منذ 1000 عام، عندما كان المال يعني العملات المعدنية، اخترعت الصين العملة الورقية، واليوم تعمل الحكومة الصينية جاهدة على سك النقود رقمياً، في إعادة تخيل الأموال التي يمكن أن تهز أحد أعمدة القوة الأميركية. لطالما طالبت الولايات المتحدة، بصفتها مصدرة الدولارات التي يحتاجها أكثر من 21 ألف بنك في العالم للقيام بأعمال تجارية، بإلقاء نظرة ثاقبة على تحركات العملات الرئيسة عبر الحدود، ما يمنح واشنطن القدرة على تجميد الأفراد والمؤسسات من النظام المالي العالمي عن طريق منع البنوك من إجراء معاملات معهم، وهي ممارسة انتُقدت على أنها "تسليح بالدولار"، في حين تعتبر فرصة إضعاف قوة العقوبات الأميركية على شخصيات وشركات صينية عملاقة أمراً محورياً لتسويق بكين لـ"اليوان" الرقمي ولجهودها لتدويله بشكل عام.
في حديثه بمنتدى في مارس (آذار) الماضي، قال مو تشانغتشون المدير العام لمعهد العملة الرقمية، بنك الشعب الصيني (المركزي الصيني)، مراراً وتكراراً، إن "اليوان" الرقمي يهدف إلى حماية "السيادة النقدية" للصين، بما في ذلك عن طريق تعويض الاستخدام العالمي للدولار.
قد يبدو أن الأموال افتراضية بالفعل، لأن بطاقات الائتمان وتطبيقات الدفع مثل "أبل باي" في الولايات المتحدة و"وي تشات" في الصين تلغي الحاجة إلى الفواتير أو العملات المعدنية، لكنها مجرد طرق لنقل الأموال إلكترونياً.
وكانت العملات المشفرة مثل "بيتكوين" قد تنبأت بمستقبل رقمي محتمل للمال، على الرغم من وجودها خارج النظام المالي العالمي التقليدي فهي ليست نقداً تصدره الحكومات.
نسخة الصين من العملة الرقمية يتم التحكم فيها من قبل البنك المركزي، الذي يصدر النقود الإلكترونية الجديدة، ومن المتوقع أن يمنح الحكومة الصينية أدوات جديدة واسعة النطاق لمراقبة اقتصادها وشعبها، كما سيلغي "اليوان" الرقمي أحد المكونات الرئيسة لعملة "بيتكوين" التي تتمثل في عدم الكشف عن هويته للمستخدم.
"اليوان" والنظام المالي العالمي
وتعمل بكين على وضع "اليوان" الرقمي للاستخدام الدولي وتصميمه ليكون غير مرتبط بالنظام المالي العالمي، وكان الدولار الأميركي ولا يزال، ملكاً منذ الحرب العالمية الثانية، كما تتبنى الصين الرقمنة في العديد من الأشكال، بما في ذلك المال، في محاولة لاكتساب سيطرة أكثر مركزية مع الحصول على السبق في تقنيات المستقبل التي تعتبرها في متناول اليد، ويمكن للأموال الرقمية أن تعيد ترتيب أساسيات التمويل بالطريقة التي عطلت بها "أمازون دوت كوم" تجارة التجزئة وأحدثت فيها شركة "أوبر تيكنولوجيز إنك".
في أبريل (نيسان) الماضي، سئلت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، عن مدى تأثير العملات الوطنية الرقمية مثل العملات الصينية على الدولار، وأجاب كلاهما بحسب "وول ستريت جورنال"، بأن المسألة قيد الدراسة بجدية، بما في ذلك ما إذا كان الدولار الرقمي منطقياً في يوم من الأيام.
لقد واجه الدولار تحديات من قبل، اليورو على سبيل المثال لا الحصر، فقط لتزداد أهمية عندما اتضحت أوجه القصور لدى المنافسين، في حين يتفوق الدولار بكثير على كل العملات الأخرى لاستخدامها في تداولات العملات الأجنبية الدولية، بنسبة 88 في المئة في أحدث التصنيفات الصادرة عن بنك التسويات الدولية، في حين تم استخدام "اليوان" في أربعة في المئة فقط، ويقول المحللون والاقتصاديون، إن الرقمنة في حد ذاتها لن تجعل "اليوان" منافساً للدولار في التحويلات البرقية من بنك إلى بنك، ولكن في شكله الجديد، يمكن لـ"اليوان"، المعروف أيضاً باسم "الرنمينبي"، أن يكتسب زخماً على هوامش النظام المالي الدولي.
وقد يوفر "اليوان" الرقمي خيارات للناس في البلدان الفقيرة لتحويل الأموال دولياً، حتى الاستخدام الدولي المحدود يمكن أن يخفف من لدغة العقوبات الأميركية، والتي تستخدم بشكل متزايد ضد الشركات أو الأفراد الصينيين ودول مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، والسؤال هو هل ستسمح الولايات المتحدة بسقوط الدولار عن عرش السيادة المالية، يقول جوش ليبسكي، وهو موظف سابق في صندوق النقد الدولي يعمل الآن في مركز أبحاث المجلس الأطلسي، "أي شيء يهدد الدولار هو قضية تتعلق بالأمن القومي، وهذا يهدد الدولار على المدى الطويل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، يقول وضاح الطه، عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، لـ"اندبندنت عربية"، إن فرض سياسة الأمر الواقع من قبل الولايات المتحدة الأميركية على العديد من دول العالم من دون الرجوع للمنظمات الأُممية سواء مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأسلوب بث الكراهية تحفز على إيجاد نظام مالي عالمي جديد من ضمنه البحث في العملات الوطنية الرقمية وليس العملات المشفرة، فالعملات الوطنية الرقمية تصدرها البنوك المركزية في بلدان العالم، ويضيف أن الصين بادرت في إصدار "اليوان" الرقمي، وكانت استخداماته محدودة بشكل عام مقارنة بحجم التجارة الصينية، ولكن ولادة "اليوان" الرقمي هي البداية، وهي بذرة سوف تقود إلى تحفيز بنوك مركزية أخرى على أن تحذو حذو بنك الشعب الصيني (البنك المركزي للصين) في إصدار عملات رقمية.
تراجع العملات الرئيسة في حقوق السحب الخاصة
ويقول الطه، إن الظرف الحالي المتمثل في الاجتياح الروسي لأوكرانيا سوف يحتم على روسيا التعامل بشكل أوسع مع الصين في كثير من المجالات الاقتصادية، وبالتالي سيكون هناك تبادل مباشر بالروبل الروسي وبـ"اليوان" الصيني، وسيكون هناك تعاون أوسع في العديد من القطاعات الاقتصادية حتى على مستوى رجال الأعمال، ويعتقد الطه أن دائرة التعاون هذه ستتسع لتشمل دولاً أخرى من بينها إيران وفنزويلا لتفادي العقوبات المفروضة على البلدين، وبالتالي، هناك احتمال تدريجي على حد قوله، (ليس على المدى القصير) أن يتراجع دور الدولار في لعب دور محوري في العالم، على الرغم من سيطرته اليوم على نحو 80 في المئة من التجارة العالمية و60 في المئة من الاحتياطات العالمية، وقال الطه، إنه مقارنة مع الفترة السابقة، سنجد أن هناك انخفاضاً في ما تشكله العملات الرئيسة كنسبة مئوية من حقوق السحب الخاصة، وهي وحدات نقدية من قبل صندوق النقد الدولي.
وتابع الطه قائلاً، "أنا أعتقد أن كل ما سيحصل من اليوم وعلى امتداد السنوات الطويلة المقبلة هو بداية تشكيل نظام عالمي جديد نتيجة عدم التزام الولايات المتحدة بالموضوعية، وكما ذكرت مسبقاً، فرض سياسة الأمر الواقع حتى على دول نامية عديدة وعدم حسم الأمور ذات الحقائق الواضحة إلى جانب إشاعة الفوضى في دول عديدة بشكل واضح ومتعمد في العراق ولبنان وسوريا واليمن ودول أخرى من العالم، وكل هذا يخلق تعاطفاً عالمياً تدريجياً لدى الدول النامية مع أي نظام عالمي بديل مقبل. وبالتالي، أتوقع أن ترتفع قيمة اليوان الصيني من حيث التداولات، وبخاصة في حال بدأت روسيا كأحد أكبر مصدري النفط والغاز في العالم بقبول التبادلات باليوان الصيني سواء من خلال أنابيب الغاز أو أنابيب النفط التي تمتد من سيبيريا إلى شمال الصين".
"اليوان" الرقمي والفضاء الإلكتروني
واليوم يوجد "اليوان" الرقمي في الفضاء الإلكتروني، وهو متاح على الهاتف المحمول، أو على بطاقة من هم أقل ذكاء من الناحية التقنية، ولا يتطلب إنفاقه اتصالاً عبر الإنترنت، ويظهر على الشاشة مع صورة ظلية لماو تسي تونغ (مؤسس الصين)، ويبدو مثل النقود الورقية تماماً.
وفي الاختبارات التي أجريت في الأشهر الأخيرة من عام 2021، قام أكثر من 100 ألف شخص في الصين بتنزيل تطبيق الهاتف المحمول من البنك المركزي لتمكينهم من إنفاق منح حكومية صغيرة من النقد الرقمي مع التجار، بما في ذلك المنافذ الصينية لـ"ستاربكس" و"ماكدونالدز".
"اليوان" الرقمي لا قيمة له خارج الصين
يقول محلل الأسواق العالمية أحمد حسن كرم، إن إطلاق "اليوان" الرقمي في الصين بشكل رسمي واستخدامه فعلياً في الصين من خلال تنزيل بعض التطبيقات بالهواتف النقالة الذكية قد سهل عمليات البيع والشراء وأتاح إمكانية تتبع هذه العمليات بشكل سريع كون هذه العملة معتمدة من قبل بنك الشعب الصيني ما يقلل من عمليات غسيل الأموال، ولما لهذه العملة الرقمية من مميزات أخرى، إلا أن هذه العملة الرقمية ما زالت محتكرة فقط في الصين، ولا يمكن اعتمادها خارج البلاد كون الدول العالمية ما زالت تعتمد "اليوان" الورقي، وهو العملة الرسمية للصين، ويرى كرم أنه حتى مع تطور هذه العملة ربما مستقبلاً، فما زال المراقبون يرون أنها لن تكون قادرة على منافسة العملة الورقية الصينية كونها عديمة القيمة خارج الصين، ويقول كرم، إن تسعير النفط وتداوله لا يزالان بالدولار الأميركي وهو أكبر السلع المتداولة عالمياً، وهو ما تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، كما أن معظم الدول المصدرة للنفط لا تزال تعتمد على الدولار أو قد تكون عملاتها مرتبطة بالدولار، وعليه، فإن تغيير عملة بيع النفط بعيداً عن الدولار ستكون شبه مستحيلة في الوقت الراهن، وهو ما ستحاربه أميركا وتتصدى له وتوقفه إن وجد.