من حظوظ ترجمة الأعمال الروائية الأجنبية إلى العربية أنها تعيد تعريف القرّاء العرب بأهمّ الكتّاب، وأكثر الأساليب تنوّعاً وغنىً، بالإضافة إلى مناخات الأزمنة وملامحها المعاصرة، معطوفة على وجهة نظر الكتّاب والأدباء الخاصّة. إذاً، يتعرّف جمهور القرّاء العرب إلى كتاب آخر الكاتب النمساويّ- الألماني ستيفان زفايغ (1881-1942) إضافة إلى عديد من الكتب المترجمة للكاتب نفسه، مثل "رسالة مجهولة" و"لاعب الشطرنج"، والخوف، وأربع وعشرون ساعة من حياة امرأة، وغيرها. والكتاب هو رواية صادرة عن دار مسيكلياني ومترجمها عن الألمانية الشاعر والمترجم التونسي أشرف القرقني (1989)، بعنوان "التحوّل" قد يكون اختصاراً لعنوان الكتاب بالألمانية "سُكر التحوّل".
ولكن قبل أن أعرض لحبكة الرواية بصورة موجزة، أعاود التعريف بالكاتب ستيفان زويغ، النمساوي- الألماني واليهودي العابر للانتماءات واللهجات والعصبيات. وإن كان ستيفان ولد من عائلة يهودية، في مدينة فيينا الكوزموبوليتية، فإنّ ثراء الأهل، وانفتاحهم على محيطهم الأوروبي الكبير، مهّدا السبيل لتكوينه الفكري والفلسفي، وحفّزاه على تعميق نظرته إلى الحضارة الأوروبية ونقدها وتفنيد مزاعمها الحداثية، نقداً مريراً، عشية صعود النازية، واجتياح جيش هتلر أوروبا وصولاً إلى فرنسا.
كان ستيفان الشاب قد بدأ شاعراً، متأثراً بريلكه، وما لبث أن أنشأ صداقات له في كلّ من باريس وفيينّا، وانضمّ إلى حلقات من الأدباء والمفكرين، ومنهم سيغموند فرويد وإميل فيرهايرن، ورومان رولان وغيرهم. ولمّا أن تكوّنت لديه، عبر صداقاته وتجاربه الشخصية ولا سيما معايناته مآسي الحرب العالمية الأولى إذ كان معفيّاً من الخدمة العسكرية لدواعٍ صحيّة، رؤية لدعوة سلامية لازمة لقيام أوروبا موحّدة ومزدهرة.
حبكة مشغولة
أما حبكة الرواية فأوجزها بالآتي: يسلّط الروائي الضوء السردي على شخصية كريستين هوفلينر، مقيمة في مسكن وضيع مع والدتها بقرية كلاين ريفلينغ النمساوية، وباتت موظفة في مكتب البريد في القرية نفسها. ولما كانت خالة كريستين قد تزوجت من تاجر قطن ثريّ وأقامت في العاصمة فيينا، فقد أرسلت في إثر أختها، فأجابتها الأخيرة باستحالة المجيء بسبب مرضها بالقلب. وعندها أرسلت بطلب كريستين ابنتها التي كانت قد بلغت السادسة والعشرين من عمرها وما زالت عزباء، فقيرة الحال، ويعصى عليها حتّى الانتقال إلى المدينة فيينا فكيف بالإقامة فيها والتنعّم بملذّاتها؟ هذا وحالما تلقّت من خالتها الرسالة باستقدامها إلى فيينا، للتعرّف إليها والإقامة معها وزوجها أنطوني فون بولن، في أحد الفنادق المخصصة بالطبقة النمساوية الثرية، همّت للقاء الخالة باعتباره مؤشراً إلى خلاصها من بؤسها وانطفاء آمالها. ولكنّ الأهمّ يراه القارئ حاصلاً بعد اللقاء والتعرّف إلى الخالة، المنتمية إلى طبقة حديثي النعمة في فيينا، وهو هذا التحوّل الذي أصاب كريستين؛ إذ لم تلبث الخالة أن جهّزت لابنة أختها الملابس الفاخرة والمظاهر اللازمة لتبدو على قدر من الأناقة والجمال ما يوافق نسبتها -المزيّفة- إلى عائلة "فون بولن" الأرستقراطية. وبالمقابل، فقد سهل على كريستين أن تنقاد مع لعبة تزييف الهوية، من أجل أن تكسبَ ودّ جماعتها الجديدة!
ولا تلبث كريستين أن تُفجع بموت أمّها، وتُصدم من مواقف خالتها وزوجها المتبرّمين منها بسبب عدم حضورها على الموعد. فتعود إلى المنزل، لا لتقبّل التعازي بموت والدتها، وإنما لتسرّع في قسمة ميراث الفقيدة من ثياب ومتاع وأدوات غير ذات قيمة. ومن ثمّ تقرّر ملاقاة خالتها إلى فيينا، وعندئذٍ تتعرّف إلى شخصية غريبة: فرديناند، وهو صديق أنطوني القديم، بل رفيق السلاح إبّان الحرب العالمية الأولى. ويتّضح من العتاب القاسي الذي يوجّهه الأول لزوج خالتها، أنّ الأخير ظلّ يمتنع عن لقائه، أو إعانته، على الرغم من معرفته بعوَزه، وامتناع الدولة النمساوية عن التعويض عليه بسبب إعاقته - بتر أعصاب أصابع يده- وهو يدافع عن بلاده. وفيما يكشفه فرديناند أنّ صديقه "أنطوني" هذا كان، لزمن قصير قبل الحرب، مناضلاً شيوعياً شرساً، وخطيباً مفوّهاً في فضائل الأممية وفي الدفاع عن مصالح الطبقة العمالية، وغيرها من الشعارات.
عبث القناع
وللحال، أدركت كريستين عبث القناع الذي ألبسته إياه خالتها وزوجها أنطوني وأغرقاها في خضمّ بروتوكولات السلوك والمشي والرقص والملبس والطعام لذوي الطبقة البورجوازية، ومضت تصطفّ إلى جانب فرديناند، وترتضي أن تحيا معه لحظات أخيرة من عمرها بالتسكّع في شوارع فيينا، إلى أن يتسنّى لهما تدبير فعل ثأري (أو ثوريّ)، يكشف عنه ختام الرواية الذي أدعه للقارىْ النّبه، يكون له وقع الانتقام من طبقة راكمت ثرواتها على حساب عذابات الفقراء والمعدمين، وأنكرت تضحياتهم بأرواحهم في سبيل وطنهم وعزّته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الملامح اللافتة في رواية "التحوّل" ذلك التقصّي النفساني الدقيق للشخصية الرئيسية، وهنا شخصية كريستين، بحيث لا يدع الراوي العليم أيّ سمة مما يمكن أن تصنع نموذج الفتاة العازبة والفقيرة في زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى إلاّ وينسبه إلى بطلته السلبية تلك. ولعلّ هذا التقصّي يصحّ لدى تتبّع الروائي أفعال الشخصيات الآخرين، وردود أفعالهم المتناسبة مع انتماءاتهم الطبقية؛ على سبيل المثال، ترحيب معارف الزوجين "فون بولن" بكريستين باعتبارها سليلة عائلة ثريّة، وانصرافهم عنها حالما أدركوا زيف ادّعائها وانكشاف تلفيقات خالتها عن ابنة أختها. ولكنّ الدرس الباهر من هذا التقصّي النفساني، الذي كان لفرويد فضل في ترسيخه عند الكاتب زفايغ، على ما أقرّ به يوماً، كان شعور الفتاة كريستين بالتحوّل، في عزّ انخراطها في مسار تعلّم مهارات ليست من طبيعتها، ولا من جوهر انتمائها. وإليك ما تقوله كريستين، أو ما يقوّلها الراوي العليم، في استبطانه العميق:
"منْ أنا إذن؟ كيف يمكنني أن أفوزَ فجأةً بكلّ شيء؟ وبأيّ مهارة وخفّة أتحوّل، أنا الذي كنتُ من قبل- وفق كلمات لأستاذ الرقص- متصلّبة خرقاء؟ ها إنّني أمسكُ بزمام الأمور بدلاً عنه. يا للسّهولة الّتي أتحدّث بها. لا شكّ أنني لا أقول شيئاً مغالياً في الحمق. فهذا الرجل المهمّ يستمعُ إليّ بلطف شديد. أيكون هذا الفستانُ وهذا العالمُ قد حوّلاني تماماً؟" (ص:88)
نقد الحرب
على أنّ ملمحاً آخر لا يقلّ أهمية عن الاستبطان النفساني السالف ذكره، عنيتُ به انتقاد الحرب بعامة، لما تجرّه على الشعوب من ويلات ودمار وخراب، كان رأى مفاعيلها بأمّ العين، حين أجبر على الخدمة العسكرية وأعفي منها لأسباب صحّية، في خلال الحرب العالمية الأولى. ولم يقتصر ذمّه الحرب وما ينتج منها على رواية "التحوّل"، وما حملته من تجارب ومعاناة رواها فرديناند، وإنما تعداها إلى أعمال روائية أخرى، مثل: ضمير ضدّ العنف، وساعات الإنسانية الأغنى، ووحدهم الأحياء يخلقون العالم، وغيرها. وفيما يتجاوز الأدب والكتابة، كان الكاتب ستيفان زفايغ داعية للسلام إلى جانب كتّاب فرنسيين وألمان، من أمثال رومان رولان، وغيره.
على أنّ أهمّ ما قد يلحظه القارئ، في الرواية، وإن بدلائل متفاوتة، هو إقراره بفشل الحضارة الأوروبية في مشروعها الحداثوي والإنساني، فشلاً متمثّلاً في الحرب العالمية الأولى، التي ما وني زفايغ يصف آثارها المدمّرة، سواء في مقتل والد كريستين في الحرب العالمية الأولى، أو في تداعي أركان العائلة، واضطرار الأم إلى العمل المزري، والموت بمرض القلب من دون القدرة على الطبابة، أو في انتفاء إمكانيات الحوار بين المتخاصمين من جنسيات وقوميات متقاربة ومتساكنة على مدى الأزمنة الغابرة، لا سيما الألمان والفرنسيين والنمساويين، على الرغم من التكامل بين مدن هؤلاء الأقوام واختلاطهم. والمثلبة الثانية والكبرى، الماثلة آثارها في رواية "التحوّل"، والتي يمكن إدراجها في فشل الحضارة الأوروبية، إنما تكمن في التمييز الطبقي بين أبناء البلد الواحد، على أساس المظاهر والثراء غير المشروع والامتيازات التي سعت الثورة الفرنسية إلى إبطالها من النفوس.
وتبقى النازية، وأخواتها الفاشية والتوتاليتارية، بنظر الكاتب زفايغ، والعديد من الفلاسفة والكتّاب الأوروبيين، بؤرة الشرّ الكبرى التي حذّر منها، وتجنّب السقوط في قبضتها، منذ عام 1939، لاجئاً إلى فرنسا، ومنها إلى إنكلترا، وطالباً اللجوء إليها، والعلامة الأكيدة على فشل الحضارة الأوروبية في مهمّتها الإنسانية على حدّ ما كان يقول.
وإن صحّ أنّ رواية "التحوّل" غير المنجزة بالكامل، والتي ترجمها الشاعر التونسي أشرف القرقني بلغة أدبية قاربت لغة الكاتب وأسلوبه إلى حدّ بعيد، فإنّها كانت إحدى ثمار كاتب ذي نزعة إنسانية وسلامية صادق مع نفسه، وملتزم بها حتّى الانتحار مسموماً، بمعية زوجته، نهار 22 شباط من عام 1942.