يبدو أن مستقبلاً قاتماً ينتظر العاصمة السودانية الخرطوم في العقود المقبلة، بحيث لن تعود مدينة قابلة للسكن أو العيش فيها، ليس بفعل عوامل الطبيعة أو تنبؤات بظروف مناخية قسرية خارج الإرادة، لكنه وضع أقرب إلى يشبه الانتحار التدريجي البطيء، بفعل ممارسات وأخطاء بشرية تراكمت واستفحلت، وما زالت تستنزف مخزونها المائي السطحي، كما تلوث مخزونها الجوفي بمياه الصرف الصحي بسبب الحفر العشوائي لآبار السايفون.
احتضار بعيد المدى
ورسم بيان تحذيري من وزارة الري والقوى المائية مشهداً أقرب إلى الاحتضار بعيد المدى للعاصمة الخرطوم، بكشفه عن أن الاستخدام غير المُرشّد للمياه الجوفية، بما فيها اختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي، يجعل العاصمة الخرطوم غير صالحة للسكن، مشددة على أن الخرطوم ستكون غير مؤهلة للعيش فيها في العقود المقبلة من دون أن تحدد مداها الزمني على وجه الدقة، ما لم يتم إجراء تغييرات كبيرة للحفاظ على مخزون المياه الجوفية. وأشار البيان إلى تزايد الاستخدام غير المُرشّد باستخراج المياه بطريقة لا تنسجم وقدرة الحوض المائي، إضافة إلى تلوث مياه الشرب واختلاطها بالصرف الصحي بسبب الحفر غير المُرشّد للآبار. ونوّهت الوزارة إلى أن الوضع يحتاج لتدخل الدولة المباشر من أجل تحسين كفاءة استخدام الآبار الجوفية ووقف الاستنزاف المتزايد لحماية المصادر من النضوب والتلوث، مطالبةً بسن تشريع يمنع المساس بمصادر المياه، بخاصة الجوفية.
التلوث الجوفي
وأكد المهندس صلاح عثمان، اختصاصي تخطيط المدن، أن هناك بعض الآبار الملوثة فعلاً من دون اعتراف رسمي بذلك، وسبق أن أصدرت السلطات في (2012 - 2013)، قراراً بوقف وحظر حفر آبار السايفون التي تصل إلى ذلك العمق الجوفي وتدمر المياه الصالحة للشرب، إذ تعاني مدينتا أم درمان والخرطوم بحري، كبرى مدن العاصمة، من مشكلة تلوث مياه الشرب نتيجة حفر السايفون إلى أعماق تصل مباشرة إلى الطبقات السفلى في العمق الجوفي. وشرح مهندس تخطيط المدن، نوعية وكيفية تلوث المياه. وقال إن المياه السطحية على عمق 10 إلى 13 متراً، لا تخصص للشرب، لأنها الأكثر عرضة للتلوث، لذلك يتم الحفر إلى طبقات المياه الجوفية حيث مياه الشرب الصالحة، وحتى لو حملت معها أحياناً بعض المواد الجيرية أو الأملاح، أو ظهرت فيها بعض بوادر التلوث، يمكن معالجتها بحذر شديد ومعايير دقيقة محوسبة بدقة علمية تأخذ في الاعتبار السعة الفعلية لكل خزان.
وأشار عثمان إلى أن مشكلة المياه السطحية تهدد كثيراً من المنازل بمدينة أم درمان بالانهيار بسبب طبقات تربتها غير المسامية التي تمنع تسرب المياه إلى الجوفية، إلا أن المشكلة أن هذه المياه السطحية نفسها ليست من النيل، بل من الصرف الصحي التي تنتقل أفقياً متسببةً في ظاهرة ما يسمى "النز"، وهي مشكلة بيئية في المقام الأول، بينما تُعتبر المشكلة في مدينة بحري ذات طابع خدمي أكثر منه بيئياً.
ورأى عثمان أن الحل يكمن في إنشاء شبكة للصرف الصحي. وقال إن محاولات عدّة جرت لتنفيذها في أم درمان، لكنها فشلت نتيجة انطواء الحلول المقدمة على مُخاطرة كبيرة تهدد مياه النيل نفسها التي يعتمد عليها سكان شمال البلاد في كل مناحي حياتهم، وحمل بشدة على الانعدام التام للتنسيق بين جهات الاختصاص الرسمية المسؤولة عن التخطيط الحضري التي تعمل كجزر معزولة عن بعضها البعض، مضيفاً في الوقت عينه، أن التمدد السكني العشوائي شكّل ضغطاً مهولاً على الخدمات المحدودة بالخرطوم، وبات من المشاكل التي لا بد من الإسراع بمعالجتها، وانتقد المختص في تخطيط المدن، ما وصفه بالفشل الإداري والأخلاقي المتكامل الذي يتجلى في الوضعية المُزرية للمناطق الصناعية وسوء تنظيم الأسواق السودانية، التي كان يمكن تفاديها وتصحيحها عبر تشكيل مجموعات تتحقق لها مصالحها من دون أن تتضارب مع مقتضيات التنظيم والإصلاح المطلوبة.
هواجس ومخاوف
من جانبه، أكد بشرى حامد، المتخصص في البيئة، والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، أنهم كاختصاصيين، حذروا أيضاً بمناسبة اليوم العالمي للمياه، من أن العاصمة السودانية الخرطوم تواجه خطراً حقيقياً بسبب تلوث المياه الجوفية والسطحية، نتيجة الاستخدام السيئ وتصريف مياه الصرف الصحي (السايفون) في أحواض مياه الشرب الجوفية وتلويثها، وتخوف حامد من أن تشهد الفترة المقبلة هجرة الناس منازلهم في كثير من مدن العاصمة بسبب مشكلة المياه السطحية، بعد أن بدأ بالفعل عدد من الأسر بمدينة أم درمان القديمة هجرة بيوتهم والبحث عن مناطق أخرى للعيش فيها، ما يعتبر مأساة إنسانية اجتماعية وبيئية. وأضاف حامد، "مهما كانت قدرة المياه الجوفية على تنقية نفسها أو بالاعتماد على درجة تحملها تلك الشوائب، فهي ترتبط بمقدرة تحمل الحوض الجوفي لكمية الملوثات، لذلك يبقى مكمن الخطورة في تركز كمية كبيرة من الملوثات (آبار السايفون) داخل رقعة جغرافية محصورة مع خطر تتمدد الظاهرة إلى مناطق جديدة، كإحدى أكبر المشاكل التي تهدد سلامة المياه، ومن ثم المواطن نفسه". وأوضح أن من بين مدن العاصمة الثلاث الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان، ستكون الأخيرة هي الأكثر خطورة من حيث السكن فيها مستقبلاً، نتيجة تمدد المياه السطحية في كثير من أحياء المدينة القديمة وانتشارها في أحياء أخرى بذات المدينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد المتخصص في مجال البيئة على أهمية إجراء دراسات لتقييم الأثر البيئي قبل الشروع في تنفيذ أي مشروعات مستقبلية، وبخاصة في مجالات التخطيط العمراني والسكني واستخدامات الأراضي بصورة عامة، من أجل الوصول إلى مفهوم المدن المستدامة، وتفادياً لتكرار مثل تلك الأخطاء وتراكمها، منتقداً الاستمرار في تخصيص الأراضي الزراعية للأغراض السكنية بكل ما تتسبب فيه من تعقيدات، مثل التي تواجهها العاصمة الخرطوم حالياً ومستقبلاً. ولفت إلى أن الضغط على الموارد والخدمات والرقعة الزراعية والبيئة بما يفوق طاقتها، أنتج مشكلات تلوث المياه مع وجود مشاكل أخرى، مثل البناء على مجاري التصريف الطبيعي لمياه الأمطار، ما يعرض العاصمة لمخاطر الغرق بالسيول والفيضانات.
سلامة مياه الشرب
في سياق متصل، دافع والي الخرطوم المكلف أحمد عثمان حمزة، عن سلامة مياه الشرب بالولاية، مؤكداً خلوها من الملوثات وخضوع كل المياه المنتجة من المصادر النيلية والجوفية للفحص المعملي الدقيق داخل وخارج معامل هيئة المياه لضمان سلامة المياه وصحة المواطن، معلناً اعتماد حكومته 12 مشروعاً لحصاد مياه الأمطار في موازنة هذا العام ضمن خطة طويلة الأجل لتوفير مياه الشرب في المناطق الطرفية والريفية ولأغراض الزراعة والرعي. ودعا الوالي، خلال ورشة متخصصة حول المياه الجوفية والوديان نظمتها وزارة الري بالتعاون مع المكتب الإقليمي للمياه الجوفية والوديان بولاية الخرطوم، إلى التوصل لتوصيات للمحافظة على المياه الجوفية من خلال تطبيق القوانين وإيجاد الحلول العلمية لزيادة المخزون الاستراتيجي من المياه، إضافة لوضع حد لظاهرة حفر آبار السايفون من دون الالتزام بالاشتراطات المطلوبة.
وقال وزير الري والموارد المائية ضو البيت عبد الرحمن، إن هناك تنسيقاً بين الوزارة والولايات بهدف الحفاظ على المياه الجوفية وزيادة مخزونها وترشيد استخدامها لحفظ حق الأجيال المقبلة. وأكد استعداد وزارته للتعاون للتنسيق والتام في هذا المجال.
مخاوف الاستنزاف
وتقدر مساحة ولاية الخرطوم بنحو 22 ألف كيلو متر مربع، وشهدت في السنوات الأخيرة نمواً كبيراً في الكثافة السكانية نتيجة الهجرة المستمرة إليها من الأرياف بمعدل يقدر، وفق إحصاءات رسمية، بنحو أكثر من 80 أسرة في اليوم الواحد، حتى أصبحت تكاد تضم رُبع إجمالي سكان البلاد (نحو 43 مليون نسمة)، ويتوزع سكان الخرطوم (أكثر من 11 مليون نسمة)، على محليات ولاية الخرطوم السبع، ووصل معظمهم إليها من الولايات أخرى، سعياً وراء الخدمات والرزق.