ثلاثة أسابيع مرت على بدء الحرب التي كان من المفترض أن تدوم ثلاثة أيام فقط، وإذا استعرنا هنا من العبارات الملطفة للواقع الحقيقي، والتي كان قد استخدمها إمبراطور اليابان هيروهيتو Emperor Hirohito في عام 1945 بعد إلقاء القنبلة النووية على كل من هيروشيما ونغازاكي، "يبدو أن مسألة هذه الحرب قد تطورت بشكل لا يصب بالضرورة في صالح روسيا". على الأقل يبدو ذلك صحيحاً على جبهة الحملات الإعلامية.
فآخر المنشقين الذين سرقوا [تصدروا] عناوين الأخبار هم في الواقع من الطاقم المهني في هذا المجال الإعلامي. مارينا أوفسيانيكوفا Marina Ovsyannikova، هي منتجة برامج تعمل في مجال الإعداد للبرامج الإخبارية الخاصة في ساعة الذروة في التلفزيون الحكومي [الروسي]، قامت باقتحام أستوديو البث على الهواء مباشرة وهي ترفع لافتة كتب عليها عبارات تدعو المشاهدين إلى عدم تصديق البروباغندا الحكومية (التي يبثها التلفزيون). وتقول اللافتة التي رفعتها "لا للحرب، أوقفوا الحرب، لا تصدقوا الحملات الإعلامية [البروباغندا]، إنهم يكذبون عليكم هنا"، وكانت مارينا قد أرفقت حركتها هذه بتسجيل شريط فيديو مؤلم رفعته على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تُرَ مارينا بعد ذلك بالطبع.
وذكرني عملها قليلاً من منطلق "تراجيدي– كوميدي"، بأعوام الثمانينيات التي لم تكن مضيئة إلى حد كبير عندما اضطر الإعلامي في شبكة "بي بي سي" (هيئة الإذاعة البريطانية) نيكولاس ويتشيل إلى الجلوس فعلياً على إحدى الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المثليين LGBT، كانت قد نجحت في التسلل إلى مقر أستوديوهات "بي بي سي" التلفزيونية. والعنوان القاتل الذي لخصت من خلاله الحادثة نشرته صحيفة "ديلي ميرور" الشعبية قائلة "رجل البيب (الـ بي بي سي) يجلس على مثلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في روسيا، تتعامل الشرطة عادة بقسوة مفرطة مع أي حركات احتجاجية. حتى إن مجرد رفع لافتة بيضاء خالية من أي عبارات (في الشارع الروسي) يعرض حاملها للتوقيف والمساءلة. لقد رأيت كيف اقتادت الشرطة سيدة من أنصار بوتين للتحقيق معها لمجرد أنهم لاحظوا أنها كانت تتحدث مع وسائل الإعلام الغربية. لقد تعاطفت كثيراً أيضاً مع سيدة كانت قد عاصرت الحصار الذي ضربه الجيش الألماني على لينينغراد، (وهو التكتيك الذي تسعى روسيا لتطبيقه في أوكرانيا اليوم)، هي ييلينا أوسيبوفا Yelena Osipova، حين اقتادتها الشرطة المؤيدة للرئيس بوتين، على الرغم من أنها شخصية تتمتع بالشهرة في بلادها. وربما فعلت الشرطة ذلك لتذكير السيدة العجوز بالأسباب التي دفعت أبناء جيلها للتضحية بالغالي والنفيس إبان الحرب الوطنية العظيمة [الحرب العالمية الثانية].
لكن الاحتجاجات ما زالت تتوالى، تماماً كما كانت الحال إبان الحقبة الستالينية، إذ إنه من غير الممكن كم أصوات المواطنين أو منعهم من التفكير. وسائل التواصل الاجتماعي كانت إحدى السبل التي تمكن الروس بواسطتها من الاطلاع على معلومات عن حقيقة ما يجري، لكن الرئيس بوتين ماض في حجب أغلب المواقع، أو أن تلك المواقع قد شعرت تماماً كما شعر موقع "فيسبوك"، أنه من الأفضل بالنسبة لهم الانسحاب من الساحة الإعلامية الروسية. لكن روسيا لم تعد دولة تعيش في عزلة، وبعض الاتصالات مع العالم الخارجي تتواصل [رغم كل ما يجري]. فالمجندون الذين يتجمدون برداً في دباباتهم على الطريق إلى كييف يخبرون عائلاتهم في روسيا حقيقة ما يجري في هذه الحرب.
جماعة "أنونيموس" Anonymous، تلك العصابة التي تتخصص في مجال "التهكير" الإلكتروني cyber hackers، تعمل أحياناً على قرصنة المواقع الإخبارية الروسية وقنوات التلفزيون، تماماً مثلاً كما تشن الجماعات الروسية هجمات على مواقع دول البلطيق الرسمية. لقد قامت الدول الغربية أيضاً بإغلاق قنوات "روسيا اليوم" (RT) و"سبوتنيك" Sputnik، مما حجب إلى حد ما القدرات الروسية المعتادة في بث التضليل الإعلامي والتلاعب في مواقع التواصل بشكل أكبر مما اعتدنا عليه في السنوات القليلة الماضية.
للأسف، لا يزال هناك كثير من المدافعين عن الرئيس الروسي ومن يبث نظريات المؤامرة على تطبيقات "تويتر" و"تيك توك"ــ من بين من يشار إليهم بـ"الأغبياء المفيدين" useful idiots من الجماعات اليسارية التي تعتقد أن روسيا لا تزال تلك الدولة الاشتراكية [المثالية]، إضافة إلى مؤيدي التيار الشعبوي اليميني الغاضبين ممن يدعمون الرئيس بوتين لما يمثله [في اعتقادهم] من معارضة "الرجل القوي" [أي بوتين] للتيارات التي تتمسك بنبذ العنصرية والسعي من أجل العدالة الاجتماعية للجميع.
وبالمناسبة، أعادت هذه الحرب التأكيد [تسليط الضوء] على النعمة التي ننعم بها هنا في المملكة المتحدة من خلال وجود قنوات الـ"بي بي سي" المحلية وخدمة أخبارها الدولية "BBC World Service"، وأظهرت كم نحن غير محظوظين هنا بوجود قناة "جي بي الإخبارية" (GB News) والوزيرة نادين دوريس Nadine Dorries.
من دون شك، سيواصل كثير من المواطنين الروس في تصديق كل ما يقوله الرئيس بوتين، لكن روسيا ليست محصنة ضد وقوع تغييرات سياسية فيها عندما تفشل حروبها في تحقيق أهدافها. فالثورات التي ضربت روسيا في 1905، و1917، و1991، سبقتها كلها فترة من المصاعب الاقتصادية وهزائم حربية مهينة- ضد اليابان في المحيط الهادي، وضد ألمانيا والنمسا خلال الحرب العالمية الأولى، وخسارة أفغانستان وخسارة الحرب الباردة في مواجهة الغرب. كل [تلك التغييرات السياسية] حدثت على الرغم من قبضة الدولة البوليسية وسيطرة الدولة [الروسية] رسمياً على ما ينشر من معلومات. وليس مستبعداً أبداً أن نتوقع انتفاضة ضد حرب الرئيس بوتين الكارثية خلال الأسابيع المقبلة يشعلها المواطنون الروس أو تنطلق الانتفاضة في أوساط قواته العسكرية، وجزء من طبقة النخبة الروسية. هل سنرى ثورة روسية في 2022؟
إن الضغوط التي تتعرض لها روسيا لم تبدأ بعد في التأثير عليها لأنها حديثة العهد. إن الحرب الاقتصاديةــ ونحن (في الغرب) ذهبنا إلى أبعد من فرض مجرد عقوبات رمزيةــ ستكون مؤذية بالنسبة للطرفين. فالغرب سيخسر نفطه وغازه، لكن روسيا ستخسر التمويل الضروري لآلتها العسكرية. إن العقوبات الفردية المفروضة على ما يعرف بالنخبة الروسية "الأوليغارشية" سيتطلب وقتاً قبل ظهور تأثيرها، وكذلك لن تنعكس آثار (هذه العقوبات) باختفاء الاستثمارات الغربية [من الأسواق الروسية] ونقص البضائع بشكل مباشر. إن انهيار الروبل الروسي مثلاً يقتضي عدة أسابيع قبل أن يبدأ في التأثير مباشرة على أداء الاقتصاد الروسي.
كل ذلك، إضافة إلى الضربات التي تلقتها موسكو في حربها الإعلامية، لن يكون له الأثر البالغ إذا سارت "العملية العسكرية الخاصة" (وهي الإشارة الملطفة التي يستخدمها بوتين حالياً في وصفه الاجتياح) وحققت أهدافها بشكل خاطف ـ لأن تلك الحرب كان مخطط لها أن يتحقق النصر فيها بسرعة كبيرة، وحتى قبل أن ينزعج المواطنون الروس بسبب خسارتهم لوجبة "البيغ ماك" (من سلسلة مطاعم ماكدونالدز الأميركية)، أو خسارة ملكيتهم لنادي تشيلسي الإنجليزي لكرة القدم، أو خسارتهم لسيارات "لادا" التي تصنعها شركة "رينو" الفرنسية.
لكن بالطبع، فإن الموهبة العسكرية الروسية التقليدية في التبديد [تبديد القدرات]، والفساد، وغياب الكفاءة وسوء التخطيط، انتهت إلى أن هذه الحرب أبعد ما تكون عن النصر، وربما لن تكلل بالنصر أبداً، بمعنى تحول أوكرانيا إلى دولة خاضعة تدور بقناعة [راضية] في فلك النفوذ الروسي. كان من المفترض أن يكون الرئيس فولوديمير زيلينسكي قد هرب إلى الولايات المتحدة منذ مدة، وأن يكون جيشه قد دمر تماماً، وأن يقوم الشعب الأوكراني باستقبال "قوات التحرير [الروسية]".
بدلاً من ذلك، يبدو أن الرئيس بوتين يستجدي الصين من أجل توفير طائرات مسيرة لقواته، ويستجدي الجنود من سوريا. أكرر هنا: "أن وضع هذه الحرب قد تطور بشكل لا يصب بالضرورة في مصلحة روسيا".
© The Independent