يبرز تكوين الدولة السودانية خلال تاريخها الحديث في التمايز السياسي ونمط الحكم، غير أنه بالعودة لتاريخها خصوصاً "سلطنة الفونج" أو "السلطنة الزرقاء"، فإن ذلك عد أول تجربة رائدة في تشكيل دولة موحدة في بلاد السودان.
اعتمد أغلب المؤرخين السودانيين في تعريفهم لأصول سكان "سلطنة الفونج الإسلامية" وهي من أوائل الممالك الإسلامية في السودان وكانت عاصمتها سنار خلال الفترة من العام 1504 وحتى العام 1821، على ما خطه الإداريون البريطانيون إبان الحكم الاستعماري على السودان، وأقدمها ما خطه جيمس ويلسون روبرتسون "أصول الفونج"، في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة عام 1934، وترجمها أخيراً بدر الدين الهاشمي.
والمنطقة كانت إحدى مناطق عمل روبرتسون في مدينة الروصيرص وضمن المنطقة المحسوبة على الفونج، وترجم الهاشمي من المجلة ذاتها عرض خطه الإداري البريطاني كينيث هيندرسون الذي عمل في خدمة حكومة السودان بمدينة ود مدني عام 1926، لكتاب عالم الآثار الاسكتلندي أوزبرت قاي كرافورد "مملكة الفونج في سنار"، والعرض نشر عام 1953 في العدد الـ 34 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات".
وهناك وثيقة أخرى لتقرير أعده القائد البحري العثماني سلمان ريس عام 1525، الذي كلفه الخديوي إبراهيم باشا بالقيام برحلات تفتيشية على الموارد الحربية في مدينة جدة، فاقترح عليه ريس أن يحتلوا اليمن وعدن لأهميتهما لتجارة الهند، واحتلال سواكن أيضاً، لأن التجار الهنود كانوا يفضلون استخدام مينائها لتفادي الضرائب والجمارك المفروضة من جانب العثمانيين في ميناء جدة، وكذلك أرخبيل دهلك قبالة الشواطئ الإريترية قرب مدينة مصوع لحراسة مدخل البحر الأحمر وغزو أرض الفونج وإثيوبيا.
وجاء في وثيقة سلمان ريس أن "شعب بلاد الفونج بالغ الضعف يدفعون سنوياً خراجاً قدره 9000 من الإبل لكفار في إثيوبيا، وبين النيلين الذين يجريان في المنطقة تقع مدينة سنار التي تصدر منها وترد إليها من إثيوبيا وغيرها كمية كبيرة من البضائع، مثل الذهب والمسك والعاج".
لغز الرحالة المغامر
من نقاط التحول التاريخية لـ "سلطنة الفونج" هو انفصالها عما حولها من ممالك وسلطنات نتيجة لحداثة تحولها من مملكة وثنية ومسيحية إلى إسلامية، ومع مرور الوقت وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل مع بقية الممالك لتعضيد حكمها.
وعند نشوء "سلطنة الفونج الإسلامية" لم تكن هذه المنطقة من أفريقيا مغرية لتوافد الرحالة الأوروبيين، فذاع صيت أحدهم وهو الرحالة الأوروبي اليهودي ديفيد روبيني الذي قدم إلى سنار منتحلاً شخصية شريف مكة، وذكر لسلطان الفونج عمارة دنقس أنه جاء لمملكته بغرض التعرف على أحوالها والتمتع بمباهجها، وجاب أرجاء منطقة سنار في العام 1522، وكتب في مخطوطته أن عمارة دنقس كان يسيطر سيطرة تامة على كامل وادي النيل، وأن مركز قيادته كان على حدود الحبشة (إثيوبيا).
أستاذ آثار أفريقيا والشرق الأدنى بجامعة بحري عبدالرحيم خبير قال إن "المثير للانتباه في زيارة روبيني أنها جاءت في الربع الأول من القرن الـ 16 الميلادي، أي بعد ثلاثة عقود فقط من سقوط الدويلات الإسلامية في الأندلس (إسبانيا الحالية) عام 1492، واللافت أيضاً أن روبيني قدم من الجزيرة العربية وبالتحديد من مكة المكرمة على الرغم من أن الرجل لم يكن مسلماً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأورد خبير وصف روبيني لسلطان الفونج بأنه "أسمر اللون ويحكم رعية من السمر والبيض". وذكر أنه رافق السلطان في رحلاته الدورية في مملكته التي يبدأها كل شهر إلى جهة من الجهات، وتساءل عن "الهدف من رحلة روبيني لسلطنة إسلامية في أواسط أفريقيا في ذلك الزمان، بخاصة أنه ينتمي لحركة شلومو مولوخو المسيانية اليهودية، وأن اليهود آنذاك كانوا لا يزالون في الشتات وتراودهم أحلام تأسيس وطن قومي لهم، وهل كانت الرحلة لدواع سياسية تتعلق بمصالح بعض القوى الأوروبية ورغبتها في التوسع الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؟".
ولعل اختفاء مخطوطة روبيني من جامعة أكسفورد بعد ذلك ثم العثور عليها لاحقاً، ثم رحيله المفاجئ من الفونج بعد قدوم شريف مكة الحقيقي وانكشاف أمره ومقتله في أوروبا، يعضد مشروعية الأسئلة السابقة.
تفاعلات سياسية اجتماعية
لا يمكن فصل تجربة دولة الفونج عن سياقها الاجتماعي والسياسي المبني على التعاقب، فقد جاءت من خلال الرؤية المحلية للمجتمع التي ترسخت في القرن الـ 14، وعليه يمكن اختبار المنطقة كعوامل بشرية ذات دينامية خاصة تكونت في ظروف صعبة من تاريخ تشكل المنطقة، فاختلف حول أصل السكان نظراً إلى تعدد أنشطتهم الإنتاجية وعلاقاتهم الاجتماعية وتفاعلاتهم مع الطبيعة والمحافظة على طقوسهم القديمة، ومنها ما هو غريب وخارج عن المألوف، لكنهم يمتثلون لها بشكل لا واع.
وتجلى هذا الواقع وترسخ بفعل الاستقرار مع تطور علاقة المجتمع مع الدولة الداخلية في مقابل تفكك علاقتها بمحيطها، ففقدت كثيراً من الأواصر.
وعن تكوين المنطقة قال أستاذ علم الأجناس والأنثروبولوجي بجامعة الخرطوم عبدالباسط سعيد، "باعتبار أن سلطنة الفونج قامت على أنقاض مملكة علوة المسيحية، وهى المملكة التي قضى عليها تحالف عمارة دنقس زعيم الفونج وعبدالله جماع زعيم عرب القواسمة (العبدلاب)، فإن السكان الذين هربوا إلى جبال الفونج أطلق عليهم "الهمج"، لكن في الحقيقة هم مزيج من مهاجري الحبشة مع السكان الأصليين في منطقة سنار وهي الأقرب لهم، وهناك من يردهم إلى قبيلة "الشلك" في جنوب السودان، غير أنه عملياً يصعب امتداد تلك القبيلة القادمة من أفريقيا جنوب الصحراء شمالاً متجاوزة صعوبة التضاريس".
وتابع، "يمكن استشفاف ذلك من التنظيمات القتالية في السلطنة الزرقاء، وذلك من خلال تتبع مراحل ظهور التنظيمات القتالية غير النظامية التي تدرجت من جيوش القبائل التي لعبت دوراً مهما في تأسيس السلطنة، ثم استعانت السلطنة بالرقيق وكونت منهم جيشاً نظامياً ساعدها في الغزو وقمع الثورات الداخلية".
وأضاف سعيد، "امتد تكوين الجيش بهذه القوات (الرقيق) لفترات لاحقة حتى بعد انهيار السلطنة، وقد كان من ضمن أهداف غزو محمد علي باشا للسودان الحصول على الرقيق لمساعدتهم في غزواته". ولفت إلى أن مراحل تكوين جيش سلطنة الفونج لم يشذ عن تطور جيوش السلطنات الإسلامية في ذلك الوقت، مثل السلطنة العثمانية التي بدأت بالاعتماد على القوات القبلية ثم قوات "الانكشارية" وتقابلها قوات "الرقيق".
"خراب سوبا"
ما بين القوة والملك، مثلما كان في تاريخ المرأة السودانية في مملكة كوش القديمة التي حكمتها أمانجي ريناس من سنة 40 قبل الميلاد إلى السنة الـ 10 ميلادية واستمرت قوتها حتى الممالك المسيحية بعد ذلك، وبين الضعف والتقهقر الذي طرأ على وضعها، ظل التباين واضحاً ينعكس على وضع المرأة السودانية خلال الفترات اللاحقة، فقد انتهت "مملكة علوة المسيحية" السابقة لـ "سلطنة الفونج" على يد امرأة تدعى "عجوبة"، وفق ما تعارف عليه بـ "خراب سوبا" نسبة إلى اسم عاصمتها، ويقال إنه كان لعجوبة ابنة جميلة أعجب بها عدد من الوزراء في عاصمة مملكة علوة "سوبا"، فاستثمرت هذه الرغبة في خلق فتنة بينهم وكانوا من إثنيات مختلفة من قبائل عربية ونوبية، وحرضتهم على أن من يريد ابنتها عليه أن يقتل منافسه، فقتل أربعة منهم ونشبت فتنة أضعفت مملكة علوة حتى سقطت ونشأت على أنقاضها "سلطنة الفونج".
تراجع وضع المرأة في عهد "سلطنة الفونج الإسلامية"، بل ظلت ترزح تحت سيطرة الرجل التامة وقسمها المجتمع إلى فئتين، الأولى هن السيدات وواجبهن هو توفير الراحة للرجل بغض النظر عن مكانتهن الاجتماعية وتقبله من عدمه، أما الفئة الثانية فهن الإماء اللاتي يقمن بالأعمال المنزلية الشاقة، إضافة إلى نزوات أسيادهن من العائلة التي يقمن فيها، أو حتى إهدائهن للغرض ذاته. ويرى بعض علماء الاجتماع أن هذا التحول في وضع المرأة ونشوء المجتمع الذكوري هو نتيجة لمرور "السلطنة الزرقاء" منذ تكوينها بعدد كبير من الحروب، مما كان يتطلب تفوق الرجال وإبراز سلطتهم، ثم بسبب عدم استقرار الرجال الذي جعل المرأة خاضعة في بيتها كسيدة وكجارية في حضوره وغيابه.
نكوص مؤسسة الدولة
ظاهرة خراب الدولة ونشوء أخرى على أنقاضها يشبه ما يمر به السودان الآن، ولو تأخر ذلك منذ فترة ما بعد الاستعمار فإن الفترة الانتقالية الحالية مختلفة عن كل الفترات الانتقالية التي حدثت في أعقاب قيام الثورات في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وأبريل (نيسان) 1985 وإسقاط النظم العسكرية، وما يمكن عقده من مقاربة بين ذلك التاريخ وهذه الفترة هو أن هناك لحظات فارقة يتم فيها هدم كثير من أسس الدولة، إذ لا مكان لاحترام الدستور كميثاق اجتماعي بين المواطنين والدولة ونشوء حاجة ماسة إلى تشريع القوانين، وفي الطريق ذاته تبدو مؤسسات مثل الجيش متنازعاً بين السلطة وبين دوره في حماية البلاد، وسبب التنازع وجود قوات موازية تطمح في حل محله.
وإن كانت لتلك الفترة مسمياتها من أجهزة الدولة فإن الصيغة القبلية الآن تكاد تسيطر على كل المؤسسات بما فيها العسكر، وهذا نكوص من المرحلة التي وصلت فيها الأجهزة إلى نظام مدني حديث وبيروقراطية منظمة للعمل أسسها الحكم البريطاني، ومن نظم حكم حديثة تحاول اللحاق بركب دولة المؤسسات والحقوق إلى ما دون ذلك.