يشعر كثيرٌ من الاقتصاديين حول العالم بقلق من ارتفاع الدين العام والخاص حول العالم، نتيجة أسعار الفائدة المنخفضة للغاية. ففي أوروبا، لا يمكن للقروض العقارية أن تكون أكثر جذباً مما هي عليه اليوم (الرهون العقارية في فرنسا أقل من 1٪)، أمَّا السندات الحكومية بألمانيا، فظلت سلبية لنحو 10 أعوام.
هذه الظروف المالية غير المسبوقة قد تستمر. فالبنك المركزي الأوروبي ECB، الذي يقرض المصارف مجاناً، أعلن الشهر الماضي أن معدلات الفائدة ستظل عند مستوياتها الراهنة حتى نهاية 2019.
أمَّا في الولايات المتحدة، فأعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي توقفاً موقّتاً في يناير (كانون الثاني)، عندما ارتفعت أسعار الفائدة ببطء خلال العامين الماضيين، ووصلت إلى 2.5٪ في نهاية 2018.
إدارة مخاطر يومية
الدكتور جهاد نادر البروفسور في الاقتصاد المالي ونائب رئيس الجامعة الأميركية في دبي، اعتبر "أن القلق الدولي الراهن مبرر"، ورأى أن "أسعار الفائدة المنخفضة لها حسنات، خصوصاً أن العالم يمر منذ أعوام بحالة من الركود والانحسار الاقتصادي العميق، ويجب اتخاذ إجراءات وتطبيق سياسات محفزة للنمو في العالم، لأن ارتفاع الفوائد لا يحفزه. لكن في المقابل، لو كانت هناك حالة توسّع في الدين غير مبررة، أو غياب لسياسات اقتصادية يخدمها الدين، فسيقود ارتفاع المديونية حتماً إلى أخطار".
وقال لـ"اندبندنت عربية"، "إن في عالم المال هناك علاقة أساسية ما بين المخاطر والمردود، وبالتالي في ظل وجود مديونية عالية لن يكون هناك مردود". داعياً إلى "تشديد السياسات النقدية في العالم بشكل مدروس وضمن حدود معينة"، وشدد على "وجوب اعتماد إدارة مخاطر بشكل يومي لتجنب أي أزمات مالية".
سياسات ليّنة
وكانت المراجعة التنازلية لتوقعات النمو في عدد من الدول، دفعت معظم المصارف المركزية إلى تكييف سياساتها النقدية، من خلال اللجوء إلى السياسات اللينة، التي اعتُمدت لدعم الاقتصاد في أعقاب أزمة العام 2008 الناجمة عن الاقتراض المفرط.
واعتمدت البنوك المركزية سياسة ملائمة لتجنب تكرار أسوأ سيناريوهات أزمة العام 1929، التي خفّضت في الولايات المتحدة الإنتاج الصناعي إلى النصف، وجعلت ربع الأميركيين عاطلين عن العمل.
تحذير من كارثة
الدكتور أحمد بن حسن الشيخ رئيس مجلس إدارة "شركة دوكاب للكابلات" بالإمارات، يرى أن "أرقام الدين بالنسبة إلى الولايات المتحدة فلكية، ولم يشهدها التاريخ من قبل. فعلى المستوى الفيدرالي بلغ الدين العام ما بين 21 و22 تريليون دولار، والرقم مشابه على مستوى الدين المحلي والشركات، وهو في حدود 50 تريليونا"، مؤكداً "أن الفائدة المعدومة والسندات السلبية تغذي المضاربة، ولا تحقق النمو".
وأوضح، أنه "عند الكلام على النمو، فالمقصود النمو المستدام. وما يحصل اليوم بالعالم عملية تغذية لفقاعة غير مرئية، ربما تحتاج إلى 3 أو 4 سنوات كي تنفجر وتؤثر في الاقتصاد العالمي بأسره. وفي الولايات المتحدة، التي تُعد أكبر اقتصاد بالعالم، إضافة إلى أن الدولار هو العملة المسيطرة، ورغم النمو وتراجع أرقام البطالة وزيادة فرص العمل، فبرأيي كل ذلك ليس سوى مهدئات لضخ مبالغ كبيرة في الاقتصاد عن طريق طبع مزيد من الأموال، وهذا قد يقود إلى كارثة خلال السنوات المقبلة تفوق بكثير كارثة (الكساد الكبير)، التي شهدها العام 1929".
المديونية والفائدة
في أوروبا، خفّض "البنك المركزي الأوروبي" بانتظام سعر الفائدة الرئيسي، التي يقرض من خلالها المصارف Governing Rate منذ العام 2008، لتصل إلى صفر بالمئة في العام 2016، وما زالت حتى اليوم (المعدل السلبي للفائدة يستهدف تشجيع البنوك على عدم السماح لاحتياطياتها بالادخار، بل بضخها في الاقتصاد). لكن الأموال المجانية هذه أدت إلى مديونية مفرطة من جانب الحكومات، وارتفع الدين العام لدول "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" من 70% إلى 110٪ من الناتج المحلي الإجمالي منذ العام 2008.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى د. نادر أنه "في المبادئ الأساسية والمعاملات النقدية والمصرفية، لا يوجد أساس علمي لإصدار سندات بفائدة سلبية، فيجب أن تكون هناك فائدة من إصدار سندات للطرف المصدّر، وكذلك المشتري".
واعتبر في المقابل، أن ارتفاع الدين العام يمكن معالجته من خلال التحكم بالمخاطر، أي في وجود سياسات موازية ينصب تركيزها على الحفاظ على مستوى مقبول من المخاطر.
وأشار إلى أن "أي قضية مرتبطة بالدين سواء أكانت على مستوى الأفراد أو الشركات يجب دائماً السؤال فيها عن وجهة التمويل، والهدف الأساس من طلب التمويل. والأمر ينسحب على الحكومات".
وأضاف، "أن أصولاً كثيرة كان يجب أن لا تُمول، وكانت هناك تدفقات نقدية مضخمة بشكل غير واقعي، ليتبيّن بعد أعوام وفي غياب التدقيق، أنها كانت أصولاً سيئة، وعادة ما يتم محو هذه الديون من قبل المصارف. وبالتالي، فإن حدوث ذلك على نطاق واسع يقود إلى انهيار القطاع المصرفي، وأوضح مثال على ذلك الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة، التي انفجرت وأشعلت أزمة مالية عالمية".
النظرية الحديثة
اليوم، يعاود الاقتصاديون تحديد مخاطر الدين العام، ويرى بعضهم أن الوضع ليس كارثياً، لأن الدين العام عَملَ على تمويل استثمارات مفيدة.
ويذهب أنصار "النظرية الحديثة للنقد"، إلى أبعد من ذلك، موضحين أنه "إذا كانت أسعار الفائدة أقل من معدل نمو الاقتصاد، فإن عبء الدين في الناتج المحلي الإجمالي يميل إلى الانخفاض، ويمكن للبلد الاقتراض بسعر رخيص، والتخفيض من دون بذل جهد خاص.
لكن كريستين لاغارد العضو المنتدب لـ"صندوق النقد الدولي"، لا تشاركهم التفاؤل، وأشارت مطلع الشهر الحالي في مؤتمر عُقد في "معهد ميلكين للأبحاث"، إلى أن "هذه النظرية الجديدة لن تكون صالحة على المدى الطويل".
ويشاطر د. الشيخ مخاوف لاغارد بقوله إن "النظرية الحديثة للنقد ليست مستقرة، وإلا لما كانت هناك حاجة لأن تقلق الولايات المتحدة من دينها العام، فمن المفترض أن ينخفض بدلاً من أن يزيد. والأهم، أن الحكومات تكون عادة هي الضامنة للدين، وإذا افتقدت أي دولة لدخل يوازي حجم القرض، الذي تحتاجه وكذلك الفائدة، فلن تكون قادرة على السداد".
أمَّا د. نادر فيقول "إن العقلانية تفترض إدارة المخاطر من خلال مراقبة يومية ومستمرة. فلو نظرنا إلى اتفاقات بازل، نلاحظ أنها تتحدث عن رؤوس الأموال القائمة على مخاطر الموجودات أو الأصول. الصحيح، أنه ينبغي على المصارف أن تخفّض تقييمها للأصول إذا كانت مخاطرها عالية جداً أو هالكة. ورأينا خلال الأزمة المالية العالمية كيف أفلست مؤسسات مالية كبرى عندما اكتشفت بعد سنوات طويلة أن لديها أصولاً غير قائمة. اليوم، هناك حديث عن ضرورة تجنب كارثة جديدة، وبالتالي يجب اتخاذ تدابير عالمية قبل وقوع أزمة جديدة".
أموال مجانية
البنوك حول العالم ليست راضية عن المعدلات المنخفضة، وتعمل على تضييق الهوامش على القروض، مانعة أن تكون ودائع عملائها مربحة، ومجبرةً إياهم على المراهنة على أحجام التداول ومصادر إيراداتهم الأخرى.
لكن أوساط "البنك المركزي الأوروبي" تؤكد أن المعدلات السلبية أدّت إلى تعافي الاقتصاد الأوروبي في الماضي القريب، وساعدت كذلك في دعم ربحية المصارف. وتستفيد أيضاً الشركات من شروط الاقتراض هذه، لأن الأموال المجانية تركت الباب مفتوحاً أمام خيارات استثمار أقل صرامة. ونتيجة لذلك، تضاعف عدد الشركات غير الفعالة، التي تعيش فقط بسبب انخفاض أسعار الفائدة على ديونها.
يقول د. الشيخ، "إن الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في 2007 و2008 وما تلاها من تداعيات أثبتت أن السياسات اللينة لا يمكن أن تحد من الأزمات، وبالتالي يجب وضع سياسات نقدية صارمة جداً".
ودعا إلى "ديكتاتورية في السياسات النقدية، وليس فقط التشدد، لأنها المخرج الوحيد للأزمات".
وقال، "لم يكن للقوانين التي وُضعت خلال أزمة العام 2008 دعم قوي، ولم تأتِ بالنتائج المرجوة. وبالتالي أنا ضد الفكر اللين السهل وضد الأموال المجانية. فالحكومات أو المؤسسات أو الشركات عندما تحصل على أموال مجانية تستسهل الصرف، وقد لا تصب تلك الأموال في القنوات المخصصة لها، فترفع من مستوى الدين. ولاحظنا أن 90% من أموال التحفيزات التي اعتُمدت لمواجهة الأزمة المالية العالمية كان يمكن المحافظة عليها من دون الحاجة إلى ضخها".