب به والحب له أن وضع عنه واحداً من أفضل كتب السيرة التي وضعها مبدع عن آخر، كان ثمة على الدوام إجماع حول هذا الكاتب وقيمته المطلقة وأهميته، ثم خصوصاً حول نزعته الإنسانية الغامرة. ولن نتوقف هنا طويلاً عند الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي وقف إلى جانبه كالتلميذ المتواضع حين التقيا، ولا طبعاً عند المهاتما غاندي الذي كان لا يتردد عن إعلان دَيْنه له ويقول كم أن أفكار هذا الكاتب العظيم قد ألهمته في نضالاته وأفكاره. ومن نتحدث عنه هنا هو بالطبع رومان رولان، الكاتب الفرنسي الذي قد يبدو منسيّاً بعض الشيء في أزمنتنا الجحودة هذه. وأكثر من هذا، وفي سياقه، عن روايته "جان كريستوف" التي هي أشهر أعماله وربما أهمها، مع أن كتبه قد تصل إلى 300 كتاب بين رواية ومسرحية ودراسة وبيوغرافيا وكتب في الموسيقى وتاريخها وعلومها.
رواية أم ظاهرة؟
"جان كريستوف" هي الأشهر والأكثر ارتباطاً باسم هذا الكاتب، على الرغم من صعوبة أن يجد أي كان من الوقت ما يكفيه لقراءة أجزائها العشرة. ومن هنا، قد ينظر إليها كثر نظرتهم إلى ظاهرة أكثر من نظرتهم إليها كعمل أدبي. بل هناك من بين أقطاب النقد الفرنسي من يرى أنها، بين سطورها على الأقل، يجب أن تُعتبر رواية سيرة ذاتية. ولكن حتى لو سلّمنا جدلاً مع بعض النقد الفرنسي هذا بأن "جان كريستوف" سيرة ذاتية، سنكون أمام رقم قياسي إضافي جدير بأن يدخل في أيامنا هذه كتاب "غينيس"، إذ ليس ثمة بحسب ما نعلم أديب في التاريخ كتب سيرته في عشرة أجزاء ضخمة، عالجت هذه السيرة من المهد إلى اللحد (وكيف يمكن لكاتب أن يتحدث عن موته بمثل هذه الواقعية والحنين؟)، ثم وجد حقاً قرّاء يهتمون بقراءتها. كذلك علينا أن نلاحظ أن "جان كريستوف" الشخصية المحورية في الرواية موسيقي وليس كاتباً، وأنه لم يعِش، بحسب الرواية، في القرن العشرين، كما حال رومان رولان، إنما في زمن سابق، ناهيك عن أنه كان ألماني الجنسية ولم يعِش في فرنسا بأكثر مما عاش في ألمانيا أو بلجيكا أو إيطاليا وغيرها.
في ظل الموهبة
ومهما يكُن من أمر، علينا أن نلاحظ أن رولان بدأ صياغة الأجزاء المتتالية من "جان كريستوف" بالتزامن مع إنجازه كتابه الكبير الذي وضعه عن "حياة بيتهوفن"، ما يعطينا إمكانية الافتراض أنه نهل من حياة هذا الأخير، بقدر ما نهل من دلالات ومواقف حياته هو الخاصة، لصياغة الشخصية المحورية في روايته الضخمة. تلك الشخصية التي وضع فيها الكاتب كل ما يريده من الإنسان أن يكونه، في ظل موهبة موسيقية أكيدة. غير أن الأجدر من ذلك كله بالانتباه، إنما هو البعد الفكري في "جان كريستوف" الذي يتمحور بشكل بالغ الفصاحة حول الفكرة الأوروبية بأبكر مما فعل أي أديب آخر. ومن هنا طبعاً كان من الطبيعي، قبل نحو عشرين عاماً من الآن، حين ارتفع عدد البلدان الأعضاء في الوحدة الأوروبية إلى 25 وأكثر واحتفلت الأمم الأوروبية كلها بتلك المناسبة التي قُدّم فيها "نشيد إلى الفرح" على موسيقى الحركة الأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، أن يذكر كثر اسم رومان رولان في مقدمة أسماء المؤسسين الأوروبيين الكبار في القرن العشرين، حتى ولو دُهش كثر لذلك بالنظر إلى أن صاحب "جان كريستوف" رحل عام 1944 قبيل ولادة الفكرة الأوروبية على أيدي سياسيين واقتصاديين من طينة موريس شومان وجاك مونو في خمسينيات القرن العشرين!
تجوال أوروبي
في نهاية الأمر، نعم لا بد دائماً من التذكير بأوروبية "جان كريستوف" التي يمكن من ناحية أخرى أن تُعتبر أول "رواية – نهر" (كما يُطلق على الروايات الطويلة التي تتحدث عن حياة بطولها أو عن أجيال من فئات متعددة من الصفحات) في الأدب الفرنسي، بحسب وصف الكاتب نفسه لها. لكنها "نهر" مختلف. وبالتحديد بالنظر إلى انحصار شخصياتها، بل دورانهم من حول شخص واحد هو ذاك الفتى الألماني الذي تتابعه أجزاء الرواية العشرة في كل مراحل حياته، إذ لكل مرحلة جزء وعنوان وربما مكان جغرافي كذلك، لا سيما حين يغادر دياره ليتجول بين الديار الأوروبية، ما يعطي الكاتب فرصة لتجوال قلمه بين البلدان، مستعرضاً حياتها وحياة شعوبها، باحثاً دائماً عما يجمع بين تلك الشعوب، إنما مركزاً جهوده على ما يقرّب بين الشعبين اللذين كانا يعيشان حالة عداء في ما بينهما حينها: الشعب الألماني والشعب الفرنسي. وكأن الكاتب كان يريد هنا أن يمحو تماماً، يوم كتابته الرواية ونشرها بين 1904 و1912 كل ما تبقّى من آثار الصراع الذي اندلع بينهما في بداية سبعينيات القرن المنصرم يومها. ومن المؤكد أن هذا كله كان يشغل بال رولان الذي سيرحل عن عالمنا والحرب العالمية الثانية مندلعة، دموية مهينة لبلاده عام 1944، وكان قد شهد قبل ذلك الحرب العالمية الأولى التي أذلّت الأمتين معاً وشعر هو نفسه بقسط كبير من ذلك الإذلال.
بين الطفل وأبيه
كما أشرنا، تتألف "جان كريستوف" من عشرة أجزاء، نُشرت في كتب بالعدد ذاته، بعدما كان الكاتب نشرها بين 1904 و1912 على 17 حلقة في مجلة شارل بيغي "دفاتر الخمس عشرية"، التي نشر فيها أيضاً كتابات أخرى له مثل "حياة بيتهوفن" و"حياة مايكل أنجلو". وتحمل الأجزاء العشرة على التوالي عناوين ذات دلالة، أو تعكس لقاءات ومعارف ومراحل من حياة وتنقلات بطلها، الموسيقي الشاب الموهوب الذي عانى طوال حياته من إرغام أبيه له، وهو طفل، على تحويل موهبته إلى مهنة بزيادة التمرين وعدم إضاعة أي لحظة من حياته على لهو الطفولة أو الشباب. والعناوين هي "الفجر" و"اليد" و"المراهقة"، وفيها يتحدث رولان عن طفولة وصبا بطله ويشرح معاناته بعد ولادته في بلدة حدودية صغيرة في رينانيا، مكتشفاً حوله بالتدريج عالماً مدهشاً كوّنه بسماته وأخلاقه الرائعة، ثم "الثورة"، "المعرض في الساحة" و"أنطوانيت"، ثم "في البيت" و"الصديقان" – وهو الجزء الأجمل والأكثر إنسانية الذي يصف فيه الكاتب تلك الصداقة التي ربطت جان كريستوف بفكتور الذي منذ تعرف إليه، صارا صديقين لا يفترقان حتى تزوج فكتور وانفصلا – وأخيراً، الجزءان اللذان يختمان الرواية "حطب يحترق" و"اليوم الجديد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة للإبداع والطيبة
بأجزائها هذه وموضوعها الذي يتابع حياة جان كريستوف، ومن خلالها حياة ما قبل الحرب العالمية الأولى، بين ثلاثة بلدان: ألمانيا، ثم باريس التي يهرب إليها جان كريستوف بعدما أصبح مطارداً من قبل البوليس في مسقط رأسه بسبب قتل غير متعمد يقترفه، وأخيراً سويسرا وجبالها التي يلجأ إليها، وأخيراً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط التي تضعه أخيراً مع سلام يهيّئه لنهايته الهادئة، ونهاية الرواية. بكل هذا، تُعتبر رواية "جان كريستوف" رواية موسيقية، موضوعها الأساس العاطفة، و"استكشاف النفس البشرية" من خلال شخص عاش حياته للإبداع والطيبة، غير مؤمن إلا بالفرح والحب "لأنهما يشكّلان الحياة نفسها". ولأن على الإنسان أن يعيش. ومن الواضح أن هذا ما قرّب هذه الرواية إلى أذهان وقلوب الناس... وجعل رولان كاتباً شعبياً من مقام رفيع قبل أن تحوّله الرواية في فترة لاحقة إلى ذلك الكاتب الأوروبي الكبير والمؤسس.