الجمعة الماضية تطوع الجندي الأوكراني فيتالي فولوديميروفيتش بتفجير جسر لمنع الدبابات الروسية من دخول بلاده، وكانت مهمة انتحارية بالطبع، لكن الجيش الأوكراني بطبيعة الحال سيحول هذا الجندي إلى بطل لأنه أخر وصول العدو إلى العاصمة كييف.
وقال الجيش في بيان، "قتل شقيقنا بسب أدائه البطولي في إبطاء دفع العدو. يجب أن يرى الطاغية الروسي فلاديمير بوتين شجاعة هذا الجندي وأن يدرك تصميم الشعب الأوكراني".
لكن في المعركة نفسها هناك من يصنع هالة بطولية مهمة حوله، وهو الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي تحول من ممثل إلى رئيس، ومن ثم إلى قائد مقاومة وطنية بعد تأخر المساعدات العسكرية لبلاده لصد الهجوم الروسي.
وفي الفيديوهات التي ينشرها زيلينسكي عبر الإنترنت يظهر فيها تحت الحصار، وهو هنا مثال مصغر عن بلاده التي تقع تحت الحصار الروسي، وعلى الرغم من أن حياته في خطر فإنه بدا في تصويره لنفسه ومكان وجوده نموذجاً للهدوء والشجاعة والعزم الذي لا يتزعزع، بحسب وصف وسائل الإعلام الأوروبية، في محاولة لجعله مصدر إلهام لشعبه الذي يجب عليه أن يقاوم الهجوم كما يفعل رئيسه.
بل ووصفه أحد المحققين الصحافيين بأنه "لم يكن بإمكان أي منتج في هوليوود أن يصنع ملحمة حرب مثل ما فعل فيديو زيلينسكي من قلب كييف. خصوصاً حين كرر كلمة (هنا)، وذلك لتأكيد أنه فعلاً موجود وغير خائف، وأنه (هنا) ليقاوم كما يجب أن يفعل سائر الأوكرانيين".
الأبطال الذين تصنعهم الحروب
يظهر في جميع الحروب أبطال يصنعهم الإعلام الحربي على هامش المعركة لتسخيف قوة العدو أمام شخص واحد، أو لرفع نفسية المواطنين ومعنوياتهم بعد كل خضة حربية أو هزيمة لمعركة ما.
وفي الحرب العالمية الثانية اشتهر جنود أميركيون كثر على أنهم أبطال حرب في معارك مختلفة وعادوا لبلادهم، إذ حصلوا على أوسمة كثيرة ودخلوا مجال العمل السياسي ومجالات شهرة أخرى، بينما ذهب آخرون إلى مصحات ومكاتب المعونة بسبب إهمالهم.
واشتهر أيضاً جنود من حرب فيتنام الأميركية أيضاً، سواء كانوا ضد الحرب هناك أم أبطال حرب شنوا عمليات أراد لها الإعلام الأميركي أن تكون فعالة لإقناع الجمهور الأميركي والعالمي بالحرب، والعكس أيضاً أصيب رفاقهم بمتلازمة فيتنام، وهي أقرب إلى الجنون بسبب ما شاهدوه أو مارسوه هناك.
لكن في فيتنام نفسها تمكن الإعلام الشيوعي من صناعة بطولة أحد الفلاحين الذي أسقط طائرة أميركية بواسطة بندقية بدائية، بينما كانت تقلع من المطار القريب من الأرض التي يزرعها، وصنع النظام الشيوعي أيضاً بروباغندا القناص الذي لا يقهر في معركة ستالينغراد، الذي تمكن من قتل مئات النازيين بواسطة قناصته، وقد صنعت أفلام كثيرة حول قدراته السحرية في قتل مهاجميه وحده من دون مساعدة أحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والإعلام الحربي والبروباغندا المقصودة هي التي تصنع هؤلاء الأبطال، فمن دونها لما عرف أحد بهذا البطل أو ذاك، ولو أنه فعلاً قام بما قام به، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان تلصق بهؤلاء الأبطال أعمال لم يؤدوها فعلاً، لأنه بمجرد أن تبدأ عمليات صناعة النجم الذي كان على هامش مجريات الحرب فيصبح مشهوراً فجأة، يعلق الصانعون في لعبة تضخيمه حتى يصبح هو نفسه يعرف أنه بطل من ورق صنعه الإعلام لحاجات الإعلام الحربي.
وفي ألمانيا النازية كان الرجل الثاني بعد هتلر، أي الجنرال غورينغ قائد طائرات حربية في الحرب العالمية الأولى، وكان مشهوراً ومعروفاً في ألمانيا لقدراته وشجاعته الحقيقية وليست الإعلامية، لكن الحزب النازي الصاعد استفاد منه ومن شعوره بالفشل والهزيمة، على الرغم من كل ما أداه من بطولات خلال الحرب لجذب المواطنين الألمان إليه، الذين وجدوا أنه إذا كان البطل الشاب الوسيم والمشهور في الطبقة الأرستقراطية الألمانية قد انتسب إلى هذا الحزب فلا بد من أنه حزب جيد.
وتمكن يوزف غوبلز من تحويل ألماني شاب وجندي سابق إلى صورة الجندي الألماني الآري، ووضعت صورته فوق الملصقات النازية كصورة عامة للجندي الألماني، وهو بنفسه تحول إلى شخص مقرب من الفريق المحيط بهتلر وقائداً لإحدى التنظيمات النازية المسلحة خلال الحرب الثانية.
في السياق نفسه، برز فلاح بريطاني ألقى القبض على نائب هتلر، وهو الجنرال هيس، الذي سافر بطائرته الحربية إلى اسكتلندا لكي يلتقي المسؤولين البريطانيين ويعقد معهم صفقة سلام، بعدما علم أن هتلر يريد غزو الساحل الإنجليزي، حينها هبط هيس بمظلته العسكرية من الطائرة ليسقط في أرض مزارع شاهده بينما يسقط في أرضه، وحين اقترب منه وعرف عن نفسه لم يعرف هذا المزارع من هو ضيفه، ودعاه إلى كوب شاي في منزله، وفي هذه اللحظات وصل الجنود البريطانيون الذين ألقوا القبض على هيس، وبقي في السجن مدى الحياة قبل أن يشنق نفسه فيه عن عمر 93 عاماً، ولكن بعد إلقاء القبض على هيس صنع الإعلام الإنجليزي من هذا الفلاح بطلاً.
ويوجد سياسيون أميركيون صنعوا كأبطال، منهم جون ماكاين وقبله الرئيس الأميركي في ما بعد والمقتول غيلة جون كينيدي.
لماذا يصنع الإعلام الحربي أبطاله؟
لماذا تحتاج الحروب والساسة إلى مثل هؤلاء الأبطال، سواء الهامشيين الذين يظهرون فجأة ثم يختفون مع انتهاء الحدث، أو الأبطال الذين يعرفون كيف يستغلون بطولتهم ليكملوا مشوارهم في الشهرة أو في السياسة، أو في غيرها من الأعمال التي تتطلب وجود جمهور بشكل دائم.
في تحقيق حديث لـ "الغارديان" وجد أن المحاربين الأوكرانيين يحاولون صنع صورة للعسكري المقاتل تشبه شخصية المحارب الكرواتي التي أنتجتها وسائل الإعلام الكرواتية في حينه لـ "الجندي الكرواتي" الموصوف في سيرة ذاتية في زمن الحرب أو من خلال شهادات أولئك الذين ذهبوا إلى الحرب كمتطوعين، وأولئك الذين جرى إرسالهم إلى ساحات القتال من خلال التعبئة.
والصورة هذه التي تتكون من خلاصة ما يرويه جنود كثر عن تجاربهم تصبح كلها موجودة في صورة شخص واحد يصنعه الإعلام كي يكون ممثلاً أو اختصاراً لسائر الجنود المحاربين على اختلاف أنواعهم، سواء كانوا متطوعين أم نظاميين، أو جرى استدعاؤهم للتعبئة العامة على شاكلة الجندي الأول أو المثال، وهو باختصار "المحارب" Warrior التي تنتجها وسائل الإعلام.
لكن هذه الصورة نفسها قد تصبح هدفاً للسخرية وعدم التصديق إذا ما كانت مجريات الحرب معاكسة للبروباغندا المراد ترويجها، وقد تصبح صورة مشهورة ومعروفة في ما لو كانت الحرب تسير بحسب ما يريد صانعو الصورة.
يقول اختصاصيون في ميديا صناعة الأبطال إنه لا يمكن صناعة بطل من لا شيء إلا إذا كانت الحرب تسير وفقاً لتطلعات الفريق صانع البطل، فمثلاً ما كان ليعرف أحد في العالم فيديل كاسترو وغيفارا لولا انتصار الثورة الكوبية، ولتركت جثتاهما في الغابات الكوبية لو قتلهما الجيش الكوبي في الوقت المناسب، من دون أن يدري بمرورهما على الحياة إلا بضعة أصدقاء، فما الفائدة من صناعة صور لبطل حرب في حال لم ينتصر في الحرب مثلاً؟
كلجوين ريجي في تحقيقها لـ "بي بي سي" حول أبطال الحرب، وبعد إجرائها مقابلات كثيرة مع جنود شاركوا في حرب فيتنام وهم يوصفون ويعاملون كأبطال في مجتمعاتهم المحلية في الولايات المتحدة الأميركية، وجدت على سبيل المثال الجندي دوغلاس كليفتون (66 سنة) يقول، "ليس كل من يرتدي زياً عسكرياً يحمل الأوسمة بطلاً. أنا محارب قديم في حرب فيتنام، لكن حين يطلق علي أحدهم وصف البطل يشعرني بالانزعاج بعد كل تلك السنوات"، وذلك لأنه يعلم الآن أن تلك الحرب التي شارك فيها هو وآلاف من رفاقه لم تكن حرباً تستحق كل ما فعلوه من أجلها.
في محاولة منها لتفسير البروباغندا التي تطاول المحاربين القدامى على أنهم أبطال على الرغم من أن كثراً منهم لا يجدون أنفسهم كذلك، وجدت تفسيراً يبدو منطقياً وهو حشد سائر المواطنين الأميركيين حول الحرب، فجعل الجندي بطلاً ومن يقف ضد الحرب فهو ضد الجنود أيضاً، خصوصاً أن ما نسبته فقط واحد في المئة من الأميركيين هم الجنود الذين يشاركون في الحروب التي لا تتوقف، ولإشعار الـ 99 في المئة بأن هؤلاء القلة يحاربون من أجل أمنهم ورفاههم، فإن السياسيين ووسائل الإعلام التابعة لهم يجدون في تضخيم أدوار الجنود وإلصاق كثير من القداسة بهم ورفع بطولاتهم إلى درجات خيالية، تحوي كثيراً من العزاء للجنود المقاتلين العائدين من الحروب بنفسيات متضاربة حول ما يقومون به، وكثيراً من الوهم بالبطولة والانتصار بالنسبة إلى المواطنين الآخرين، وتسييراً لعقيدة التجنيد في الجيش وجعلها في مصاف العمل الوطني الواجب.
الجندي كليفتن يقول في هذا التحقيق، "لم أقم بالكثير، فكل ما فعلته هو العمل المطلوب مني خلال الحرب، ولم أعان بشكل خاص من أعراض حربية أو نفسية ما، لذا لا أشعر أنه يجب أن أنادى بالبطل على عكس صديقي الذي لا يزال يعاني من أكثر من 700 مهمة قتالية، ويحمل في نفسه وقلبه ندوباً نفسية وعاطفية حتى يومنا هذا، ولهذا لا يمكنني إلا أن أسميه بطلاً لأنه ضحى بالكثير لمصلحة الآخرين، بينما تهدمت حياته".
لكن في التحقيق عينه هناك جنود ممن لم يستفيدوا من بطولاتهم في الحرب الثانية، بل وأهملوها وسخروا منها، ففي احتفال بالمحاربين القدامى وبعد خطابات تمجيدهم وجعلهم القوة التي أبقت الروح العالمية للديمقراطية الغربية ورخائها منتصرة في العالم، يسخر المحارب السابق تشارلز مورز، الذي سقط خلف خطوط العدو في أوروبا وحصل على نجمتين برونزيتين، من فكرة أنه أظهر أي شجاعة خاصة أو قام بأي عمل بطولي يجعله مميزاً بشكل خاص عن الآخرين.