بمقدار ما بهرت كتابات النمسوي ستيفان زيفايغ وأفكاره وصولاً إلى تلك المذكرات البديعة التي خلفها يوم رحل عن عالمنا انتحاراً مع زوجته الأخيرة شارلوت بعيدين ألوف الكيلومترات عن وطنهما وهواهما الأوروبي، فتن كثر من الكتاب والمبدعين المعاصرين بتلك النهاية المزدوجة التي بها ختم صاحب "حذار من الشفقة" و"24 ساعة من حياة امرأة" حياته كما فعلت امرأته في غرفة في منفاهما البرازيلي ذات يوم من فبراير (شباط) 1942 أي قبل سبعين عاماً من الآن، مبتسمين بكل هدوء وقد تجرعا سماً قاتلاً. ولقد حدث ذلك بالتحديد بعد برهة من إيداع الزوجين مخطوطة كتابه الأخير "عالم الأمس" الذي حرص على أن يدبج آخر صفحاته بل ينقحها حتى قبل أن يصل إلى لحظة النهاية. ويعرف كثر اليوم أن زفايغ وشارلوت لم يختارا تلك النهاية إلا بدافع من يأسهما أمام أخبار تأتيهما من أوروبا حول زحف النازيين الهمجي في تلك القارة التي اعتبرها الكاتب وطنه النهائي وفردوسه المفقود. أو هذا على الأقل ما يؤكد عليه في نصه الأخير الرائع ذاك.
نحو ذكرى استثنائية
من هنا ولأن لزفايغ مكانة وشعبية لا يغيبان إلا ليظهرا من جديد كتباً وأفلاماً ومناسبات وما إلى ذلك، كان من المنطقي أن يحتفل كثر من المبدعين قبل 10 سنوات بذكرى مرور ستين عاماً على ذلك المشهد البرازيلي المريع والمدهش في آن معاً، كتابة وأفلاماً ومسرحاً كما عبر أعمال موسيقية وأعداد خاصة من مجلات أدبية وغير أدبية، كما جرى حينها عرض وإعادة عرض أفلام مأخوذة عن أبرز رواياته من تحقيق كبار من مخرجي القارتين الأميركية والأوروبية. ولعل الأكثر طرافة بل جمالاً بين تلك النتاجات التي تتابعت طوال عام 2012، كان ألبوم الشرائط المصورة الذي يحمل عنوان "أيام ستيفان زيفايغ الأخيرة" الذي أصدرته منشورات "كاسترمان" البلجيكية – الفرنسية يومها، وهي دار متخصصة في هذا النوع من المنشورات ومن مزاياها أنها ساهمت في التقريب بين فن الشرائط المصورة والعديد من الآداب والفنون، ولا سيما السينما، وتجلى ذلك في تحويل أفلام وسير كثيرة إلى البومات شرائط مصورة أحدثت تجديداً في هذا الفن المسمى "الفن التاسع"، إلى جانب إضفائها شعبية متجددة على بعض أصعب الإبداعات في مجالات متنوعة.
جوهر النهاية وهمومها
في هذا الألبوم الذي يمتد على نحو تسعين صفحة من القياس الكبير، لا تطالعنا سيرة الكاتب كاملة بالطبع، فهذه تحتاج رسوماً ونصوصاً تملأ أضعاف أضعاف ذلك من الصفحات، لكن الألبوم يهتم بشكل محدد بالفترة الأخيرة وصولاً إلى الانتحار. ولا بد أن نذكر هنا أن كاتب السيناريو لهذا العمل الفني هو لوران سكسيك الذي كان قد أصدر قبل ذلك بفترة رواية بنفس العنوان يتتبع فيها نفس تلك الحقبة الأخيرة من حياة زيفايغ، محاولاً التغلغل داخل أفكاره وهو يترصد كل خبر يأتيه من أوروبا التي كان قد بارحها أولاً إلى نيويورك التي عاش فيها ردحاً وكله أمل في أن تنقشع الغمامة السوداء عن القارة القديمة ويعود مع امرأته كما مع مئات المبدعين المنفيين مثلهما، ثم حين راح سواد الغيوم الأوروبية يتكثف وراح الزوجان يجدان نوعاً من الصعوبة في التكيف مع الحياة النيويوركية اقتنصا أول سانحة مكنتهما من التوجه إلى البرازيل فقصداها ليعيشا هناك من فورهما حقبة يأس لم يخفف من هولها مرح الحياة وزهوها في البرازيل. وهكذا راح يأس جديد يطغى على تفكيرهما حتى وإن عجز ذلك اليأس عن جعل الكاتب يتوقف عن إبداعه يوماً ولا سيما حين راح، وبسرعة قياسية، يشتغل على كتابه الأخير لينجزه على شكل وصية ولكن أيضاً على شكل احتفال بما كانت عليه أوروبا وبما بات يخيل لزفايغأنها فقدته إلى الأبد. فليحافظ عليه هو إذن بين دفتي كتاب ولينته كل هذا.
رسوم تليق بالمبدع
وهكذا كانت النهاية التي اختارها الزوجان لحياتهما منطقية ضمن إطار الظرف التاريخي المحدد الذي حدثت فيه، تاركة لنا أن نتساءل، كما كان من شأننا أن نفعل ونحن نتأمل تلك النهاية المشابهة وفي ظروف مماثلة تماماً، التي اختارها هناك في أوروبا صديق لهما هو الفيلسوف والتر بنجامين الذي وضع بدوره حداً لحياته أمام الهجوم النازي على أوروبا، ولكن عند الحدود الفرنسية- الإسبانية، إذ واجهته صعوبات حالت دون سلوكه دروب المنفى هرباً من فرنسا وقد استبد بها الفاشيون عملاء النازية. إذا حتى وإن كان الزوجان زفايغ أكثر توفيقاً، في هذا السعي على الأقل، من بنجامين، فإن الرعب كان وحده والنتيجة واحدة بالتالي. وهذا بالتحديد ما جعله لوران سكسيك بصياغة تخييلية إنما توثيقية في حدثيتها، موضوعاً لروايته التي تحمل العنوان نفسه. ومع ذلك فإن الرواية أتت سابقة على الشرائط المصورة وأكثر توسعاً منها، حيث أن الضرورات التقنية تفرض طبعاً على الرسوم أن تكون أكثر اختصار وتركيزاً. ومن هنا عالجت تلك الشرائط التي حققها بألوان مائية غاية في القوة التعبيرية، الرسام المعروف عالمياً في هذا الفن غيوم سوريل، عالجت الأيام الأخيرة بالفعل من حياة الزوجين وأضافت إلى ما هو معروف من تفاصيل تلك الأيام حوارات بل حتى شخصيات مفترضة ساعدت على توضيح أفكارهما مستعيضة حتى بابتكارات تقنية عن تيار الوعي الذي يبدو إلى حد ما غالباً على الرواية. ومن هنا يجد متصفح الألبوم نفسه أمام عمل متكامل فريد من نوعه يحمل الأحداث والأفكار والأحلام التي تقاسمها الزوجان. ومن ذلك على سبيل المثال ما يقوله ستيفن لشارلوت ذات لحظة من لحظات نهايتهما المشتركة: "أي أهمية للماضي والحاضر الآن، ما نملكه اليوم إنما هو المستقبل"، ومن الواضح أن ما يعنيه بهذه العبارة هو أن حياتهما من الآن وصاعداً سوف تمتد إلى الأبد، بعد مغادرتهما هذه الحياة الدنيا...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعمال متنوعة ومتفاوتة
في الواقع أنه لئن أتى هذا الألبوم بالغ الغنى والعمق إضافة إلى جماله الشكلي اللافت، يمكن القول إن الفيلم الذي حققته الألمانية ماريا شريدر عن الموضوع نفسه، يختلف إلى حد ما عن رواية سكسيك وبالتالي عن الألبوم، من حيث أنه يتناول بالأحرى سنوات المنفى التي تلت مبارحة زفايغالنمسا للمرة الأخيرة قبل رحيله بـ 8 سنوات، بل حتى يتوقف قبل انتحاره في البرازيل. ولئن كان يمكن القول إن تقنيات الفيلم وتلوينيته أتت قريبة من تقنيات الألبوم فإن السيناريو السينمائي أتى أضعف وأقل التصاقاً بفكر زفايغ وأدبه. أتى حدثياً أقرب إلى النضالية السياسية منه إلى العمل الفكري، بالتالي لم يتمكن من أن يلفت النظر أو من تحقيق أي نجاح، وعلى الأقل بالمقارنة مع الألبوم، ما جعل نقاداً يقولون إنهم لا يزالون في انتظار اهتمام سينمائي حقيقي بحياة صاحب "عالم الأمس" أو حتى فيلم يروي سنوات المنفى في بعدها الأوروبي على الأقل.
لو كان حياً!
ولعل هذا ما تمكن المسرح من تأمينه في باريس على الأقل من خلال المسرحية التي اقتبست بدورها عن الرواية نفسها ولكن مع "قلبة" أساسية في المنظور الذي منه جرى التركيز على انتحار الزوجين تتويجاً لمعاناة أيامهما الأخيرة. فالحال أن الأهمية في هذا الاقتباس المسرحي إنما أعطيت لشارلوت بالنظر إلى أن من قامت بالدور كانت الممثلة المقتدرة إيلسا سلبرشتين، صاحبة الفكرة أساساً، التي ستعود بعد أعوام قليلة للعب الدور نفسه في اقتباس سينمائي إضافي، فرنسي هذه المرة. وعلى هذا النحو نشاهد، على الأقل في المسرحية التي عرضتها صالة "مسرح أنطوان" نحو ستة أشهر متواصلة، نشاهد الحكاية ولكن كما تشاهدها وتعيشها شارلوت حتى لحظاتها الأخيرة. ولقد كانت الفكرة بارعة والأداء مميزاً بحيث قال النقاد أن احتفالية ذكرى رحيل هذين الزوجين الاستثنائيين نالت حظها وعادت بواجهة الأحداث الفكرية والأدبية والفنية بقوة كبيرة وإقناع يليق بقيمة ستيفان زيفايغ عبر هذه الأعمال التي كان من شأنها أن تطربه لو كان حياً بيننا!