في مفارقة مدهشة وبالتزامن مع قرار حكومة حركة طالبان في أفغانستان بإغلاق مدارس الفتيات، نشرت وكالة "أ.ب" قصة من منطقة ميس أيناك، تصور مسلحين من الحركة يحرسون تماثيل لبوذا وآثاراً من مستعمرة بوذية أثرية، وقارنت بين ذلك المنظر وما فعلته "طالبان" عام 2001 وأذهلت به العالم أجمع، حين استولت على السلطة بعد طرد السوفيات بمساعدة أميركية عندما هدمت تماثيل تاريخية لبوذا في منطقة باميان باعتبارها أصناماً "يعبدها الكفرة".
وكانت تماثيل بوذا النادرة التي دمرتها "طالبان" قبل نحو عقدين، منحوتة من الصخر وفي حضن جبل، أما هذه التماثيل الحالية فمصنوعة من الطين وموجودة في كهوف خلّفها الأثريون الذين عملوا قبل سنوات طويلة على اكتشاف آثار مستعمرة بوذية قديمة في المنطقة تعود إلى القرن الأول للميلاد، ويعتقد أنها كانت محطة على طريق الحرير القديم بناها الكهنة البوذيون القدماء.
وليس الحفاظ على آثار المنطقة هو السبب الوحيد لحراسة "طالبان" تلك التماثيل، ففي باطن الأرض بوادي ميس أيناك يوجد أكبر تجمع لترسبات النحاس، وتسعى حكومة كابول إلى عودة الشركات الصينية إلى المنطقة للتعدين واستخراج النحاس بما يدر ملايين الدولارات، في أمس الحاجة إليها.
رئيس قوات الأمن التي تحرس وادي منجم النحاس حكم الله مبارز يقول عن حراسة تماثيل بوذا وآثار المنطقة "إن حمايتها مهمة جداً لنا وللصينيين".
المفارقة أن حكم الله مبارز كان من قبل يقود مجموعة مقاتلة تابعة لحركة طالبان تقاتل ضد القوات الأفغانية المدعومة بالقوات الأميركية في منطقة جبلية تطل على الوادي الذي به منجم النحاس غير المستغل، وحين استسلم مقاتلو الجيش العام الماضي سارع مبارز ورجاله إلى تأمين الموقع، وكما يقول "كنا نعرف أنه مكان مهم لبلدنا".
تطلع للمليارات الصينية
هذا التغير في سلوك "طالبان" يعكس رغبتها في كسر الحظر الدولي عليها، بخاصة مع تجميد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أصول الحكومة الأفغانية ووقف كثير من الدول للمساعدات والمعونات، وتتطلع حكومة كابول لجذب استثمارات خارجية بالمليارات، بخاصة لقطاع التعدين الذي يعد في حال بكر تماماً.
وتقدر الثروات المعدنية في باطن الأرض بأفغانستان بما تصل قيمته إلى تريليون دولار، ولم تفلح أي من السلطات السابقة في استغلالها بسبب الحرب المستمرة لعقود، وتسعى الآن دول مثل إيران وروسيا وتركيا إلى ملء الفراغ الذي خلفه الأميركيون في البلد، لكن العين تتركز على الصين التي تحتاج إلى المواد الخام لتغذية اقتصادها التصنيعي.
والأرض الأفغانية غنية بالمعادن، فغير النحاس هناك احتياطات غير مستكشفة من خام الحديد والأحجار الكريمة، فضلاً عن معدن الليثيوم النادر وتبدي الصين اهتماماً كبيراً بأفغانستان منذ انسحاب القوات الأميركية وقوات حلف الـ "ناتو" منها العام الماضي، وسيطرة حركة طالبان على الحكم بعد فرار الحكومة المدعومة أميركياً برئاسة حامد كرزاي.
وتشير الدراسات الأولية التي أجريت مطلع القرن إلى أن وادي ميس أنياك يرقد على نحو 12 مليون طن من النحاس في باطن الأرض، وفي العام 2008 توصلت حكومة كرزاي إلى اتفاق مع شركة صينية لاستغلال المنجم بعقد لمدة 30 عاماً، لكن الاتفاق لم ينجز بسبب المشكلات العملية والمخاوف الأمنية، ورحل الصينيون نهائياً العام 2014.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاتفاق مع الشركات الصينية
وتسعى حكومة طالبان الآن إلى إعادة الاتفاق مع الشركة الصينية، لكن الصينيين يريدون تغيير الشروط لمصلحتهم، ومع ذلك لا يبدو أن "طالبان" في وضع من يتمسك بموقفه، فهم يتطلعون إلى مليارات من الاستثمارات الصينية قد يكون منجم النحاس هذا بدايتها.
وطلب القائم بأعمال وزير البترول والتعدين في حكومة "طالبان" شهاب الدين ديلاوار من مسؤولي وزارته إعادة الاتصال بالصينيين منذ أشهر. وبالفعل، عقد مدير العلاقات الخارجية في الوزارة زياد رشيدي اجتماعين عبر الفيديو مع الصينيين، ومن المتوقع وصول لجنة فنية من الشركة الصينية إلى أفغانستان خلال الأسابيع المقبلة.
ويرغب الصينيون في تعديل الاتفاق السابق بخفض الضرائب على المشروع، وأيضاً خفض نسبة العائد للحكومة الأفغانية من كل طن نحاس يستخرج ويباع بمقدار النصف، وكانت النسبة في الاتفاق القديم الذي لم ينفذ عند 19.5 في المئة.
ويرى الصينيون أنه يمكنهم تحقيق ذلك، إذ لا يوجد منافسون حقيقيون لهم الآن في ظل العزلة الدولية التي تعانيها حكومة طالبان في كابول، على الرغم من وجود رجال أعمال من إيران وروسيا وتركيا يرغبون في الاستثمار في قطاعات أفغانية غير مستغلة.
وحتى إذا تم تعديل الاتفاق فيمكن لمنجم نحاس وادي ميس أيناك أن يوفر للحكومة الأفغانية عائداً سنوياً بما بين 250 و300 مليون دولار، إضافة إلى نحو 800 مليون دولار من الرسوم الحكومية التي تحصلها في مدة التعاقد، ويعد ذلك مبلغاً كبيراً لحكومة تعاني فقر الموارد المالية، وتسعى أيضاً حكومة "طالبان" إلى إعادة إحياء عقد نفط مع شركة صينية في منطقة أمو دايرا قرب الحدود الأفغانية مع تركمانستان، وكان العقد أنهي العام 2018.