للأبطال الشعبيين في جميع الثقافات البشرية من دون استثناء، حضورهم الدائم والذي تتناقله الأجيال في القصص الشعبية والفلكلورية أو في كتب التراث، التي تجمع القصص الشعبية والتقليدية المحفوظة في الذاكرة الجمعية. وهذا الاهتمام بالأبطال الشعبيين لقي متابعة وبحثاً من علم الاجتماع وعلم النفس وعلوم التراث والتقاليد، وفي علوم جديدة برزت في زمن العولمة بسبب مجموعات ومنظمات كثيرة، تطالب بحفظ التراث الثقافي الخاص للشعوب حرصاً على عدم انقراضه بسبب "العولمة" التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، وتمكّنت من توحيد ثقافات العالم بشكل عام. فكان رد الفعل بإظهار الحرص المتأخر على الشعوب التقليدية التي لم تدخلها "الحضارة"، وتمت استعادة العادات والتقاليد الشعبية من الفنون والرقصات والموسيقى والأزياء الفلكلورية، وتجديدها وحمايتها وجعلها مصدر جذب عالمي للسياح في كل مجتمع تقليدي.
الأبطال الخارقون لا بد منهم
ولم يجد علم النفس الاجتماعي أي صعوبة في تفسير وجود الأبطال الشعبيين ذوي القوى الخارقة في ثقافات كل المجتمعات. فمنذ أزمنة الغزو والترحال البشري ومن ثم بعد الاستقرار في مجتمعات زراعية ثابتة، كان هناك قائد القبيلة الذي يتكفّل بحمايتها من هجمات القبائل الأخرى، وغالباً ما تتم تضخيم صورة هذا الحامي والمقاتل والمدافع عن ملكية الجماعة عبر الزمن وعبر تناقل القصة التي تتحوّل إلى أسطورة، فتضاف إلى قوته الطبيعية قوى خارقة، كأن يقتل من الأعداء بضربة واحدة عشرات الرجال، أو أن يده يمكنها أن تمتد إلى داخل صفوف العدو وأن سهمه يساوي سرعة البرق، إلى ما هنالك من قوى لا يملكها الرجل العادي. في الثقافة العربية المشتركة هناك عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبطال ألف ليلة وليلة، وهناك الأبطال المحليون في كل مجتمع خاص على امتداد العالم العربي من شمال أفريقيا إلى بلاد الشام حتى الخليج. وداخل كل هذه المجتمعات، هناك أبطال ملحميون خاصون بكل جماعة أو ثقافة. وبتحليل علم النفس الاجتماعي، فإن بقاء صورة هذا البطل متداولة بين الأجيال هي بمثابة نفخ روح الاعتزاز بالماضي والشعور بالقوة في الجماعة، حتى لو لم تكن كذلك في الواقع. فاختراع الشخصيات والقوى الخارقة والحفاظ عليها في الذاكرة الجماعية، لا يرتبط بكون الجماعة التي تحتفي ببطلها، في حالة من القوة أو السطوة أو في حالة من الضعف والتقهقر، فالأبطال التقليديون الخارقون للطبيعة هم ضمانة ذاكرة الجماعة في كل أحوالها.
على سبيل المثال، تُستعاد في العالم العربي شخصيات عنترة وسيف بن ذي يزن من الأبطال القدماء، وكذلك أبطال آخرون يختصون بكل جماعة مذهبية، كجماعة الحشاشين التي يقال إن من اسمها جاءت كلمة الاغتيال بالفرنسية assassin ، أو أبطال زمن العصر العباسي وهم كثر، بسبب دخول أساطير والمخيال الجمعي لشعوب أخرى على رأسها الفرس وسكان بلاد الشام وبلاد الأندلس وسكان شمال أفريقيا. فولد من خليط هذه الثقافات أبطال شعبيون أسطوريون حُفظ الكثير منهم في التراث الشعبي، وعلى رأسها قصص ألف ليلة وليلة، وغيرها الكثير من كتب التراث. وبما أن العرب القدماء كان الشعر وسيلة التعبير عن أنفسهم وحياتهم ومجتمعاتهم، فقد استخدمه شعراء كثر للتفاخر بأصولهم وجذورهم وقوتهم من الشنفري إلى إمرؤ القيس إلى عنترة الذي عوّض عن كونه أسود اللون بالتفاخر بقوته الخارقة "لقد ذكرتك والرماح نواهل مني"، وكذلك فعل المتنبي الذي يجعل من نفسه بطل الأبطال "الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم". ثم ظهر الأبطال المحليون في العصر الحديث من مقاومي الاحتلال العثماني ومن ثم الفرنسي والإنجليزي وغيرها.
ويناقش علماء الاجتماع العرب سبب منح الشعوب العربية صفات البطولة لأشخاص لم يوصلوهم إلا إلى الهزائم، كما هي حال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين. والإجابة العامة على هذا التساؤل هو الحاجة الدائمة إلى بطل يحاكي عواطف الجمهور وتطلعاته بغض النظر إذا ما أوفى بما يعد به أو لم يفِ.
قوة خارقة
المثال المعاكس هو الولايات المتحدة الأميركية التي تصنع في عالم السينما في هوليوود مئات النسخ من الأبطال الخارقين، الذي كانوا قد اشتهروا في مجلات القصص المصوّرة قبل أن يصبحوا أبطال شاشات السينما وتنتقل شهرتهم إلى أنحاء العالم، مثل المحارب الأسطوري رامبو الذي هزم جيوشاً مدججة في الأفلام، وكذلك سوبرمان وسبايدرمان وباتمان.... وهؤلاء كلهم أصبحوا أبطالاً عالميين، ولكنهم يدلّلون على القوة الأميركية التي تحاول نشر ثقافتها على سائر العالم في عصر العولمة، كما يردد معارضو الثقافة الأميركية.
وعلى الرغم من قوة الولايات المتحدة الأميركية العسكرية والاقتصادية في الواقع، والتي لا تنافسها فيها أية دولة أخرى، حتى الصين على الرغم من كل النمو الاقتصادي الذي شهدته، إلا أنها ما زالت تحتاج لهؤلاء الأبطال الخارقين للترويج لثقافتها التي تحدد في هذه الأفلام ما هو الخير وما هو الشر، كما يُجمع الباحثون في مجال "الأبطال الخارقين"، والبطل الخارق دائماً إلى جانب الخير بالطبع، بحسب ما تروجه البروباغندا الأميركية، والتي تلقى رواجاً فعلياً في أنحاء العالم حتى في الصين وروسيا إذا اعتبرنا أنهما الأمبراطوريتان المتعارضتان مع الأمبراطورية الأميركية سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرامبو الصيني
وقد قامت روسيا في الآونة الأخيرة باستعادة مرويات وأساطير بطولات الجنود القوزاق، وقامت السلطات الروسية بإعادة تجنيد القوزاق الذين كانوا جنود القيصر الذين يطيعونه إذا دعاهم إلى الموت. وكانت قد انطفأت أسطورتهم في العهد السوفياتي، وقام القيصر الروسي الجديد فلاديمير بوتين، كما يصفه المحللون السياسون بعد دخول جيشه إلى أوكرانيا، باستعادة تقاليد القوزاق الحربية في التعليم العسكري وفي التراتبية داخل الجيش.
أما في الصين، فقد أبرز مسلسل "الأفلام التي صنعت حياتنا" عبر شبكة "نتفليكس"، أن بكين بدأت بالترويج لأبطال صينيين يشبهون "رامبو" الأميركي الذي لعب دوره سيلفستر ستالون.
وهذا الرامبو الصيني يقوم بما يقوم به الرامبو الأميركي بالتحديد، أي الشرح أمام الجمهور الصيني من هم أعداء الصين وتصنيفهم، ويعرض كيف ستحاربهم الصين ومن أجل ماذا ستحاربهم، أي عرض المفاهيم الصينية لكيف يجب أن يكون العالم، كما شرحه ماوتسي تونغ وكما جدّده الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ في كل خطاباته التي يلقيها، ويستعرض فيها نظرة الصين إلى العالم الجديد الذي سيأتي بعد العالم الأميركي.
بالعودة إلى العالم العربي، يقول المخرج اللبناني أحمد غصين إن عدم وجود أبطال خارقين في السينما العربية يعود لأسباب عدة أوّلها تقنية، فخلق بطل خارق يحتاج إلى تمويل كبير سينمائياً ودعائياً، وهو يحتاج في الوقت عينه إلى قضية يدافع عنها أو إلى أعداء يواجههم. وهذا ما لم يكن موجوداً منذ ظهور السينما العربية حتى اليوم. على الرغم من محاولات تظهير أبطال سينمائيين في حرب السويس 1973، ولكنهم كانوا أبطالاً جماعيين وليسوا أفراداً، لأن الموقف السياسي اقتضى تظهير بطولات الجيش المصري وليس أفراد فيه.
عالم الاجتماع العراقي الراحل فالح عبد الجبار تناول هذا الموضوع في بحثه الاجتماعي "في الأهوال والأحوال"، معتبراً أنه في زمن معيّن تكفّ الشعوب عن اختراع أبطال أسطوريين في حال كان الواقع مخالفاً تماماً لمعطيات البطولة، بل كلّه غارق في الهزائم. وبرأي عبد الجبار فإن كل محاولة لصناعة بطل تصبح وكأنها فعل كوميدي مثار سخرية، ما يدفع بعض الجماعات والمِلل إلى استعادة أبطال أسطوريين قدماء من التاريخ القديم، ويصبح لكل جماعة بطلها الذي نافح عنها غيابياً.