تمر الذكرى الثالثة لسقوط أكثر التنظيمات المتطرفة تشدداً "داعش" بظروف دولية غاية التعقيد، بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، وصعوبة التكهن حول ما ستؤول إليه معركة لن يسلم العالم بأسره من ارتداداتها عسكرياً واقتصادياً، عيون الملايين تراقب الدخان المتصاعد من العاصمة كييف تارة، وإمدادات الطاقة والقمح والأمن الغذائي المهدد في حال اتسعت دوائر العملية العسكرية، تارة أخرى.
بعد ثلاث سنوات، يبدو أن العالم نسي "داعش"، لانشغاله بحرب في أرض جديدة، بطلها هذه المرة روسيا الاتحادية، لكن من عايش المعارك التي أشعلها أصحاب "الرايات السوداء" يعلم جيداً كم الرعب الذي ارتبط به اسم التنظيم بين المدنيين في أثناء حكم بـ"الحديد والنار" امتد من 2014 حتى 2019، بقيادة زعيمه السابق، أبو بكر البغدادي، وسيطرته على مساحة تقدر بـ100 كيلومتر مربع بين سوريا والعراق، وبلغ عدد المقاتلين الأجانب وحدهم في صفوفه قرابة 40 ألف مسلح، وحالياً على الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة للخلايا المقاتلة على الأرض، فإنهم يقدرون بثلاثة آلاف مقاتل.
لقد تهاوت حينها مدن وقرى بين العراق وسوريا، على وقع عمليات خاطفة وسريعة نظمها "داعش"، وكفر الأساليب العصرية والحديثة في الحياة، وزعم أنه يحكم عبر تطبيق الشريعة، إذ فرض وقتها على الرجال "إطلاق اللحى"، وإلزم النساء بـ"زي موحد"، ورافق ذلك دعاية مخيفة اعتمدت على بث الخوف بصور مؤذية لـ"قطع الرؤوس وبتر الأطراف"، استغل خلالها عناصر التنظيم غياب الرقابة على شبكة الإنترنت لنشرها عبر وسائل "التواصل الاجتماعي"، الأمر الذي دفع فرنسا لإزالة المحتويات الإرهابية والمتطرفة العنيفة ومنع تحميل هذا المحتوى، إثر جريمة "نداء كرايستشيرش" في نيوزيلندا 15 مارس (آذار) 2019.
سحق التنظيم بقبضة دولية
في حينها، كان العالم منشغلاً بالقضاء على التنظيم، والحد من قدراته التوسعية، حيث أظهر ضلوعه في عمليات انتحارية أطلق عليها "جهادية" في دول أوروبية، كألمانيا وفرنسا، لا سيما الغموض الذي ما زال يكتنف مصادر تمويله المتعددة، ودعمه الخفي، وإلى اليوم يواصل المحققون الأمميون محاولات فك ألغاز الدعم اللوجيستي والمعلوماتي والمالي لـ"داعش".
وبعد انقضاء ثلاث سنوات منذ إعلان التحالف الدولي والبيت الأبيض، في 24 مارس (آذار) 2019، انتهاء التنظيم بنسبة مئة في المئة، تغيرت خريطة السيطرة في الميدان السوري، لقد اندحر التنظيم، بعد ما اشتركت لمواجهته 79 دولة "التحالف الدولي" في سبتمبر (أيلول) عام 2014 مع منظمة حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي مع مجموعات مقاتلة من قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، غالبيتها من المكون الكردي، بعد سقوط آخر معاقل "داعش" في الباغوز شرق سوريا.
في المقابل، أعادت قوات النظام السوري نسبة كبيرة من الأراضي بما يزيد على 60 في المئة لتبقى مسيطرة على (حلب ودمشق ووسط البلاد مع الساحل وأجزاء من الشمال بشقيه الغربي والشرقي)، بينما اتسعت دائرة الإدارة الذاتية الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة، على الأرض لتعزز مواقعها وتدير شؤونها بمعزل عن دمشق، وتوسع قاعدة انتشارها مستفيدة من الفراغ الحاصل ودعم أميركي بالسلاح والقوة في الجزيرة السورية، التي تعج بثروات باطنية لا تنضب، وبغلات وفيرة من المحاصيل الموسمية، تعد خزان سوريا بأسرها، كالقمح والشعير والقطن وغيرها.
سيناريوهات إعادة الإحياء
إزاء ذلك، يدور الحديث حول إمكانية عودة "داعش" للظهور مجدداً بقوة، على الرغم من إعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، مقتل زعيمه أبو إبراهيم القرشي، في فبراير (شباط) الماضي، بعملية إنزال لقوات المارينز، ليؤكد النبأ المتحدث باسم التنظيم في العاشر من مارس، كاشفاً عن تعيين خليفة له، هو أبو الحسن الهاشمي.
وأمام هذه التطورات المتسارعة في حياة التنظيم البائد، توجد سيناريوهات عديدة حول إعادة إحياء "داعش" مجدداً، لعل أولها مشاركة أفراده بشكل خفي وانتقالهم إلى أرض المعركة الأوكرانية بعد قرابة الشهر على اندلاعها، واستقطاب مرتزقة من شتى الدول، لا سيما أن المتزعم الجديد، والثالث للتنظيم، القرشي، لم يعلن عن خطط تنظيمه، ومقل في ظهوره الإعلامي، تفادياً لأي اختراق استخباراتي يكشف مخدعه على عكس سلفه، وفي حال تحرك التنظيم المتشدد سيكون بشكل غير معلن، لأنه لا يرغب بإخلاء الساحة العراقية والسورية.
يأتي ذلك وسط تبادل الاتهامات بين واشنطن وموسكو حول نقل مرتزقة إلى الأراضي الأوكرانية، وزعمت الاستخبارات الروسية، في وقت سابق، احتواء قاعدة "التنف" في شرق سوريا، الخاضعة للقوات الأميركية، لمقاتلي "داعش" من المخطط إرسالهم لأوكرانيا، بينما تتهم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) روسيا بتجنيد مرتزقة سوريين وأجانب للقتال في أوكرانيا.
ارتداء ثوب جديد
على الأرض، تكثف الخلايا المقاتلة من عملياتها على امتداد الشمال الشرقي السوري، وباتت الضربات في ازدياد بريف الرقة، مستهدفة القوات النظامية، لتشتبك معهم في حروب ببادية الرصافة لاستراتيجيتها ووقوعها نقطة إمداد للجيش السوري، وتشغل المقاتلات الروسية، التي تلاحق فلول التنظيم، الذي يشتبك بعمليات خاطفة مستهدفاً مقرات ونقاط لوجود قوات "قسد" شرقاً.
يأتي هذا النشاط بعد الهجوم العنيف على سجن الغويران (الصناعة) في مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا في يناير (كانون الثاني) الماضي، ولقي 200 سجين من أفراد التنظيم حتفهم بمعركة ساخنة، توقعت أوساط ميدانية، أنه في حال نجاح الجماعات المهاجمة من فك قيد الأسرى لكانت كارثة خطيرة تحدق بالمنطقة، لما يحويه السجن من عناصر وقيادات مهمة، حينها أظهرت حراسة السجن بسالة واضحة للحيلولة دون سقوط المعتقل، ما أدى إلى مصرع 30 منهم.
ومن المتوقع أن يستمر "داعش" في محاولات العودة بقوة، وهذا ما حذرت منه قوات سوريا الديمقراطية، في بيان لها بتاريخ 23 مارس الحالي، بمناسبة مرور ثلاث سنوات من الأوضاع الخطيرة، ويحتم ضرورة إيجاد حلول دولية، بالتوازي مع أعباء تعاني منها قوات "قسد" المسيطرة على مخيمات تضم عشرات الآلاف من الأسرى والمعتقلين وعوائلهم، تبلغ في مجملها بحدود 70 ألفاً، بينما يبلغ عدد المعتقلين 10 آلاف سجين لم يبت المجتمع الدولي بعد في طريقة محاكمتهم، وبقي هؤلاء عبئاً أمنياً خطيراً، إذ تتكفل هذه القوات بحراسة المعتقلات بكثير من الحذر، خشية هجوم مماثل لسجن الغويران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"داعش خراسان"
من ناحية أخرى، تمثل هذه الأعداد الكبيرة من المعتقلين "كنزاً داعشياً" لإعادة تشكيل قوته من جديد، وتتجه الأنظار إلى الظهور بشكل مختلف، مثل حرب العصابات لاستدراج القوات المحاربة إلى عمق البادية المترامية الأطراف، بغية الإيقاع بهم في أفخاخ وكمائن وتوريطهم في حرب صحراء طوية الأمد.
ومن المرجح أن يرتدي "داعش" في سوريا ثوباً جديداً من حياكة حركة "طالبان" بعد سيطرتها على كابول، العاصمة الأفغانية في أغسطس (آب) 2021، وهو السيناريو الأقرب إلى الحدوث، لقد أعطت الحركة "داعش" دفقة من الحياة بعد الموت السريري لمدة عامين مضيا، بعد وصولهم للحكم وإرسالهم رسائل مساندة للفصائل التكفيرية في سوريا عن وقوفها إلى جانبهم في الحرب.
ومن غير المستبعد انطلاق عمليات في المستقبل المنظور تحت اسم "داعش- خراسان"، وبحسب تقارير استخباراتية أميركية، فإن عددهم وصل لأربعة آلاف مقاتل في أفغانستان، وحذر قائد القيادة المركزية، الجنرال كينيث ماكنزي، في الوقت ذاته، من "تصاعد هجمات داعش مع اقتراب الصيف".
كما تحذر باريس، وفق موقع "الدبلوماسية الفرنسية"، من كون التنظيم ما زال يشكل تهديداً خطيراً للأمن الدولي، وأكد التقرير الذي نشر في أعقاب اندحار التنظيم في عام 2019، "استمرار وجود خلايا سرية نشطة على الساحة العراقية والسورية، واستمرار وجود مجموعات له في أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، وجنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا"، منوهاً إلى اعتماد التنظيم على الدعاية التي تشجع العنف، مع احتمال انتشاره مجدداً عن طريق استغلال هشاشة الوضع السياسي في المناطق المتأزمة.