قد ترتدي أبهى حلة، وتقف خطوتين وراء زوجها جنباً إلى جنب مع زوجة ضيف الزوج. وقد تتدرب على رسم تلك الابتسامة المستمرة التي هي خليط من الرضا المستمر والقناعة المستدامة والترفع الكامل عن كل ما لا يندرج تحت بند دور الزوجة. وقد تخضع لدورات إلقاء خطبة منمقة منسقة مكتوبة مسبقاً تلقيها أمام جمع من الأطفال الأيتام أو مجموعة من النساء الفقيرات، أو كوكبة من سيدات المجتمع العاملات في مجال الخير، لكنها أيضاً قد تتحول إلى مقاتلة شرسة في أوقات الكروب والحروب فتخاطب الشعب، طالبة منه الجلد والمقاومة، أو تلتزم الابتسامة ذاتها لكن مع ملمح قوة ومعلم يقين في النصر، أو تحزم حقائبها وترحل إلى أقرب دولة آمنة.
دور السيدات الأول يختلف على ظهر الكوكب من دولة إلى أخرى، حسب السياق والثقافة والدور المرسوم لهن أو الذي يرسمنه لأنفسهن، بحسب عوامل عدة تتراوح بين شخصية السيدة الأولى وشخصية السيد الأول وشخصية الشعب ونظام الحكم والسياق من ألفه إلى يائه.
سياقات صعبة
الحروب والكروب من ألفها إلى يائها تدفع بالدول المتحاربة إلى سياقات اجتماعية ونفسية يصعب التكهن بها في ضوء الأنثروبولوجيا، أو استشرافها بحسب قواعد السيكولوجي، أو توقعها بناء على نظريات البولمولوجيا (علم الحرب). كذلك الحال بالنسبة إلى السيدات الأول (وكذلك الرجال الأوائل في حال كان ذلك سارياً) في أوقات الأزمات والشدائد التي تتعرض لها بلدانهن.
زوجة الرئيس الأوكراني، أولينا زيلينسكي، تجد نفسها أو وضعت نفسها في صدارة مشهد الحرب. من قبو ما في مكان ما في أوكرانيا، وعبر "إنستغرام" كغيرها من ملايين الأوكرانيين الذين ينقلون ساحة القتال إلى الساحات العنكبوتية دعماً لبلادهم، أشارت السيدة الأولى إلى أنها لن تصاب بالذعر، ولن تذرف الدموع، بل ستبقى هادئة وواثقة، فأطفالها ينظرون إليها، وستبقى إلى جانبهم وجانب زوجها.
أولينا زيلينسكي، التي كانت حتى الأمس القريب اسماً لا يعرفه سوى الأوكرانيين والروس بحكم القرب الجغرافي والتاريخي، وكذلك علاقات الرحم والنسب أصبحت في بؤرة أضواء الكوكب. حتى قبل أن يعلن زوجها الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن عائلته المكونة من زوجته وابنته (17 سنة) وابنه (تسع سنوات) هي الهدف الثاني لروسيا بعد احتلال بلاده، اختارت أن تكون في صفوف القتال.
صحيح، أن الصورة التي تناقلتها وسائل إعلام ومنصات تواصل اجتماعي لها وهي ترتدي زي القتال المموه لاقت ملايين الـ"لايك" والـ"شير" من داعمي أوكرانيا فيما تتعرض له اتضح أنها لم تكن صورة زوجة الرئيس، بل مقاتلة أوكرانية في احتفال في كييف في أغسطس (آب) الماضي، إلا أن أولينا زيلينسكي اختارت القتال افتراضياً.
كانت البداية بكلمات هزت المتابعين للحرب في العالم. "مات ما لا يقل عن 38 طفلاً أوكرانياً بسبب قصف مدننا المسالمة". دوت كلماتها في أرجاء المعمورة، حيث الحرب تدغدغ المشاعر وقوائم القتلى من الأطفال تؤجج العواطف وتشعل التعاطف.
وكما فعلت قبل 12 عاماً بالتمام والكمال حين كانت سبباً رئيساً في صعود نجم زوجها الممثل الكوميدي فولوديمير زيلينسكي بتأليفها قصة مسلسل "خادم الشعب"، الذي لعب فيه دور البطولة محققاً نجاحاً كبيراً، تفعل السيدة زيلينسكي الشيء نفسه حالياً. تكتب وتغرد وتدون وتنشر والعالم يتلقف كل كلمة وحرف وإطلالة منها.
خادم الشعب
السيد زيلينسكي، الذي لعب في مسلسل "خادم الشعب" دور معلم المرحلة الثانوية المحبوب الذي أصبح رئيساً للجمهورية على الرغم من أنف الساسة وفسادهم يقوم في الواقع بدور نجم أوكرانيا البازغ المدعوم رقمياً وتسويقياً لا من الغرب أو حلف الـ"ناتو" أو حتى المتطوعين الأجانب أو شعبه وجيشه، بل بالسيدة زيلنسكي من قبوها أو مخبئها.
القبو والمخبأ والمهرب تليق بـ"الشخصيات غير العامة" التي لا تبحث إلا عن مكان آمن تستند إليه لحين انتهاء الكرب وزوال الحرب. لكن السيدة زيلينسكي التي طالما وصفت نفسها بأنها "شخصية غير عامة" حولت قبوها وقتالها العنكبوتي إلى صرعة ستصبح حتماً محفورة في فصل "الحروب والكروب" في التاريخ الحديث.
"بس" وهيروشيما
الرئيس الأميركي الـ33 هاري ترومان حين قال قبل سنوات كثيرة "إنه يأمل في يوم من الأيام أن يجد أحدهم الوقت الكافي ليقيم الدور الحقيقي الذي تلعبه زوجة الرئيس، ويعي كم الأعباء الكثيرة التي تحملها وتتحملها والمساهمات التي تقدمها لبلدها"، لم يكن على الأرجح يتخيل ما يجري حالياً على صعيد السيدات الأول.
ترومان، الذي أمر وابتهج بإسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما في أغسطس (آب) عام 1945، لم يكن على الأرجح يقصد دور إليزابيث فيرجينيا ترومان أو "بس" زوجته في دعم زوجها في قرار قصف هيروشيما الذي كان أحد أفدح مآسي التاريخ الحديث تحديداً، بل كان يقصد دور زوجة الرئيس بشكل عام.
"بس" زوجة ترومان كانت دائماً "خير ختام" يختم به الرئيس خطبه وكلماته. كان ترومان دائماً يقدمها للحضور في نهاية الخطبة باعتبارها "القائد" أو "الزعيم". لم يعرف الكثير عن دور "بس" الزعيمة في حياة زوجها "زعيم الزعيمة"، لكن الأمنية التي عبر عنها ترومان قبل عقود تتبلور حالياً، تحديداً في حروب وكروب القرن الـ21.
القرن الـ21 وقبله الـ20 الحافلان بقدر غير مسبوق من الصراعات المسلحة والاقتتالات العسكرية والحروب المدمرة يسلطان أضواءً لم تكن في الحسبان على هؤلاء النساء اللاتي اعتقدن أو اعتقد العالم أنهن في الظل.
ظلال الكلمات الوخيمة
الظلال الوخيمة الكثيرة التي ألقتها كلمتان أرسلتهما السيدة زيلينسكي من مخبئها السري في أوكرانيا قبل أيام قليلة للعالم عبر شبكة "أي بي سي" نيوز الإخبارية الأميركية "أوقفوا الحرب"، سيستظل بها العالم طويلاً. وهي ظلال ما زالت تصنعها بشكل منظم ومستقر، وكأنها قررت وزوجها أن يكتب اسمها في هذه الحرب، باعتبارها زوجة رئيس مقاتلة.
أولينا زيلينسكي لم تتوقف كثيراً عند شعورها بعدم السعادة لدى معرفتها أن زوجها ترشح للرئاسة ثم فاز، وذلك لإدراكها أن حياتهما قبل الرئاسة كانت فصلاً، وانتهى إلى غير رجعة. إدراكها بأن صعوبات عديدة وعقبات لا حصر لها ستكون عليها مواجهتها، والتغلب عليها لم يشمل مصاعب حرب وعقبات تدمير. لكنها تنفذ حالياً ما أبدته في يناير (كانون الثاني) عام 2019، وقت ترشح زيلينسكي من قرار بتقديم دعم غير مشروط له مهما كانت التكلفة.
تكلفة أن تكون سيدة أولى
تكلفة أن تكون امرأة ما سيدة أولى باهظة. وبحسب دراسة أميركية عنوانها "دور بلا كتاب قواعد" عن الأثر والدور القيادي للسيدات الأول في العالم، فإن الدور يختلف من دولة إلى أخرى ومن سياق إلى آخر، فدولة تقبل بمشاركة النساء تختلف عن أخرى رافضة، وسياق السلام مغاير تماماً لنظيره الحربي. كما أن التركيبة الشخصية والأولويات تضع كل سيدة أولى في مكانة تختلف عن قريناتها، لا سيما في أوقات الكروب والحروب.
لورا بوش، زوجة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، قالت في مقابلة صحافية إن "دور السيدة الأولى هو ما تريده السيدة الأولى"، في إشارة إلى الاختلافات في الاختيارات والشخصيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسماء الأسد
شخصيات عديدة مر عليها العالم، ومرت به في السنوات القليلة الماضية لسيدات أول عاشت بلادهن، أو ما زالت فترات حروب وكروب. أسماء الأسد زوجة رئيس النظام السوري بشار الأسد سيدة أولى اختارت أو اختير لها أن تكون في فوهة الصراع. أعوام كثيرة مضت منذ اندلاع الصراع في سوريا.
في البداية، قيل إن أسماء الأسد هربت من سوريا، لكن مجريات الصراع أشارت إلى أنها لم تفعل. صراع من نوع آخر خاضته ألا وهو صراعها مع سرطان الثدي، الذي وظفته لـ"خدمة القضية" و"دعم الوطن". فعقب الإعلان عن إصابتها، أعلنت عبر صفحة الرئاسة السورية على "فيسبوك"، "أنا من الشعب الذي علم العالم الصمود والقوة ومجابهة الصعاب. وعزيمتي نابعة من عزيمتكم وثباتكم كل السنوات الماضية"، وذلك تعليقاً على خبر اكتشاف ورم خبيث في الثدي.
وبحسب الرئاسة السورية حينئذ أيضاً، "فإن السيدة الأسد تلقت العلاج في مستشفى عسكري في سوريا". الرسائل واضحة بغض النظر عن التفاصيل التي ربما تكون غائبة. "أسماء" ربما تلقت عروضاً للجوء إلى دول آمنة، وربما أتيحت لها ولأبنائها فرصة السفر إلى أماكن بعيدة عن سوريا لحين هدوء الأوضاع أو تغير الأحوال، لكنها مستمرة بالمشاركة في فعاليات خاصة بالإعاقة والنساء وكذلك أبناء "الشهداء".
في الوقت نفسه، ارتبط اسم السيدة الأسد في هذا الوقت من الكروب والحروب في سوريا بما يدور في أروقة الاقتصاد، التي يسميها البعض فساداً واستحواذاً من دون وجه حق، ويعتبرها الآخر إنقاذاً للبلاد وتطهيراً لها من شرور العباد. فقبل أيام ذاع خبر مفاده "أن شركة اتصالات جديدة في سوريا ستحظى حصرياً بتقديم خدمة الـ(5 جي)"، وذلك بعد إقصاء ابن خال رئيس النظام السوري قريبه رجل الأعمال، رامي مخلوف، من ساحة المال والأعمال. وجرى تداول تقارير تحليلية ترجح وجوداً ما للسيدة السورية الأولى أو مقربين لها في هذه الساحة عبر الشركة الجديدة التي تحظى بمميزات خاصة. وزير الاتصالات السوري إياد الخطيب حين سئل عن هوية أصحاب الشركة الجديدة قال "إنها مشغل وطني سوري وشركاؤه سوريون ومقرها دمشق".
"دور بلا كتاب قواعد"
دراسة "دور بلا كتاب قواعد" الأميركية عن دور السيدات الأول تشير إلى أن دور زوجات الرؤساء يختلف أيضاً باختلاف الموارد المالية سواء بتوافرها أو بشحها. وقد يكون الدور مزوداً بطاقم كامل من الموظفين والخبراء، وربما يكون على السيدة الأولى لعب الدور وحدها، وبحسب ما تملكه من ذكاء وتعليم ولياقة، وكذلك قدر لا يستهان به من الحظ.
حظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو ربما حظ العالم المتابع، أنه بلا زوجة. لودوميلا بوتينا، "نفذت بجلدها"، وفي أقوال أخرى "لم يكتب لها الاستمتاع بدورها كسيدة روسيا الأولى طويلاً". أعلن الزوجان نيتهما الطلاق في عام 2013 عقب خروجهما معاً من عرض باليه أقيم في الكرملين.
لودوميلا ورايسا
وبعيداً من تقارير تشير إلى زواج السيدة بوتين (سابقاً) برجل أعمال روسي يصغرها بنحو عقدين وتغيير اسمها إلى لودوميلا أوكيرتنايا بدلاً من "بوتينا"، لم يكن متوقعاً منها أو لها أو بالأحرى ربما لم يكن ليسمح لها حال استمرت زوجة لبوتين أن تلعب دوراً ما في الحرب الدائرة حالياً، لا بتعضيد موقف زوجها وبلادها أو بانتقاده بالطبع.
العام الذي أمضته السيدة بوتين (سابقاً) كسيدة أولى لروسيا قبل وقوع الطلاق دفع الروس لتذكر القاعدة السوفياتية القديمة بالإبقاء على زوجات الرؤساء في الظل. بزوغ نجم الزوجة الأولى والسماح لها بجذب الأضواء واتخاذ المواقف وحمل السلاح (فعلياً أو معنوياً) لدعم الرئيس ليس سمة هناك. والإرث السوفياتي ما زال متمكناً على الرغم من أن سيدة الاتحاد السوفياتي سابقاً وسيدة روسيا الأولى السابقة رايسا غورباتشوف كسرت القاعدة بأناقتها ولباقتها وظهورها المحبب والكاريزمي في الفضاء العام.
حسب السياق
الفضاء العام يظل يتسع ويضيق بحسب السياق. وفي الحروب والكروب يتغير هامش القبول لدور السيدة الأولى. فمثلاً، وعلى الرغم من حرب يونيو (حزيران) 1967 وكربها الشديد، لم يكن للسيدة المصرية الأولى حينئذ تحية كاظم أو تحية جمال عبد الناصر سوى حضور خافت.
ولم يكن "الزعيم" بالنسبة إليها إلا "زوجي الحبيب"، كما أشارت في مقدمة كتاب "ذكريات معه" الصادر عن دار الشروق المصرية عن حياة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. وفي الكتاب البالغ عدد صفحاته 136 صفحة و110 صفحات عبارة عن صور تمثل حياة عبد الناصر، لا توجد سوى صورة يتيمة رسمية للسيدة الأولى في صحبة زوجها أثناء استقبال رسمي في المطار.
نماذج من مصر
في المقابل، فإن سيدة مصر الأولى سابقاً جيهان السادات زوجة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ظلت طيلة رئاسته لمصر وبعد اغتياله وحتى وفاتها العام الماضي ملء السمع والأبصار وأدوارها العلنية وخلف باب بيت الزوجية ملء الأثر والأفكار، من تنظير سياسي لدور فعال في إصدار قوانين وإبرام معاهدات وسرد ذكريات.
وكذلك الحال لسيدة مصر الأولى سابقاً سوزان مبارك، التي ما زال كثيرون يحاولون تقييم حجم الدور الضخم الذي لعبته في مصر منذ تولي الرئيس الأسبق الراحل محمد حسني مبارك مقاليد رئاسة مصر حتى اندلاع أحداث يناير عام 2011، بل والتنظير حول دورها في اندلاع موجة الغضب.
وعلى الرغم من أن الكلمات التالية وردت في دراسة "دور بلا كتاب قواعد" كتبت في سياق أجوائه مفعمة بتقدير دور السيدة الأولى الأقرب إلى الكمال والمرسوم مسبقاً بأدق التفاصيل، فإنها سارية المفعول، لكن في أجواء ملبدة بالحروب ومكفهرة بالكروب. تقول الدراسة إنه "يجري تحديد دور السيدة الأولى من خلال مقدار المرونة وحجم الفرص والقيود في دولة ما. وهو دور يجري تعريفه وإعادة تعريفه بشكل مستمر، وبحسب الشخصيات الفريدة والقدرات المتميزة للنساء اللاتي يحملن هذا اللقب. وعلى الرغم من التحديات والمشكلات، تستمر نساء أول في فرض ظهورهن، وترك آثارهن الكبيرة على الساحة. وهي آثار بمثابة خبرات ودروس ملهمة من شأنها أن تعلم، وتلهم السيدات الأول الحاليات والمستقبليات في كل مكان".
الرجال الأوائل
من جهة أخرى، ما زالت علوم التاريخ والاجتماع والنفس مقصرة في حق "الرجال الأوائل"، وهم أولئك الرجال الذين تشاء الأقدار أن يكونوا "الرجل الأول" للرئيسة ورئيسة الوزراء. فمن الرجل الأول السابق يواكيم سوير، زوج المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل إلى دنيس تاتشر زوج رئيسة وزراء بريطانيا السابقة الراحلة مارغريت تاتشر إلى فيليب ماي زوج رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي والقائمة طويلة لكن أقصر كثيراً من أقرانهم من النساء.