لطالما كانت السينما الروسية أسيرة السياسة والعقائد التي عصفت بأكبر الأمم في العالم. جملة لينين "من بين كل الفنون، السينما هي عندنا الأهم"، لا يزال صداها ماثلاً في وجدان كل مَن تربى على السينما السوفياتية التي حمل رايتها سيرغي أيزنشتاين في فيلمه الأسطورة "البارجة بوتمكين" (1925) الذي مجد الثورة البولشيفية. أما تولستوي، ففهم أهمية هذه الآلة التي تسلط الضوء على شاشة بيضاء منذ مطلع القرن العشرين، يوم أعلن بوضوح أنها ستغير حياتنا.
لكن الاتجاه الذي سلكته السينما الروسية في زمن فلاديمير بوتين، رئيساً منتخباً لروسيا، مختلف بعض الشيء. وقد شهدت البلاد في عهده تراجعاً مقلقاً للحريات. فالديمقراطية التي تتمتع بها روسيا شكلية، والمعارضة غير موجودة، أما القوانين فهي قوانين قيصر كرملين الذي راهن على تفضيل كثير من الروس للظلم على الفوضى، علماً بأن كثراً منهم لا يعلمون ماذا يجري في بلادهم. فالميديا هي أيضاً موجهة ومملوكة من السلطة، أما تلك التي كانت تحاول أن تغرد خارج السرب، فاشتراها أصدقاء الحكام والأوليغارشية الروسية، ولم يبقَ إلا بعض الصحافة الحرة التي يتم التعامل معها باعتبارها متنفساً، وإن عانت ضغوطاً، خصوصاً أن جمهورها محدود، وانتشارها كذلك.
رقابة السلطة
حتى وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تسلم من الرقابة شهدت سن قوانين تحمي السلطة. روسيا المعاصرة تلجأ إلى قوانين جائرة للتحكم بكل شيء، خصوصاً أن حزب "روسيا الموحدة" يملك الأكثرية التي تخوله أن يفعل ما يريد. في هذا النهج، لا يختلف بوتين عن الذين سبقوه، لا بل يتباهى بالإرث الذي يحمله على أكتافه، محاولاً إعطاء طابع قانوني لكل أنواع القمع الذي يمارس. ولضمان تطبيق القوانين بحذافيرها، أسند بوتين مناصب عليا لرجال ببذلات، سواء كانوا عسكراً أو شرطة أو تابعين سابقاً لـ"كي جي بي". في عهده، تمت ملاحقة معارضين لجرائم اقتصادية متخيلة أحياناً، بعضهم لاذ بالفرار كبوريس بيريزوفسكي الذي وجد منتحراً في لندن. آخرون زجوا بالسجن بعد محاكمات شكلية كحال رجل النفط ميخائيل خودوركوفسكي الذي كان تجرأ على إدانة الفساد وتمويل المعارضة، على الرغم من أن مساعدة القاضي نفسها اعترفت بأن الحكم تم إملاؤه من المراجع العليا.
في ظل هذا كله، كان من البديهي توظيف السينما في خدمة البوتينية السياسية. ليس كل السينما، لحسن حظ المواهب الروسية الكبيرة، ولكن على الأقل جزء منها. هناك رؤية شاملة للعالم يصوغها الكرملين من خلال حفنة أفلام لا تسافر، وهي للاستعمال الداخلي فحسب، على غرار السينما الإيرانية الموالية لنظام الملالي. من هذه الأفلام، "رجال بانفيلوف الـ28" (2016) لأندره شالوبا وكيم دروزهينين الذي يستند إلى فصل من التاريخ الروسي بأسلوب الدعاية الفجة، تلك الدعاية التي تختلف كلياً عن البروباغندا السوفياتية التي جاءت بالروائع. ولهذا السبب ربما ينبغي التحدث بالأحرى عن سينما وطنية تضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة وتعيد الاعتبار إلى دور روسيا في عهد بوتين. مع ذلك، لم تستطع السينما الروسية الممولة حكومياً بالكامل، أن تسرق الأضواء من سينما المؤلف الروسية التي تتحقق نتيجة المبادرات الشخصية، هذا التيار يتمثل في أفلام مثل "النجم" لنيكولاي ليبيديف (2002)، الذي يمكث على الخط الفاصل بين الترويج للوطنية البدائية والنقد.
العودة إلى التاريخ
طبعاً، العودة إلى التاريخ، خصوصاً الحرب العالمية الثانية ضرورية كنوع من لعبة مرايا بين الحاضر والماضي. كما أن هذه السينما المهمومة بالوطن لجأت أحياناً إلى نزاعات أحدث مثل أفغانستان والشيشان. حتى سينمائيون كبار ولاؤهم للسطلة معروف، انخرطوا في هذا الجو، منهم السينمائي الكبير نيكيتا ميخالكوف. صاحب الروائع من مثل "لحن غير مكتمل على بيانو ميكانيكي" و"العيون السود"، وجد لنفسه حضناً دافئاً في السنوات الأخيرة من حياته، وهو حضن الكرملين، وله فيه صديق حميم ليس سوى بوتين، ويعتبره ميخالكوف "منقذ كرامة الشعب الروسي" التي داستها تجربة الشيوعية المؤلمة. وهذا الانحياز للسلطة أكدته أفلامه الأخيرة المرتدة عن مبادئ المخرج الأولى. وإذا نظرنا إلى تاريخ عائلة ميخالكوف، لرأينا أن هذا الولاء للسلطة الحاكمة عند أفرادها ليس وليد اليوم. فالسينمائي الشهير ابن عائلة من المثقفين بلغوا أعلى المناصب في زمن الاتحاد السوفياتي، واستطاعوا التأقلم مع كل الحقبات التي مرت بها روسيا، بدءاً من الستالينية إلى اليلتسينية، مروراً بالخروتشيفية.
"حرقتهم الشمس 2: النزوح" هو تتمة لملحمة أسرية على خلفية تاريخية كان باشر ميخالكوف جزءها الأول عام 1994، أثارت زوبعة في أوساط المثقفين والنقاد لدى عرضه في موسكو في مناسبة الذكرى الـ65 لنهاية الحرب العالمية الثانية. وسارع نحو مئة من أعضاء اتحاد السينمائيين الروس، في مقدمتهم ألكسي غيرمان وألكسندر سوخوروف، إلى سحب عضويتهم من الاتحاد، بعد أن وقّعوا عريضة تحت عنوان "لا نحبه"، مستائين "من السلوك التوتاليتاري" الذي يمارسه ميخالكوف عليهم، ومنددين بأجواء الوطنية الزائفة التي يفرضها وجوده على رأس الاتحاد، لكن اعتراضهم الأكبر كان على استغلال ميخالكوف منصبه لاستخدام 80 في المئة من الأموال العامة المخصصة لدعم السينما الروسية لإنجاز مشاريع بخاصة له وللناس الذين ينتمون إلى دائرته المغلقة. من هذه المشاريع "حرقتهم الشمس 2" الذي بلغت موازنته 50 مليون دولار، وبات الفيلم الأكثر تكلفة في تاريخ السينما الروسية بعد "الحرب والسلم" لسيرغي بوندارتشوك (1967). الفيلم فشل جماهيرياً، ولكن ميخالكوف كرر في تصريحاته الصحافية انه لا يبالي بالعدد بقدر ما يبالي بنوعية المشاهدين!
سينما وطنية
وفي حين أن التقليد الروسي العريق قام على السؤال وتكرار السؤال، جاءت هذه السينما الوطنية، بأجوبة خالصة ومحسومة، حول الإيمان والوطنية وأشياء أخرى، وهي على صورة ميخالكوف الذي بدا متمرداً في أماكن وعكس ذلك في أماكن أخرى، وعلى أهبة الاستعداد دائماً لخوض كل المعارك معاً. وبالأسلوب نفسه أنجز ابن سرغي بونادارتشوك "ستالينغراد" عام 2013، أول فيلم روسي ثلاثي البعد كما قيل، وبلغت موازنته الملايين وهي ظاهرة على الشاشة، خصوصاً في إعادة تجسيد المعارك والتدمير والقصف جواً وبحراً وبراً. هذه هي باختصار، السينما الروسية الرسمية، في عهد بوتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على نقيض هؤلاء، يقف جملة مخرجين معارضين إذا صحت فيهم هذه التسمية، منهم الأوكراني الذي أنجز أفلاماً في روسيا: سيرغي لوزنيتسا. بالنسبة له، روسيا تعيش في القرون الوسطى، حيث الحاكم يقرر كل شيء. قد يكون الكلام مغالاة، لكن مخرج "يا فرحتي" الذي عرض في كان، لديه أسباب يعتبرها وجيهة، يقارن بوتين بماكبث، ويروي أن الفساد امتد إلى كل الجمهوريات السوفياتية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وكييف لكونها أكثر المجتمعات غربيةً لا تزال تحافظ على شيء من الخصوصية... "لا تزال هناك صحافة حرة، ولدينا من لا يزال يؤمن بالقضاء، ومحاكم تعمل إلى حد ما"، يروي هذا الحامل شهادة من معهد "فغيك" الشهير الذي خرّج سينمائيين مثل تاركوفسكي. لوزنيتسا يعد نفسه وريث السينمائي الروسي أبرام روم الذي يعتبر أعماله مختلفة عما كان ينجزه أيزنشتاين. يقول: "ظهر هذا البديل لأن طريقة أيزنشتاين جرى استخدامها للدعاية الأيديولوجية. كنا نعلم أنه يعمل لصالح البروباغندا... "أكتوبر" على سبيل المثال عمل عظيم، ولكن في الحين نفسه فيلم دعائي، هذا لا يمنع ذاك، لأن هناك نوعية سينمائية لا يمكن إنكارها". في أول مقابلة أجريتها مع لوزنيتسا قبل عشر سنوات، تساءل لماذا لم تؤفلم مثلاً قضية ليتفينينكو (عميل الـ"كي جي بي" الذي سمم)، قائلاً إن بعض المواضيع الحساسة في روسيا لا يمكن تناولها، وقد تشكل خطراً على حياة المخرج... "إذا تجرّأت وفعلت، فستتلقى رصاصة في رأسك. قضية ليتفينينكو ممكن أن تعطي فيلماً عظيماً، لكن أنا أسأل: أين هذا الفيلم؟ لا أحد يريد أن ينجزه لأن الجميع يعرف أين يمكن أن يصل".
سينما مستقلة
لا يمكن الحديث عن السينما الروسية المستقلة من دون ذكر اسم أندره زفياغينتسف، صاحب "بلا حب"، الذي قدم أفلاماً إشكالية تستعرض روسيا المعاصرة، آمالها وهمومها وانحطاط مجتمعها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن زفياغينتسف ينبذ الخطابية فيصعب استدراجه إلى كلام مباشر في السياسة. يعتبر أنه من الغباء أن نقول للمشاهد "هكذا هي الحقيقة، ولا يمكن أن تكون إلا هكذا". وهذه المقاربة وحدها نسف صريح للسينما القائمة على الخير والشر التي تريدها السلطات. يفضل تسمية "الواقعية الشعرية" لوصف أفلامه. يقول: "يبدو أنني أنجز أفلاماً أوروبية أكثر منها روسية. صحيح أنني أنتمي إلى بلاد حدودها واضحة وملامحها مقطعة، لكن وطني الحقيقي هو السينما وكل هؤلاء السينمائيين الكبار من برغمان إلى كاسافيتس فبروسون وأنطونيوني وكوروساوا الذين صاغوا ذائقتي البصرية. أشعر بأنني ابنهم، مع أن الدم الذي يجري في عروقي دم روسي".
الجيل الأصغر من جيل لوزنيتسا وزفياغينتسف لديه أيضاً رؤية معينة لروسيا اليوم يريد طرحها بعيداً من الوطنيات الكاريكاتورية. الروسي إيفان تفردوفسكي يعد اليوم موهبة أكيدة في السينما الروسية ويحرص على إيصال رؤيته الصادمة عن روسيا اليوم. في فيلمه "رجل القفز"، صور مغامرات قاصر يلقي بجسده الفتي أمام سيارات الأغنياء الفارهة، ثم يجرهم إلى المحكمة لمطالبتهم بتعويض مالي. أنجز تفردوفسكي هذا الفيلم بعد أن علم بوجود شرطي كان يستخدم مراهقين لافتعال حوادث سير. كان المراهق يلقي بنفسه أمام السيارة، ثم يأتي الشرطي ليبتز السائق. لم يستطع إظهار ابتزاز الشرطي في الوثائقي لأسباب معروفة، ففضّل تصويره بصيغة الروائي. ود المخرج الشاب تحليل تأثيرات النظام السياسي في حياة الناس، لا سيما الشباب منهم، فهو يرى أن هناك جيلاً كاملاً من الناس هم اليوم في الثامنة عشرة، راشدون مستقلون، ولدوا وعاشوا حياتهم كلها تحت حكم رئيس واحد، وتحت نظام قيم كامل متكامل. وينهي معلقاً: "أشعر كم هم مختلفون عني، مع أنني أكبرهم بعشر سنين فقط لا غير".