في العام 2012، وفي صباح الحادي والعشرين من شباط (فبراير) تحديداً، اقتحمت خمس فتيات كاثدرائيّة "المسيح المنقذ" التي تنتصب قرب مبنى الكرملين في موسكو، والتي تعدّ رمز التعاون بين السلطتين الدينيّة والسياسيّة في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يمثّل استعادة القيم التقليدية لروسيا المقدّسة. الفتيات كنّ يتستّرن بمعاطف وأغطية رأس صوفية ملوّنة، كأنّهن يتّجهن للصلاة. كان يوم ثلاثاء والكنيسة خالية من المصلّين، فتوجّهن إلى المذبح، خلعن المعاطف عن أثواب غير محتشمة وجوارب ملوّنة، وبدت أدواتهن الموسيقية، واستولين على الميكروفونات وبدأن بالعزف وإداء أغنية "صلاة البانك". كانت الفتيات عضوات فرقة "بوسي رايوت" المعارضة لفلاديمير بوتين، ومؤسسة الفرقة هي الباحثة في الفلسفة والفنّانة والناشطة السياسيّة ناديا تولوكونيكوفا، التي حوكمت وسجنت جرّاء الحادثة مع زميلتها ماريا إليوخينا لمدة سنتين مع الأشغال الشاقة، بتهمة أنّ الأغنية تحثّ على التعصّب والكراهية الدينيّة، وأُطلق سراحاهما بعفو رئاسي من بوتين قبل شهر ونيف من انقضاء المدّة، قبل استضافة روسيا لدورة الألعاب الأولمبيّة.
نشيد البانك
تقول كلمات أغنية "صلاة البانك" التي استفزّت السلطة في روسيا: "يا مريم العذراء، أبعدي بوتين/ القديس ذو الرداء الأسود المتباهي بشارة الكتف الذهبيّة/ يزحف كل أبناء الأبرشيّة لينحنوا أمامه... البطريرك غوندياييف يؤمن ببوتين، الأفضل أن تؤمن بالرب... يا مريم العذراء كوني نسويّة/ كافحي من أجل الحقوق، وانسي الطقوس/ انضمّي إلى جناحنا يا مريم المقدّسة". تعود أصول فنّ البانك إلى بواكير محاولات تجريم العبوديّة في أميركا، في الحانات وتجمّعات السود، إذ دُمجت الموسيقى الإنجيليّة في كنائس السود بالإيقاعات الأفريقية، وهي موسيقى ترمز للاحتجاج، والثورة، والدعوة إلى حقوق الإنسان. وقد مرّت بمراحل البلوز، والراكتايم، فالجاز والروك، وظهرت باسم البانك في العام 1960. ومع ظهور الموجة النسويّة الثالثة، أي موجة الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة في تسعينيّات القرن العشرين، ظهرت فرق البانك النسويّة في كلّ من أميركا وأوروبا.
تاريخ من الاستفزاز الثقافيّ
كانت كلّ من نادشيتدا (ناديا) تولوكونيكوفا، وهي من مواليد 1989، وماريّا إليوخينا وهي من مواليد 1988 قد انضمّتا إلى فرق تقيم العروض الاستفزازيّة في موسكو، تحت ما يسمّى بالسخرية السياسيّة الإباحية، إذ يُدمج الفن بالمعارضة السياسيّة عبر طقوس كرنفاليّة مقنّعة، ومفعمة بالرموز الجنسيّة المضحكة، وهدفها رأس السلطة. وعند ترشّح بوتين لانتخابات عام 2011 نظموا عرضاً ساخراً وسط الساحة الحمراء، فكان منطلق فرقة "بوسي رايوت".
أُرسلت ناديا إلى سجن موردوفيا وهو المقرّ التقليدي للغولاغ السوفياتي، أي معسكرات العمل الإجباري، وأثناء إقامتها في السجن تبادلت الرسائل مع الفيلسوف السلوفينيّ سلافوي جيجيك. أشارت ناديا خلال المقابلات التي أجريت معها أثناء محاكمتها من قبل مجلة "نيوتايمز" الروسية المستقلة، إلى أنها تقرأ مقالة سلافوي جيجيك "العنف"، وتعدّها مهمة لحركتها. ووضّحت الدوافع السياسيّة لأفعالها، واعتذرت من المؤمنين الذين لم تكن تقصدهم أو تسخر منهم، بل كانت معارضتها سياسيّة بحتاً، وكانت دفاعاتها مفعمة برؤية سقراط، وديوجين "السينيكية" الهجائيّة الساخرة، وأيّدت رأيها بما ورد عند جيجيك إذ قال: "ينشأ المؤمنون الأصوليّون من كلّ الأديان بسبب افتقارهم للإيمان الحقيقيّ، وليس نتاجاً للإيمان العميق"، ثمّ أبدت رغبتها بلقائه.
حجاج العقل العمليّ للنظريّة
استجاب جيجيك فوراً، لكنّ نقل ناديا إلى سجن يبعد عن موسكو آلاف الأميال، جعل المراسلة الحلّ الوحيد لهذا اللقاء. ونظراً لظروف السجن والرقابة الأكيدة على الرسائل، اتخذت الأخيرة طابعاً فلسفيّاً أو فكريّاً، وقلما طرحت ناديا تفاصيل يوميّات السجن، إلاّ في مقالتها المرتبطة بممارسات السلطة الاستعباديّة على السجينات، إذ تشغّلهنّ بتعسّف في خياطة ملابس للسوق الروسيّة، رابطة تلك الممارسة بنظام الرأسماليّة المتأخّرة غير الأخلاقيّ.
قارب جيجيك في رسائله إلى ناديا مفاهيم فلسفيّة تعود إلى هيغل، إذ وصف ما فعلته فرقة "بوسي رايوت" وهي تتحدّى كلاً من بوتين والستالينيّة المعاصرة بتجليات لروح العالم، مثلما وصف هيغل غزو نابليون لأوروبا، في حين ردّت ناديا بأنّهنّ من سلالة ديونيزيوس العابث، فهنّ أردن صناعة الفوضى في ذلك النظام الصارم، لذا هي راضية عن مآلها وتستقبله بشجاعة وسعادة، فهو ما أرادته، وما عليها إلاّ أن تتحمّل مسؤوليّته. وتردّ عليه في ذلك بعبارة ساحرة: "عندما تلامسك روح العالم، لن تتركك سالماً بلا خدش". إنّها تتمثّل تلك الديونيزيوسيّة التي تتمظهر في كلّ من الحالة الكرنفاليّة، وإثارة الفوضى، واعتناق الفنّ من أجل التغيير. في حين يقف جيجيك مجادلاً وراغباً في الحالة الأبولونيّة المعاكسة، بحيث يريد أن تكون الثورة حركة شاملة فاعلة، فلا يكفي الموقف الأخلاقيّ لمجموعات مغامرة مثل "بوسي رايوت" لتفكيك السلطة بنظامها الرأسماليّ المتوّسع، بل يجب أن توازي أبولونيّة الثورة أبولونيّة السلطة، أي أن تكون منظّمة ومرتّبة ومتوازنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكنّ ناديا تنطلق مقرّعة إياه من موقع صاحب التجربة لا صاحب المقولات النظريّة، فهي التي تتكلّم من قلب الاضطهاد العبوديّ حيث تعمل في السجن مدة ست عشرة ساعة وربما أكثر، بما يتجاوز قانون العمل الذي ينصّ على ثماني ساعات، وتضرب عن الطعام لأيّام احتجاجاً، وترى زميلاتها يسقن إلى حبل المشنقة، ويمعن الضبّاط في تخويفها وإهانتها. تذهب في حجاجها ودفاعها عن فوضويّة "بوسي رايوت" إلى آراء دولوز وغاتاري وباديو، وإلى تعاليم الأرثوذكسيّة، وتربط بدلائل منطقيّة بين الستالينيّة والرأسماليّة المعاصرة. وذلك ما تجب مواجهته، كما تقول، بالحرائق المتواصلة حتّى نضمن إزعاجاً مستمراً للأنظمة، فـ"من يريد تعزيز التوازن الأبولونيّ المضاد للسلطة فليفعل، هذا لا يمنع من أن نقوم نحن بحرائقنا، فكلّه يصبّ في مصلحة واحدة، حتى المسيحية نفسها بالنسبة لها تجسيد للثورة ضدّ العالم وقوانينه وسبله". وتضيف: "نحن أبناء ديونيزيوس عائمون في البرميل، لا نقبل بسلطة أحد. نحن إلى جانب أولئك الذين لا يقدّمون إجابة نهائيّة أو حقائق دامغة، عوضاً عن ذلك فإنّ مهمّتنا تكمن في طرح الأسئلة".
التضامن مع أوكرانيا
في رسالتها الأخيرة إلى جيجيك، والمؤرّخة بـ11 مارس (آذار) 2014، تشير ناديا إلى أنّ الأيّام الأخيرة في روسيا شهدت نقاشات صادقة عن خطر نشوب نزاع مسلّح في القرم، فقد ألقى صحافيّون، وشعراء وفنّانون نصوصاً حارقة ضدّ الحرب، وكان معلّمو المدارس يخاطبون الجميع بجزع من أجل الانضمام إلى تظاهرات السلام، حتّى الإعلام الرسميّ شارك في تفعيل الحدث. فأبواق الدعاية الحكوميّة تعلّمت الكثير من أساليب الطليعة السوفياتيّة، وهي ليست ضدّ ذلك لأنّ غايتها صناعة الصخب أو كما أشارت: "أريد رؤية المزيد من الانفجارات العاطفيّة العنيفة، تتداخل مع التصريحات والمبادرات". و"العاطفية" المشار إليها مصطلح في علم الأعراق، يرفض التوسّع في الجغرافيا على حساب وجود عرق ما فيها. تقول أيضاً: "من المستحيل عدم التضامن مع العاطفيّين الأوكرانيين، المشاركين في احتجاجات "اليورميدن"، تلك التي انطلقت في الميدان الأوروبي في كييف عام 2013، احتجاجاً على تعليق الحكومة للشراكة مع الاتحاد الأوروبي، تزلّفاً إلى روسيا. فالمثابرة والشجاعة وبالتأكيد البطولة، كما تقول، التي دافع بها الأوكرانيّون الذين ينتمون إلى اليد العاملة الرخيصة، عن مصالحهم السياسية في وجه المستويات العليا في الإدارة، هي بلا شك معجزة حقيقيّة مثل معجزة تحوّل الماء إلى نبيذ في عرس قانا الجليل.
بدا جيجيك يكتب بعقل بارد، فلديه فائض من الوقت للتأمّل والتنظير، في حين تكتب ناديا بقلب حارّ يحترق بنار التجربة، ومع ذلك تتمسّك بأدبيّات الحجاج، إذ لم تقبل منه محاولته تحليل سلوك الفرقة ودوافعها نفسيّاً وسياسيّاً، بل بادرته بشرح مرجعيّاتها الفلسفيّة. فالفرقة ليست مجموعة من المراهقين تحرّكهم أهواء وانفعالات عشوائيّة، بل ما يحرّكهم هو فكر ضارب في عمق تاريخ الفلسفة. في دفاعاته الأولى عن "بوسي رايوت" حاول جيجيك تسويغ ما سمّاه بالمغامرة، والتماس العذر لعضوات الفرقة على أساس أنّ هذا العنف ضد السلطة هو نتيجة عنف السلطة ذاتها، وذلك على طريقة تشومسكي حين تحدّث عن الإرهاب بين القراصنة والأباطرة، ويمثّل لذلك بمجاز اقتصاديّ استعاره من "أوبرا المتسوّلين" لبريخت قائلاً: "ماذا تساوي جريمة سرقة بنك إزاء جريمة تأسيسه!".
وأشار إلى النزعة "السينيكية" (تترجم بالعربية إلى "كلبية") المزدوجة بين السلطة والمجموعات المعارضة مثل فرقة "بوسي رايوت"، فـ"سينيكية" السلطة تتجلّى باستهزائها بحياة الناس، ولا مبالاتها، وسخريتها منهم بتجاهلهم، والمضي في عنفها، واستبدادها، وفسادها فوق رقابهم وأرزاقهم، في حين تتجلّى "سينيكية" المعارضة بسخريّتها أو "باروديّتها" (هجائيتها) عبر الفنّ، والنكتة، والكتابة، وقتل التابو السياسيّ والدينيّ، واغتيال الرموز، بالتخفي وراء أقنعة كما هي أقنعة الكرنفالات الطقسيّة. وكانت هذه الرسائل قد جمعت في كتاب بعنوان "ناديا وسلافوي جيجيك/ رسائل السجن"، وصدر بالعربية في العام 2021 عن منشورات الرافدين، وترجمته رغد قاسم.