تقع في مدينة أم درمان، أعرق الأسواق الشعبية في السودان. "سوق أم درمان" التي تأخذ مساحة واسعة من المدينة، جنوباً من مكاتب البريد التي تم تأسيسها في منتصف القرن الماضي ومنحت السوق أهميةً أكبر. ويلاصق السوق، حي المسالمة من الناحية الجنوبية أيضاً، وهو أحد أكثر الأحياء قِدماً في أم درمان، ومن الشرق يجاورها شارع الشنقيطي الذي يربط السوق بحي الثورة المعروف، والذي سُمي على اسم ثورة المهدية في نهاية القرن الماضي.
وتشكّل السوق العتيقة حالةً فريدة، بسبب تداخل الأديان والحضارات فيها وانتشار الحِرَف على اختلافها، حيث يمتد تاريخها لقرنين من الزمن، وتعبّر عن سكان مدينة أم درمان التي كانت عاصمة السودان القومية قديماً، قبل أن تصبح الخرطوم عاصمة البلاد.
وجعل التنوع الديني من سوق أم درمان، إحدى أغنى الأسواق في البلاد، إذ يعيش في الأحياء المجاورة لها أشخاص من مختلف الديانات مثل اليهودية والمسيحية والإسلامية وحتى البوذية. وسمح التداخل الثقافي والديني والتعايش السلمي، بأن تكون سوق أم درمان إحدى أكثر الوجهات السياحية تميّزاً على رغم تغيّر ملامحها. ويقصدها الأجانب من أوروبا والولايات المتحدة سنوياً بأعداد كبيرة، بحثاً عن القطع الأثرية والتراثية.
شارع السيطان
ومن أشهر الشوارع التي تميّز سوق أم درمان، شارع "السيطان"، حيث تُباع القطع القديمة والحديثة، التي تعبّر عن تراث القبائل السودانية، خصوصاً قبيلة الجعليين الذين يقتنون "سوط العنج" وهو عبارة عن رقائق من جلد الحيوانات تُستخدم في الأعراس، حيث يتم جلد العريس بالسوط في وسط الحي حتى يسيل الدم منه، من دون أن يصدر أي إيحاء بالشعور بالألم، في تعبير عن الشجاعة والثبات.
وعلى الرغم من خروج أصوات كثيرة تنادي بضرورة وقف عادة الجلد بالسياط في الأعراس لأنها أسهمت في نقل أمراض كثيرة من بينها "الإيدز"، إلا أن الأُسَر، حتى المتعلمة منها، ما زالت متمسكة بالعادات والتقاليد.
هاشم النويري، صاحب دكان تصنيع السياط في سوق أم درمان، قال لـ"اندبندنت عربية"، إن "حرفتنا الأساسية كانت جلاّدين، كُنا نُجلّد السيوف والسكاكين، منذ زمن المهدية، في نهاية القرن الماضي، في عام 1890، ومع مرور الزمن توارثنا المهنة وطوّرناها. وكانت سوق أم درمان بسيطة وكانت الدكاكين محدودة ومنظمة، كل شخص متخصص في حرفة معينة لا يغيّرها". وأضاف النويري "مع التغيرات الاقتصادية، تغيرت الأسعار، إلا أن التطور لم يجعل الناس يبتعدون عن تراثهم، بل حتى أن الجيل الجديد عالِم بتراثه ويأتي إلى السوق ليشتري القطع القديمة".
وعن المحافظة على المهنة، قال النويري "أحفادنا يأتون في أوقات فراغهم ليتعلموا الحرفة ونعمل على تطويرها وتوريثها لهم. أما الأجانب فيأتون لشراء الأشياء الغريبة عنهم، لكنهم في الفترة الأخيرة أصبحوا لا يهتمون بها، إلا أن الأسر السودانية حريصة على اقتنائها كنوع من العادات والتقاليد، ويدفعون أي مبلغ لاقتنائها".
وكانت مدينة أم درمان محدودة وتضم أحياءً مشهورة تحيط بالسوق، كحيّ المسالمة والعرب والبوستة وود نوباوي وأب روف وحي العمدة، ولكن مع التوسع الاقتصادي زادت رقعة السوق وامتدت.
شارع الأناتيك
كذلك يُعدّ "شارع الأناتيك" أحد أقدم شوارع سوق أم درمان، وتنشط فيه حركة بيع الأحذية والحقائب المصنوعة من جلود الحيوانات، والقطع الأثرية المصنّعة من سن الفيل، قبل منعها من قِبل السلطات ووحدة المحافظة على الحياة البرية.
خالد الجيلي، صاحب محل في شارع الأناتيك، قال إن "الأميركيين والإنجليز يقصدون الشارع دائماً، لأننا نصنّع قطعاً أثرية من خشب الأبنوس الذي نستورد بعضه من كينيا، ولدينا لوحات قديمة تعود لأكثر من 60 عاماً لا نبيعها بل نعرضها فقط، ودائماً ما يعرض الأجانب مبالغ ضخمة لشرائها لكننا نرفض ذلك، لأن قيمتها المعنوية أكبر من المادية".
ومنعت السلطات تداول واقتناء سن الفيل وجلود التماسيح للحفاظ على الحياة البرية. واعتبر الجيلي إن "قرار المنع موفَق ورحبنا به للحفاظ على الحياة البرية، لأن قتل الحيوانات من أجل الحصول على سنها أو جلدها فقط أمر مؤسف، ومن الأفضل تركها وشأنها للحفاظ على النظام البيئي". وأضاف "حالياً نصنع التحف بخشب الأبنوس فقط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معالم عدة
"سوق الموية"، مبنى البريد والبرق، "شارع الصياغ"، ومحلات الألبسة ذات الأسعار التنافسية، كلها معالم ميّزت سوق أم درمان عن غيرها، على الرغم من انتشار المحلات التجارية الضخمة والأسواق الراقية، إلا أن تلك السوق القديمة ما زالت تحتفظ بخصوصيتها، ويتوافد الناس من مختلف المناطق إليها لشراء ما يرغبون به من محلات محددة. إذ يشتهر الذهب الذي يُباع هناك بالجودة والحداثة. ويقول خليل أحمد، أحد العاملين بدكاكين الذهب، إن "الناس يقصدون سوق الذهب هنا، آتين من أماكن بعيدة، لأننا نبيع بأسعار تنافسية ولدينا ذهب أصلي وصافٍ وليس هناك غش كما يحدث في محلات أخرى. الأزمة الاقتصادية أثرت كثيراً في حركة البيع، ولكن ما زالت هناك ثقافة حفظ المال بشراء الذهب، ومعظم الذين يقصدون المحلات أخيراً يشترونه بدافع حفظ أموالهم بسبب انهيار الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى، وسوق أم درمان أكثر الأماكن ضماناً لشراء الذهب".
بائعات الأكل والشاي
من جهة أخرى، ومنذ زمن طويل، قصدت سيدات سوق أم درمان للعمل كبائعات للمأكولات البلدية والشاي والقوة، وذلك لوجود أعداد كبيرة من الناس الذين يقصدونهم لتناول الطعام والمشروبات الساخنة وخصوصاً أصحاب المحلات.
أمبوبة، سيدة أربعينية قصدت سوق أم درمان منذ 15 سنة، بعدما شهدت منطقتها كادوقلي، الواقعة في غرب السودان، صراعات وحروباً، وعملت كبائعة شاي وقهوة، يعرفها الجميع ويرحبون بها ويبادلونها الاحترام. وقالت إن السوق لم تتغيّر "ما زالت محتفظة بملامحها، وتعامل الناس جيد جداً وأعرف أغلبهم، وقمت بتربية أبنائي كلهم من بيع الشاي، وأحظى باحترام كبير من أصحاب المحلات".
البريد والبرق
في عام 1889، صدر أول طابع بريدي في السودان، وكان يحمل صورة جمل. أما مكاتب البريد فتقع في سوق أم درمان، ما أعطى السوق طابع الفخامة والأهمية، الذي أثّر في حركة البيع والشراء فيها وجعلها أحد المعالم المعروفة. وسُميت المنطقة المحيطة بالبريد بـ "البوستة".
معتصم عمر الخضر، أحد موظفي البريد، منذ أكثر من 20 سنة، يحكي عن تأسيس تلك الخدمة التي تعود إلى عام 1821 إبان العهد التركي. وقال الخضر إن "البريد كان من أهم المصالح الحكومية في السودان، وكان موظف البريد يجد احتراماً كبيراً بين الناس. فمن خلال مكاتب البريد المنتشرة في القرى كان يعرف الناس أخبار الخرطوم". وأضاف "يُعتبَر مبنى البريد من معالم أم درمان، وسُمي حي البوستة تيمناً به، وأصبح مثل الماركة المسجلة وأحد أبرز المواقع في المدينة".