قبل بدء الحرب في أوكرانيا بوقت طويل، اندلع صراع في المنطقة حول ما إذا كانت الأوكرانية لغة أم لا، فبينما لا يُواجه اللغويون المتخصصون ولا الأوكرانيون أي مشكلة في أن الأوكرانية لغة تختلف عن اللغة الروسية مثل اختلاف الإسبانية عن البرتغالية، سعى القوميون الروس منذ فترة طويلة إلى تصنيفها على أنها لهجة روسية وليست لغة مستقلة بذاتها، ولأن اللغة أصبحت أساسية جداً للهوية الوطنية، فقد استخدمت في الصراع الدائر الآن من ضمن جوانب أخرى، فما الدور الذي لعبته اللغة في هذا الصراع؟ وإذا كانت الروسية والأوكرانية غصنين من الفرع اللغوي نفسه، فما الذي جعلها قضية ساخنة وجزءاً لا يتجزأ من الصراع بين البلدين؟
أحد المؤشرات القوية على علاقة اللغة بشكل مباشر بهجوم روسيا على أوكرانيا هو ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن السياسات الحكومية الأوكرانية التي تشجع على استخدام اللغة الأوكرانية، هي دليل على ما يصفه بالإبادة الجماعية للأوكرانيين من أصل روسي أو الناطقين بالروسية في شرق البلاد، بالتالي يوفر ذلك جزءاً من الأساس المنطقي للحرب، لكن بغض النظر عن منطق بوتين وتصوراته، هناك شيء آخر يتصل بالحرب وهو قوة اللغة.
الروسية لغة قوة
يبدو أن ما يميز بين اللغة واللهجة ليس يسيراً كما يتصور البعض، إذ إن المفاهيم الإشاعة التي تحدد اللغة عن اللهجة، تستند عادةً إلى معايير سياسية أكثر منها لغوية، وكما قال عالم اللغويات الاجتماعية ماكس وينريتش، فإن "اللغة هي لهجة يفرضها الجيش والبحرية" كدليل على منطق القوة في تحديد اللغة وما يشتق عنها من لهجات، وفي هذا السياق تعد اللغة الروسية، لغة تولستوي ودوستويفسكي، واحدة من اللغات القليلة في العالم، إلى جانب لغات أخرى مثل الإنجليزية والإسبانية والفرنسية، التي تتشابك بشدة مع السياسة العالمية وتجارة الأعمال وثقافة البوب.
ومن بين 260 مليون ناطق بالروسية حول العالم، يتحدث 40 في المئة منهم، أي نحو 103 مليون شخص اللغة الروسية كلغة ثانية، وهي علامة على أن الناس يرون قيمة في تعلمها، كما يقول فيليب كارتر أستاذ مساعد اللغويات في جامعة فلوريدا الدولية، فهي لغة مشتركة عبر آسيا الوسطى والقوقاز، ويتحدثون بها في دول البلطيق أيضاً، لكن في أوكرانيا التي تعد أكبر جار لروسيا في أوروبا، يتحدث ثلث السكان اللغة الروسية، أي نحو 14 مليون شخص في مدن شرق وجنوب البلاد.
غير أن عدد المتحدثين ليس السمة المميزة لقوة اللغة، فالمتحدثون باللغة البنغالية، على سبيل المثال، يبلغ عددهم 265 مليون متحدث أي أكثر من المتحدثين بالروسية، لكن الناس لا يقبلون على تعلمها، وفي المقابل، تعتبر اللغة الروسية فريدة من نوعها بين اللغات السلافية، إذ يتم تدريسها في أرقى الجامعات في أنحاء أوروبا وآسيا والولايات المتحدة، وفي ظل هذا النفوذ، والإنتاج الثقافي، تبدو مكانة اللغة الروسية كقوة طبيعية.
مكانة تاريخية
وتستمد اللغات التي تتمتع بالنفوذ والقوة مكانتها ليس من النظام اللغوي، ولكن من التاريخ والثقافة والسياسة التي شكلتها، وهو ما يمنح المتحدثين بها المكانة والقيمة المتصورة، فقد اكتسب المتحدثون بالروسية هذه اللغة بديلاً عن لغات أخرى من خلال تاريخ من التوسع، فقد انتقل سكان دوقية موسكو الكبرى التي سبقت الإمبراطورية الروسية، إلى الشرق والشمال، واستولوا على كازان وسيبيريا خلال القرن الـ16، وبحلول نهاية القرن الـ19، احتل الروس آسيا الوسطى، حتى وصلوا إلى حدود الصين، وبعد الحرب العالمية الثانية، وسع الاتحاد السوفياتي مجال نفوذه إلى أوروبا الشرقية، غير أن أوكرانيا أصبحت جزءاً من الاتحاد السوفياتي عام 1922، إلى أن نالت استقلالها عام 1991 عندما تفكك الاتحاد السوفياتي.
ما اللغة الأوكرانية؟
بالنسبة لبعض القوميين الروس، فإن الأوكرانية ليست لغة على الإطلاق، ففي عام 1863، أعلن وزير الداخلية الروسي بيوتر فالويف، أن اللغة الأوكرانية المنفصلة، والتي أطلق عليها اسم "الروسية الصغيرة" لا وجود لها، فهي لم تكن موجودة، ولن تكون موجودة، كما أشار قول آخر منسوب إلى قيصر روسيا نيكولاس الثاني إلى أنه لا توجد لغة أوكرانية، فقط فلاحون أميون يتحدثون الروسية الصغيرة.
لكن التاريخ اللغوي يشير إلى أن الأوكرانية والروسية، ظهرتا كلغتين منفصلتين انبثقتا من لغة مصدر مشتركة في عام 500 ميلادية، والتي يشير إليها اللغويون باسم "السلافية البدائية"، ولهذا تشترك اللغات السلافية في كثير من أوجه التشابه اللغوي النحوية والصوتية، وقد خرجت من وطن مشترك، هو غرب أوكرانيا على الأرجح، حيث انتشر المتحدثون بالسلافية البدائية من وطنهم، متجهين شمالاً وغرباً وجنوباً لأسباب مختلفة لا يزال اللغويون وعلماء الآثار يتجادلون حولها، لكن في أثناء تحركهم، أدت السلافية البدائية تدريجياً إلى ظهور أصناف من اللغة التي ستصبح في النهاية اللغات السلافية المعاصرة، والتي تشمل البولندية، والروسية والأوكرانية والصربية، وبحلول القرن التاسع، ارتبط بعض السلاف الذين بقوا على مقربة من الوطن بالروس، وهم مجموعة كانوا إما سلافاً أو إسكندنافيين، وأنشأوا أول اتحاد سلافي شرقي يعرف باسم "كييفان روس"، والذي تأسس كما يوحي الاسم في كييف الحالية، حيث تعتبر "كييفان روس" أصل الأمة الروسية والأوكرانية والبيلاروسية.
مقاومة اللغة الروسية
ولأن اللغة أصبحت أساسية للهوية الوطنية، لم يكن مستغرباً إعادة صياغة الأوكرانية كلغة روسية في حملة الرئيس فلاديمير بوتين، تماماً كما كانت بالنسبة للقيصر نيكولاس الثاني قبل 200 عام، ولا يترك مقال بوتين الذي نشره في يوليو (تموز) 2021 تحت عنوان "حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين"، سوى القليل من الشك حول موقفه، فإذا كانت كل الأشياء الأوكرانية بما فيها اللغة، مجرد مشتقات لكل ما هو روسي، فإن الهجوم لا يبدو وكأنه عمل عدواني، ولكن أكثر شبهاً بإعادة الاندماج.
غير أن الأوكرانيين، يرفضون هذا الوصف، ليس لأنهم لا يتحدثون اللغة الروسية في أوكرانيا، فالرئيس فولوديمير زيلينسكي نشأ في عائلة ناطقة بالروسية، ولكن، لأن الهوية الأوكرانية بالنسبة لكثيرين تنطوي على ثنائية اللغة، إذ يتحدث كثيرون من الأوكرانيين كلاً من الأوكرانية والروسية، كما تعرضت اللغة الأوكرانية للاضطهاد والتهميش طوال الحقبة القيصرية والسوفياتية، قبل أن تتخلى عن وضعها كلغة من الدرجة الثانية في عام 1991، لتصبح اللغة الرسمية للدولة في أوكرانيا المستقلة.
تاريخ من النزاع
ويرى دومينيك آريل، رئيس قسم الدراسات الأوكرانية بكلية العلوم السياسية في جامعة أوتاوا بكندا، عبر دراسة نشرها معهد الدراسات الأوكرانية في جامعة هارفارد الأميركية، أن الحرب الدائرة الآن، ومن قبلها الصراع حول دونباس وبقية شرق أوكرانيا، يذكر بالتوتر التاريخي في العصور المتأخرة من روسيا الإمبراطورية، وخلال عهود الاتحاد السوفياتي، حول العلاقة بين اللغة الأوكرانية وقضية الولاء للدولة، فقد دافع النشطاء الأوكرانيون والمسؤولون الروس الصغار المؤيدون للتنوع اللغوي في كييف عن تميزهم الثقافي الإقليمي، وتفرد اللغة العامية للفلاحين، بينما فسر القوميون الروس مطالب دعم الدولة للأوكرانيين على أنها تهديد لسلامة الإمبراطورية، وعكست المراسيم التي تحظر الاستخدام العام للأوكرانية في عامي 1863 و1876، الخوف من اللغة الأوكرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي عشرينيات القرن الماضي، انقسم المسؤولون السوفيات بين قول فلاديمير لينين القائل إن الفلاحين الأوكرانيين سيتوافقون مع الدولة السوفياتية إذا تحدثت إليهم الدولة باللغة الأوكرانية، وبين الشك في أن ترويج المثقفين للأوكرانية يمكن أن يؤدي إلى انفصال أوكرانيا، ما أدى إلى تنامي عدم الثقة في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وبلغ الانقسام ذروته في تقييم الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين بأن المقاومة الأوكرانية لقسوة العمل الجماعي، كانت نتيجة لجعل الأوكرانية لغة الدولة، وكانت عقوبة هذا التحدي هو أن أصبحت اللغة الأوكرانية جريمة وتم حظرها تماماً.
اللغة والقومية
وعلى الرغم من مرور عقود طويلة على هذه الأفكار التاريخية للإمبراطورية الروسية القومية أو السوفياتية الستالينية بأن اللغة الأوكرانية ترمز إلى "الانفصالية" وخيانة الدولة الروسية، فإن الآراء التي نشرها المقاتلون المسلحون من روسيا ودونباس تعزز هذه الفكرة التاريخية، وهو ما عكسه الرئيس بوتين بكلماته في خطاب النصر بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 حينما قال إن المحرضين على سياسة لغوية تنتهك المتحدثين بالروسية، هم من نسل أولئك الذين تعاونوا مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، لم تنتشر هذه النظرة المتشددة للصلة المباشرة بين اللغة الأوكرانية والقومية الأوكرانية، إلى مناطق أخرى من شرق أوكرانيا الناطقة بالروسية، فقد اعتبر الأوكرانيون الشرقيون المعاصرون الناطقون بالروسية أنفسهم جزءاً من أوكرانيا، حيث كان للحرب في دونباس تأثير معاكس لتأكيد هوية الدولة الأوكرانية الشرقية.
التقسيم الإثني اللغوي
ولتبسيط التوزيع الإثني اللغوي الأكثر تعقيداً، يمكن تقسيم أوكرانيا إلى ثلاث مجموعات إقليمية، أولها، الأوكرانيون في المناطق الوسطى والغربية من البلاد الذين يتحدثون الأوكرانية، والأوكرانيون في المناطق الشرقية والجنوبية الذين يتحدثون الروسية، والروس في شرق أوكرانيا الذين يتحدثون الروسية.
ومنذ الاستقلال أثار بُناة الدولة الأوكرانيون فكرة أن الأوكرانيين الناطقين بالروسية هم نتاج سياسات إمبريالية روسية وسوفياتية تهدف إلى استخدام اللغة الروسية كلغة أولى، وأن السياسة اللغوية الناجحة يجب أن تجعلهم وأطفالهم ينتقلون لغوياً إلى الأوكرانية لتصبح لغتهم المفضلة، كما قدم الأدب الأكاديمي منذ الاستقلال الأوكرانيين الشرقيين على أنهم متناقضون بشأن هويتهم، لأنهم يفضلون التحدث بلغة مختلفة عن اللغة المرتبطة بجنسيتهم طالما ابتعدوا عن التصويت لصالح الأحزاب التي ترى اللغة الأوكرانية، هي المكون الأساسي للهوية الأوكرانية.
لكن هذا الموقف أدى إلى استياء الأوكرانيين الشرقيين الناطقين بالروسية، لأنه أرسل إشارة بأن المتحدثين بالأوكرانية هم الأوكرانيون الحقيقيون، وما زاد الطين بلة، أن ذلك الانفصال اللغوي جعل سكان شرق أوكرانيا يصوتون بعد الاستقلال بأعداد كبيرة للأحزاب، والمرشحين للرئاسة، الذين يعلنون تقارباً سياسياً مع روسيا، ولم تمنع براغماتية الأحزاب الموالية للكرملين من استغلال قضية اللغة ببراعة، وبخاصة مع العقد الأول من القرن الـ21، حيث تم تشجيع الأوكرانيين الناطقين بالروسية على التفكير في أنفسهم كأقلية متميزة ومضطهدة، بحسب ما تقول الباحثة والصحافية إيرينا ماتفييشين في تقرير نشره مركز أوراسيا في المجلس الأطلسي، وهو ما أشارت إليه النتائج الانتخابية بين عامي 1994 و2012 من توجهات مستقطبة تجاه اللغة الروسية وروسيا، الأمر الذي أدى إلى تغذية التصور بين الأوكرانيين الغربيين بأن الأوكرانيين الشرقيين موالون لروسيا، وجعل الناطقين باللغة الأوكرانية راغبين في إزالة الروس من أوكرانيا.
قضية متفجرة
وعلى مدى عقود، أثبتت جهود تنظيم وتشجيع استخدام اللغة الأوكرانية بدلاً من اللغة الروسية، أنها قضية متفجرة سياسياً، وأصبحت ترمز إلى أزمة الهوية الأوكرانية المستقلة، وعكس الجدل الوطني حول قضية اللغة، الانقسامات المستمرة داخل المجتمع الأوكراني حول المواقف تجاه الدور المهيمن الذي لعبته روسيا في ماضي البلاد.
وامتد الصراع إلى الحياة العامة الأوكرانية، حيث أدت المخاوف من أسبقية اللغة الروسية أو الأوكرانية إلى نزاع مرير عام 2020، حيث كانت هناك مناقشات واحتجاجات ساخنة حول مشروع قانون استهدف إلغاء شرط يقضي بأن تكون اللغة الأوكرانية هي الأساس في 80 في المئة من التعليم المدرسي، كما دار شجار عام 2012 في البرلمان الأوكراني حول مشروع قانون كان من شأنه أن يجعل اللغة الروسية لغة رسمية، إلى جانب الأوكرانية، في الأجزاء الشرقية من البلاد التي ينطق قطاع واسع من سكانها بالروسية.
ووصلت هذه الرسائل إلى ذروتها خلال ضم الكرملين شبه جزيرة القرم عام 2014 والحملة الروسية اللاحقة في مختلف أنحاء جنوب وشرق أوكرانيا، إذ ظلت القضية متقدة في قلب الحرب الروسية الهجينة المستمرة منذ ذلك الحين، لكن الحرب في دونباس خلال الأعوام السابقة للهجوم الروسي الأخير، أنتجت انفصالاً درامياً للغة عن الولاء للدولة، فبينما كانت الدولة الروسية والحركات القومية الروسية في شرق أوكرانيا، تتصور بعد سقوط الرئيس يانوكوفيتش الموالي لموسكو، أن المتحدثين بالروسية موالون لروسيا وفقاً لما صرح به الرئيس بوتين في أبريل (نيسان) 2014، عن أن نصف أوكرانيا في الشرق والجنوب، لا ينتمي بشكل شرعي إلى أوكرانيا، لأن معظم الشرقيين هم من المتحدثين بالروسية.
غير أن الحرب في دونباس قلبت هذه التوقعات رأساً على عقب، ودفع التدخل العسكري الروسي في هذه المناطق إلى رفض أغلبية ضخمة في الشرق والجنوب، مبدأ تدخل روسيا لحماية المتحدثين بالروسية في أوكرانيا، ولعب الأوكرانيون الناطقون بالروسية دوراً بارزاً في صد الهجوم الروسي، ما أدى إلى تغيير مفاهيم اللغة والهوية في أوكرانيا اليوم، ودفع إلى ظهور هوية وطنية مدنية تتجاوز الحدود الضيقة للغة والعرق، ورأى كثيرون في انتخاب فولوديمير زيلينسكي، وهو يهودي يتحدث الروسية، كسادس رئيس لأوكرانيا عام 2019، تأكيداً إضافياً على أهمية تجاوز الانقسام في السياسات الخاصة باللغة في أوكرانيا.
لغة ما بعد الحرب
وحتى بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، تشير تقارير مختلفة إلى أن بعض الأوكرانيين الناطقين بالروسية يتخلون عن اللغة الروسية لتجنب استخدام لغة المحتل في شرق البلاد، على الرغم من أن المتحدثين في مختلف أنحاء العالم قد يتنازلون عن لغتهم الأم لصالح اللغات التي يرون أنها أكثر قيمة في كل وقت، ولكن هذا يحدث عادة بشكل تدريجي في الظروف الطبيعية وفي اتجاه اللغات القوية.
لكن في ظروف الإكراه الشديد من هجوم خارجي أو خضوع قسري من مجموعة مهيمنة، من غير المعتاد أن يتخلى المتحدثون عن لغتهم الأم بين عشية وضحاها، ومع كل الاهتمام بأوكرانيا، ربما سيقدر العالم أنها موطن السلافية، حيث يبدو أن الناس هناك، سيواصلون تفضيل التحدث بالأوكرانية، وليس الروسية.