يشهد مستوى التضخم منحى تصاعدياً في تونس منذ عدة شهور عاكساً الصعوبات المالية التي تشهدها البلاد، وأعلن المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) تسجيل نسبة تضخم في مستوى 6.7 في المئة خلال يناير (كانون الثاني)، ويتواصل نسق الارتفاع للشهر الخامس على التوالي مقابل 6.6 في المئة خلال ديسمبر (كانون الأول)، و6.4 في المئة خلال نوفمبر (تشرين الثاني)، و6.3 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول)، و6.2 في المئة خلال سبتمبر (أيلول).
وارتفعت أسعار المواد الغذائية خلال الأسابيع الأخيرة إضافة إلى نقص مسجل في بعض المنتجات، ولم تشذ الخدمات وأهمها الصحة والتعليم عن هذه الزيادات، ما دفع البنك المركزي التونسي إلى التحذير من الضغوط التضخمية التي تعكس تفاقم العجز التجاري إثر اجتماع استثنائي درس فيه تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية على الاقتصاد التونسي.
وأشار البنك إلى الانعكاسات المنتظرة لارتفاع الأسعار الأولية في السوق العالمية على المؤسسات التونسية ونسق الإنتاج وأسعار المواد الأساسية بالسوق الداخلية ومخاطر هذه الضغوط الخارجية، علاوة على النسبة المرتفعة المسجلة للتضخم المحلي، منتقداً عدم اتخاذ قرارات عاجلة من قبل الحكومة التونسية لتفادي تعمق العجز التجاري وزيادة الضغوط على المالية العمومية. ما دفع وزير الاقتصاد إلى إحداث خلية أزمة للبحث في سبل التخفيف من آثار المستجدات الدولية على السوق الداخلية والمقدرة الشرائية للتونسيين.
واعتبر محللون لـ"اندبندنت عربية"، "أن الحكومة الحالية تواجه تحديات آنية متعلقة بتوفير التموين في ظل تعطل سلاسل توريد السلع في العالم وارتفاع أسعار الشحن والتأمين والضغط على عجز الموازنة المسجل خلال الفترة السابقة للحرب والمرجح استفحاله في الفترة المقبلة".
خلية أزمة
وقال وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد منذ يومين، إن "الحكومة شكلت خلية أزمة لمتابعة تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية في المالية العمومية". وأضاف، "أن تونس تجري مباحثات مع شركائها الماليين الدوليين في هذا الشأن"، في إشارة إلى صندوق النقد الدولي الذي تستعد تونس لمواصلة النقاش معه بهدف الحصول على تمويل جديد مقابل حزمة من الإصلاحات الاقتصادية. كما وعد باتخاذ جملة من الإجراءات على خلفية الحرب الأوكرانية التي ستكون لها تداعيات على اقتصاد معظم الدول ومنها تونس. مشيراً إلى "التزام الدولة بالوقوف إلى جانب الفئات الضعيفة لتخفيف الآثار السلبية للأزمة على الوضع الاجتماعي في ظل ارتفاع أسعار المواد الأساسية وأسعار المحروقات على الصعيد العالمي والوطني".
الإبقاء على نسبة الفائدة
ووردت تصريحات سمير سعيد بعد يوم من انعقاد مجلس إدارة البنك المركزي التونسي في جلسة استثنائية لبحث التداعيات الاقتصادية والمالية الناتجة عن الأزمة الروسية- الأوكرانية، وقرر على إثره "الإبقاء على نسبة الفائدة العامة للبنك المركزي التونسي من دون تغيير"، أي في مستوى 6.25 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأعلن فيها المركزي التونسي، "أنه يتابع ببالغ الاهتمام تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على النشاط الاقتصادي الدولي، وعلى سلاسل التزويد والأسعار العالمية للمواد الأولية والمواد الغذائية الأساسية، التي من شأنها أن تؤثر بصفة ملموسة على مستويات التضخم".
ولاحظ المركزي، "أنه في غياب اتخاذ القرارات المناسبة بصفة عاجلة على المستوى الوطني، فإنه من شأن ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الأساسية والطاقة وتقلص النشاط لدى أهم الشركاء التجاريين إضافة إلى المناخ المتسم بالضبابية، أن يؤدي إلى تفاقم العجز الجاري ويزيد من الضغوط التضخمية خلال الفترة المقبلة". إضافة إلى "أن التطورات الأخيرة سيكون لها انعكاس ملحوظ على توازنات المالية العمومية، لا سيما من خلال ارتفاع نفقات الدعم، ومن شأن هذه الوضعية أن تؤدي إلى تفاقم عجز الميزانية وبروز حاجيات تمويل إضافية". ودعا إلى "تشديد اليقظة واعتماد مقاربة استباقية، للتخفيف من تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية على النشاط الاقتصادي الوطني والتوازنات الكلية".
تراخ وخسائر
وأظهرت بيانات المعهد الوطني للإحصاء استقرار أسعار مجموعة المواد الغذائية في 7.6 في المئة خلال يناير، بينما ارتفعت أسعار الملابس والأحذية 8.8 في المئة مقابل 8.7 في المئة قبل شهر واحد. كما بلغت نسبة ارتفاع خدمات النقل 5.6 مقابل 5.3 في المئة خلال ديسمبر، وكذلك الاتصالات بـ2.1 مقابل 1.9 في المئة. والتعليم بـ9.2 مقابل 9.1 في المئة .
"ورغم أثر عامل التضخم المستورد في المؤشرات الحالية بفعل ارتفاع أسعار المواد الأولية بالسوق العالمية في الفترة التالية لأزمة جائحة كورونا، فإن ذلك لا يخول تحميل مسؤولية استفحال التضخم للعوامل الخارجية؛ حيث تتحمل السياسات والاختيارات الاقتصادية للحكومات مسؤولية التضخم المحلي". وفق المتخصص الاقتصادي أنيس بن عبد الله، الذي اعتبره جزءاً من الأزمة المالية التي تمر بها الدولة. "فلم تقم الحكومات السابقة بالإصلاحات الضرورية لتحفيز الإنتاج والرفع من مستوى التصدير وبالتالي النمو".
وأضاف، "تواجه تونس حالياً أزمة خانقة تحتم اتخاذ إجراءات عاجلة تشجع الصناعة والزراعة المحلية وتزيل كل العوائق التي تحول دون بعث مشاريع الاستثمار أو توسيع استثمارات سابقة. وقد وعدت حكومات سابقة بجملة من الترتيبات لإطلاق المبادرات الخاصة والتأسيس للإنتاج الوطني لضمان السيادة الوطنية لكنها لم تنفذها. ومن أهمها إزالة جملة من التراخيص المعطلة للاستثمار وتأسيس الشركات الخاصة. وقد تحصل المستثمرون على وعود بالاستغناء على هذه التراخيص التي تتسبب في تبديد الوقت والبيروقراطية دون تنفيذها. وهم مستثمرون في مجالات حيوية مثل الصناعات الغذائية والزراعة وصناعة الأدوية وهي مجالات كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي والسيادة الوطنية. كما تمادت الدولة في عدم تشجيع المؤسسات الوطنية باعتمادها على إطلاق صفقات عمومية دولية بهدف تكريس التنافسية وأسهمت في رسو عدد كبير من المشاريع والصفقات على مؤسسات أجنبية على حساب التونسيين الذين أثبتوا أهليتهم وكفاءتهم في أكثر من مناسبة. علاوة على هرم جملة من القوانين التي تحتاج إلى مراجعة وعلى رأسها قانون الصرف الذي يعرقل تصدير الخدمات لدى شركات تونسية تشارك في صفقات استشارة في الخارج، إضافة إلى العجز الذي أبدته الدولة على امتداد الاثنتي عشرة سنة السابقة في التعامل مع الحركات الاحتجاجية والأزمات الاجتماعية. وقد تسببت إضرابات بمواقع حيوية مثل آبار النفط ومناجم الفوسفات في توقف الإنتاج لسنوات طويلة كبدت الميزان التجاري خسائر تقدر بمليارات الدولارات".
وأوضح، "والحال أن حالة الطوارئ المطبقة تخول للدولة التونسية التدخل بسلاسة لإيقاف هذه التجاوزات في حق مقدرات الشعب التونسي. وأسهم التأخير في وضع آليات الإنقاذ والتراخي في الإصلاح في عدم التوازن المسجل اليوم المفضي إلى التضخم بسبب تراجع الإنتاج والاستثمار وعدم السيطرة على مسالك توزيع السلع والمرجح إلى الاستفحال بحكم الحرب الدائرة والاضطراب المنتظر في توريد المواد الأولية وارتفاع أسعارها".
السياسة المالية
وحمل منير حسين عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، "البنك المركزي التونسي جزءاً من مسؤولية العجز بالمالية العمومية الذي أدى إلى عدم التوازن وتفاقم التضخم". واعتبر "أن الظرف الاستثنائي الذي تمر به تونس يدفع إلى إجبارية اتخاذ تراتيب استثنائية عاجلة تمكنه من إقراض الدولة، حتى يقع الحفاظ على التوازنات المالية والاستغناء عن الاقتراض من البنوك الذي يكبد الخزينة العامة مصاريف إضافية متمثلة في الفوائد. والحال أن البنوك التي تقرض الدولة التونسية تتزود بالسيولة من البنك المركزي الذي يمنعه القانون من الإقراض".
ويشار إلى أن القانون الأساس للبنك المركزي التونسي يمنعه من إقراض الدولة بمقتضى الفصل 35 لسنة 2016، ويتحول الاقتراض من البنوك بعد حصولها على السيولة من المركزي إلى اقتراض غير مباشر منه، الذي تفصله عن الخزينة العامة وساطة البنوك المستفيدة بالتمتع بنسبة الفائدة، التي تجني بفضلها أرباحاً بلغت 2.5 مليار دينار (860 مليون دولار) في 2019. ما يثقل كاهل الميزانية العامة بالديون والقروض غير المنتجة بحكم أنها موجهة إلى المصاريف الجارية. كما ابتعدت البنوك عن دورها المحوري وهو تمويل الاقتصاد بتوفير القروض للمؤسسات لتحفيز الإنتاج والرفع من مستوى التصدير وخلق الثروة وجلب العملات. واكتفت بالإقبال على السندات لاقتنائها وإقراض الدولة لجني الأرباح. وهي عوامل متنوعة عمقت التضخم المرتبط بتراجع الإنتاج والاستثمار والمؤدي إلى نقص في الاستهلاك. وهي المحركات الثلاثة للاقتصاد التي تبدو معطلة في تونس اليوم. ولم تواجهها الحكومات المتعاقبة بتنفيذ إصلاحات عميقة تؤسس لاقتصاد وطني يتجه نحو الاكتفاء الذاتي والسيادة الوطنية، بل اتجهت إلى الحلول الظرفية وهي الاقتراض الموجه إلى المصاريف الجارية والتوريد المنهك للميزان التجاري.