كشفت الإدارة الكارثية لأحوال السودان على يد النظام الانقلابي للإخوان المسلمين خلال ثلاثين سنة، ليس فقط عن وفرة من الخراب الكبير الذي أعطب جهاز الدولة العام، وإنما تسبب كذلك في تخريب ما يمكن أن نسميه تصوراً عاماً مدركاً بصورة ما (وإن كان في مراحل أولى وببعض نواح سلبية كامنة) لهوية دولة كانت، برسم العديد من المعالم والعناصر، تعكس انتظاماً مدنياً للمجتمع السوداني منذ الاستقلال حتى عام 1989.
كما أن خطورة ما آل إليه وضع السودان اليوم لا يتعلق بالإجهاز على نظام إدراك نظري اخترعته النخبة السودانية، وظلت لديه فرصة محتملة لأن يتطور (على رغم سلبياته الكامنة) باتجاه إيجابي لتحقيق دولة المواطنة، وإنما يتعلق بالأخطر من ذلك، أي بما تم تعويمه من نظام إدراك متخلف كبديل لوعي هوية السودان وصورته عبر بعث هويات قبائلية قديمة خلال الثلاثين عاماً من حكم نظام الإسلام السياسي، إذ اتضح أن تجريب الأيديولوجيا الإسلاموية لصناعة هوية جديدة للسودانيين للقطع مع السودان "الجاهلي" ما قبل عام 1989 (عام الانقلاب المشؤوم للبشير– الترابي) كانت هي الوصفة المسمومة التي أدت إلى نتيجة بدت أكثر من واضحة على أن هوية أيديولوجيا الإسلام السياسي بوصفها هوية قَدَامَةْ، في جوهرها، وكانت سبباً رئيسياً في تعويم نظامٍ مَسَخَ حتى الهويات القديمة لما قبل الدولة كالقبيلة، حين أعاد اختراعها نظام البشير في ما سمي بتسييس الإدارة الأهلية فأنتج "القبائلية". ولأن أيديولوجيا الإسلام السياسي في تصورها للمجال العام، عاجزة، بالضرورة، عن إنتاج المعرفة من حيث كونها أيديولوجيا؛ لذلك سقطت في فخ كشف عن جوهرها الحقيقي الذي ذكرناه، أي: القَدَامة.
لذا فإن وقائع المجال العام في السودان، تلك التي تراكمت لثلاثين سنة في مقاربة السياسة من منظور القبيلة وحراك الثورة المضادة الذي ينشط في سطح المجال السياسي اليوم في السودان، لا يمكن أبداً قراءته بمعزل عن استصحاب معنى الخراب المدمر الذي لحق بهوية السودانيين كما لحق بالتصور الجنيني لانتظامهم المدني، الذي يحدد وعيهم لذاتهم كشعب يتشكل باتجاه طريق يمهد إلى دولة المواطنة قبل 1989. ومن ثم أفرزت الأيديولوجيا الإسلاموية ذلك العطب الكياني في التعبير عن هوية المعنى الوطني العام للسودانيين.
فحين نرى اليوم مثلاً نشاطاً لجسم هلامي في شرق السودان كالمجلس الأعلى لنظارات البجا، فيما هو بهذا الاسم القبلي يقارب المجال السياسي العام؛ سيكون هذا بحد ذاته كافياً لإدراك حجم الخراب الذي عممه نظام البشير وسمم به المجال السياسي العام بمثل هذه الكيانات التي كانت تطوراً طبيعياً أنتجه اختراع قباحة "القبائلية" كنظام إدراك قبلي للسياسة منذ ثلاثين سنة تحت عنوان: تسييس الإدارة الأهلية.
اليوم، يمكننا القول إن هناك انحساراً في اختراع المعنى العام الناقص الذي تصورته النخبة الوطنية للسودان نتيجة للضربات التحويلية المؤلمة لنظام القدامة ممثلاً في وحش القبائلية الذي أطلقه الإخوان المسلمون في المجال العام منذ 30 سنة حين عجزوا تماماً عن تحقيق ما ظنوه أيديولوجيا قابلة للتحقق، ومن ثم يمكننا القول إن نظم الإدراك القبائلية التي سهر على تصميمها الإخوان المسلمون على مدى 30 سنة هي التي تحرك اليوم وعياً قبلياً متوحشاً؛ أصبح منظوره الضيق لمعنى المواطنة منظوراً معمماً بحكم الأمر الواقع لسلطة الإعلام والتأثير لنظام البشير في المجال العام لثلاثين سنة.
ونتيجة لهذا الواقع انحسر، أو كاد، ذلك الاختراع الناقص لمعنى السودان كوطن يسع الجميع في تصور النخب السودانية، الأمر الذي سيقودنا إلى سؤال آخر هو: هل كان ذلك التصور الناقص الذي تم تعميمه (وآمنت به النخب السودانية) هو بالفعل ترجمة أمينة لدالة تعريفية على سودان ما بعد الاستقلال؟ أي هل كان سودان ما بعد الاستقلال مُعَبِّراً حقيقياً عن هوية السودانيين في كافة أطراف السودان بسوية واحدة من التنمية والتحديث وحقوق المواطنة، أم كان ذلك السودان في الحقيقة تأويلاً تم تعميمه لحقوق مواطنة انطبقت أكثر ما انطبقت على محور منطقة (دنقلا– الخرطوم- كوستي) أي سودان الوسط النيلي ومن عاش فيه، بحسب الدكتور عبد السلام نور الدين؟
الإجابة عن هذا السؤال ستكشف لنا الكثير من الغموض، وستفسر لنا ليس فقط كيف كان نضال حركات الهامش (منذ تمرد توريت، 1955، في جنوب السودان إلى حركات البجا ودارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة حتى سقوط البشير) هي في الأساس ردود فعل لذلك التهميش الذي فرضه تصور ضيق لسودان الشريط النيلي كهوية مواطنة عامة تشمل سودانيين آخرين مختلفين في بقية أطراف السودان، وإنما كذلك ستكشف لنا: كيف أصبح الانسداد السياسي الذي آل إليه وضع الثورة السودانية اليوم هو كذلك (إلى جانب عوامل أخرى) نتيجة سيئة لتصورات القوى السياسية المركزية الناشطة اليوم في الوسط النيلي، والتي تتخيل السودان كما لو أنه فقط نطاق ذلك الوسط، ومن ثم سيكشف لنا هذا العجز الخطير عن ما تعانيه نخب ذلك الوسط حيال أي إعادة تعريف حقيقية للسودان في تصوراتها العامة.
لهذا، وعلى الرغم من الثورة العظيمة التي أنجزها السودانيون في 2019 سيكون ذلك العجز الذي تمثله النخبة الحزبية المخلخلة، من ناحية، وتراكمات تكريس المنظور القبائلي كإطار شبه وحيد اليوم لتفسير هوية العمل السياسي في المجال العام كما صممه نظام الإخوان المسلمين، من ناحية ثانية، هما المجالان اللذان تتبدد عليهما جهود الثورة السودانية هباء منثوراً، ويمكننا أن نؤكد ذلك حتى بطبيعة الحركات المسلحة التي نشطت سياسياً وعسكرياً، كحركات دارفور مثلاً، لنكتشف أنها في حقيقتها عبارة عن تكوينات ظاهرها سياسي، لكن جوهرها يعكس انتماءات إثنية مغلقة في غالبية تلك الحركات، على الرغم من أسمائها التي تحمل عناوين عامة للسودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الواقع السوداني اليوم تجري فيه المتغيرات وفقاً لهذا التصميم، الذي كرس لانتماءات قبلية ومناطقية، على الرغم من الحراك الثوري العظيم الذي يحدث فيه. الأمر الذي نستطيع أن نتكهن من خلاله بأن الانسدادات ستكون على ما هي عليه، حتى لو حدث اختراق ثوري، وتم إسقاط الانقلاب الذي يحكم السودان منذ 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. لأن الماكينزمات التي تحرك نظم إدراك الناس لوعي السياسة تم تغييرها سلبياً منذ ثلاثين سنة، وها هي تعبيراتها تتمثل اليوم في القدرة على الحشد للنشاطات الكبرى ذات الطابع القبلي لمنظور السياسة، فيما لا نجد أي حضور للأحزاب، أو قدرة على عقد التجمعات الكبرى على النحو الذي تحشد له القبائل.
هذا يعني أن فرص الفكاك من تراكمات العجز التي تنعكس تعبيراتها في عطب الأحزاب والقوى السياسية اليوم، وتبرز على نحو أكثر سوءاً في تعبيرات التمثيل السياسي للحشود القبيلة؛ ستكون صعبةً ما لم يكن هناك بحث عن كتلة ثالثة تنتزع المجال العام بطرائق تعبير تتجاوز فعل الزخم الثوري والحراك الاحتجاجي للكتلة التاريخية إلى اختراق نوعي تحققه تلك الأجسام الثورية لا سيما لجان المقاومة، لكن ذلك الاختراق في تقديرنا مشروط بتحول نوعي لمفكرين ومنظرين ينحازون إلى جانب تلك اللجان، ويتولون مرجعية الوعي المنظم لهوية العمل السياسي وخططه التكتيكية والاستراتيجية في أجندتها للعمل العام.
إن قوة الجذب المثيرة في التمثيلات التي تعبر عنها الهويات القبائلية والمناطقية كمنظور ضيق لمقاربة السياسة والعمل في المجال العام منذ ثلاثين سنة، هي التي تسيطر اليوم على طبيعة النشاط السياسي المباشر، سواء عبر الكيانات القبائلية، أو عبر الحركات المناطقية، وخطورة عمل هذه الكيانات بمنظورها الضيق هذا إذا لم يتم قطع الطريق عليها بكيان للكتلة الثالثة التي ذكرنا طبيعتها آنفاً، خصوصاً في هذا التوقيت الحرج للحظة المصير الوطني السوداني، تعتبر خطورة بالغة، لأن مصير ذلك التعاطي القبائلي والمناطقي للسياسة سيفضي إلى حروب أهلية وتخريب للنسيج الاجتماعي، وللأسف فإن تفكير السلطة الانقلابية الراهنة للمكون العسكري تعمل كجزء من ذلك النمط الذي صممه نظام البشير لتدمير الحياة السياسية. حيث نرى كل من البرهان وحميدتي يستنصران القبائل والطرق الصوفية ظناً منهما أن تلك الكيانات يمكنها أن تحدث فرقاً في النتيجة النهائية، لكن الحقيقة المرة أن أي استمرار لهذا النهج الذي وصفناه آنفاً لا يفضي إلا إلى تفكيك السودان ودخوله في الفوضى.
ولعل أقرب مثال يكشف حقيقة المآل العدمي الذي يمكن أن تدخلنا فيه هذه الكيانات المخلخلة، هو نموذج ما يسمى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان، وتناقضاته التي تدل على مفارقات تكشف عن عبثيته السياسية؛ إذ كيف يستقيم أن يدعو المجلس في مدينة بورتسودان إلى ندوة فكرية بعنوان "شكل الدولة ونظام الحكم"- تم تأجيلها في ما بعد- فيما رئيس هذا المجلس (الناظر محمد الأمين ترك) كان قد حدد لمجلسه نظام الحكم الذي يرغب فيه حينما هتف الناظر ترك بجوار نائب رئيس مجلس السيادة حميدتي في مدينة سنكات، قبل أيام، قائلاً: "نريد أن يحكم العسكر"!
لهذا لا نستغرب، أيضاً، أنه نتيجة لخطاب شحن الكراهية القبائلية أن تحدث في مدينة بورتسودان حوادث مخزية، إذ تم خلع لافتة لعنوان شارع يحمل اسم أكبر مؤرخ لمدينة بورتسودان وشرق السودان عامة (شارع المؤرخ محمد صالح ضرار) في أحد الأحياء العريقة لمدينة بورتسودان، بحجة أن المؤرخ الكبير ينتمي إلى قبيلة لا ينتمي أعضاؤها لمكونات المجلس الأعلى لنظارات البجا، أي (قبيلة بني عامر) للأسف.
كل من يتأمل اليوم في الدرك الذي أصبحت عليه حال السودان من انسداد خطير عبر الميراث الأسود لنظام الإخوان المسلمين والآثار التي خلفها في البنية الذهنية والتصورات العامة للناس، سيعرف أن العجز المزدوج الذي يقف حائلاً دون اختراق هذا الواقع أصبح اليوم يواجه خط النهاية، أي لحظات ما قبل الدخول في الفوضى الأخيرة، ما لم يتدارك أبناء الشعب الأبرار هذا المصير الذي يخيم على السودان اليوم كشبح مخيف في أفق قريب.