بعد تردد طال لأكثر مما ينبغي، وافقت موسكو على اقتراح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استضافة مباحثات السلام بين الوفدين الروسي والأوكراني. لقيت الدعوة استجابة من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال المكالمة الهاتفية التي جرت بينه وبين أردوغان في نهاية الأسبوع الماضي. وهو ما قد يحمل كثيراً من الدلالات، وما قد يفضي إلى ما هو أبعد من مفاوضات الوفدين. ومن ذلك، الآمال التي يعقدها مسؤولون أتراك في أن تستضيف بلادهم اللقاء الأول للرئيسين الروسي والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وما قد يمهد الطريق لما هو أبعد، صوب لقاءات أكثر أهمية وأثقل وزناً ربما تجمع الرئيس بوتين بأي من رموز حلف "الناتو" أو الاتحاد الأوروبي، من دون أن يستثني المراقبون "قمة روسية - أميركية" تجمع الرئيسين بوتين وجو بايدن، على الرغم من حرص الجانب الروسي على عدم تأكيد مثل هذه "النيات".
وكانت إسطنبول، وسط إجراءات أمنية مشددة، أعلنت عن بداية المباحثات الروسية - الأوكرانية بلقاء جمع الوفدين مع الرئيس أردوغان، الذي استهل حديثه إليهما بالإعراب عن أمله أن "يعود لقاء إسطنبول بفائدة إلى العملية التفاوضية بين روسيا وأوكرانيا"، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى ما هو أبعد، نحو "اللقاء المأمول" بين بوتين وزيلينسكي، على الرغم من مسارعة دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين إلى استبعاد حدوثه. وذلك ما عادت فالنتينا ماتفيينكو، رئيسة مجلس الاتحاد، وأكدته بقولها "لا توجد في الوقت الحالي أجندة لأي محادثات بين الرئيسين الروسي والأوكراني". وأضافت ماتفيينكو في تصريحات صحافية أن روسيا "تتطلع بكل الأمل إلى المرحلة الجديدة من المفاوضات، وإلى أن تسفر عن اتفاقات، وبعد ذلك سيكون ممكناً الحديث عن احتمال عقد لقاء بين الرئيسين بوتين وزيلينسكي". وأشارت إلى أنه لا "يوجد في الوقت الحالي أي أساس لذلك"، مضيفة أنها "لا تتفهم موقف الرئيس الأوكراني". وعلى الرغم من ذلك عادت لتشير في حديث لها مع التلفزيون الصيني إلى أن "الاجتماع سيكون ممكناً، عندما يتفق الجانبان الأوكراني والروسي على جدول الأعمال، ويتم بشكل ما صوغ الوثيقة النهائية التي ينبغي أن يتم إقرارها. أما بخلاف ذلك، فسيتم نشر الأمل في أن الرئيسين سيجتمعان الآن ويتحدثان ولن تكون هناك نتيجة، فما هو الداعي إذاً لعقد مثل هذه اللقاءات؟". وخلصت ماتفيينكو إلى القول إن "روسيا مستعدة لهذا الشكل من اللقاء الموضوعي، لكن بشرط وجود الوثائق النهائية له".
آمال أردوغان ومفاوضات إسطنبول
ونقلت مصادر تركية رسمية ما تعهد به أردوغان بشأن تقديم كل أشكال الرعاية التي أوصي بها إلى وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو. وقال إنه يسافر إلى أوزبكستان، لكنه سيتركه في إسطنبول لتسهيل عمل فريقي المفاوضين الروس والأوكرانيين وتقديم الدعم إذا ما لزم الأمر. وقال "لقد حان الوقت لأن تأتي المفاوضات الروسية الأوكرانية بنتيجة... نؤمن بعدم خسارة أي طرف في معادلة السلام العادل. أما إطالة أمد الحرب فليست لمصلحة أحد". وأضاف "يجب على الطرفين وقف هذه المأساة. الجميع مهتمون بوقف إطلاق النار في أسرع وقت ممكن". ونقلت المصادر الرسمية التركية عن أردوغان قوله إنه "شدد على ضرورة إقامة هدنة وسلام بين روسيا وأوكرانيا في أسرع وقت ممكن، وتحسين الوضع الإنساني في المنطقة". وأضاف أن "تركيا ستواصل المساهمة في هذه العملية".
وعلى نحو يعكس مشاعر الشرقيين ومفردات حديثهم، أشار أردوغان إلى أن "الوضع في أوكرانيا يحزن تركيا بشدة، كونها جارة وصديقة لكل من روسيا وأوكرانيا"، مؤكداً ما سبق وأشرنا إليه عن استعداد تركيا لاستضافة لقاء الرئيسين بوتين وزيلينسكي. وقال مخاطباً الوفدين، "التقدم الذي ستحرزونه في المفاوضات سيسمح بالانتقال إلى المرحلة التالية، وهي الاتصال على مستوى القيادة. ونحن مستعدون لعقد مثل هذا الاجتماع".
من جانبه، حرص فلاديمير ميدينسكي رئيس الوفد الروسي في مباحثات إسطنبول على أن يستهل نشاطه في قصر "دولما بهجة" ببيان يؤكد فيه أن "أوكرانيا وعدت باتخاذ أشد الإجراءات ضد المجرمين الذين قاموا بتعذيب الجنود الروس"، مشيراً إلى ما توجهت به روسيا من احتجاجات لدى الجانب الأوكراني ضد إساءة معاملة الجنود الروس. أما عن جدول أعمال هذه المباحثات فيظل في الإطار الذي كان الجانبان حددا معالمه ونقاطه الرئيسة منذ اجتماعاتهما في بيلاروس، وأعقباها باجتماعات محدودة عبر تقنية الفيديو. وأشارت المصادر الروسية إلى أن وقف إطلاق النار والاتفاق بشأن الممرات الآمنة لخروج المدنيين في صدارة جدول الأعمال.
وبهذا الصدد، كان الرئيس أردوغان كشف عن معلومات تفيد بأنه "تم الاتفاق على أربع من أصل ست قضايا رئيسة بين أوكرانيا وروسيا"، ومنها ما جرى إعلانه على وجه خاص بشأن "التخلي عن عضوية الناتو والاعتراف بالروسية كلغة رسمية ثانية للدولة". ولم يكشف أي من ممثلي الجانبين عن موقف أوكرانيا من الهدفين اللذين أشار إليهما الرئيس بوتين في خطابه الذي استبق به "العملية العسكرية" في أوكرانيا. وهما "نزع سلاح أوكرانيا" و"تصفية النازية"، في إشارة إلى التشكيلات القومية المتطرفة في غرب أوكرانيا التي كانت استولت على كثير من مقاليد السلطة الفعلية في أوكرانيا منذ اندلاع حركة الشارع الأوكراني، وما أسفرت عنه من إطاحة الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) 2014.
لقاء بوتين وزيلينسكي
وكشف ميدينسكي عن أن موسكو خطت خطوتين باتجاه التقارب مع أوكرانيا، مشيراً إلى أنهما تخصان الشقين السياسي والعسكري.
جاء ذلك في تصريحات أدلى بها ميدينسكي للصحافيين في ختام جولة الثلاثاء من المفاوضات التي عقدت في إسطنبول.
وفي ما يتعلق بالشق السياسي، أكد ميدينسكي إمكانية عقد لقاء بين الرئيسين الروسي والأوكراني ليس بعد التوصل إلى اتفاق بين البلدين بكل تفاصيله، لكن بالتزامن مع توقيع وزيري خارجية البلدين عليه بالأحرف الأولى.
أما في الشق العسكري، فتحدث عنه العضو الآخر في الوفد الروسي، ألكسندر فومين نائب وزير الدفاع الروسي، الذي أعلن عن قرار وزارته خفض النشاط العسكري "بشكل جذري" على محوري كييف وتشيرنيهوف (شمال أوكرانيا) بهدف تعزيز الثقة المتبادلة وتهيئة الظروف المناسبة لمواصلة التفاوض والتوصل إلى الاتفاق المنشود.
وكشف ميدينسكي عن الحصول على حزمة من المقترحات الخطية من الوفد الأوكراني خلال المفاوضات تتضمن ما يلي:
إعلان أوكرانيا دولة حيادية وغير نووية وقائمة خارج أي تحالفات على أساس دائم بموجب الضمانات القانونية الدولية، ويتم تقديم قائمة بالدول الضامنة.
لا تنطبق الضمانات الأمنية على أراضي شبه جزيرة القرم ودونباس، أي إن أوكرانيا تتخلى عن محاولة استعادتها بالوسائل العسكرية. وهنا، أشار ميدينسكي إلى أن هذا الطرح يعكس موقف كييف ولا يتوافق مع موقف موسكو، علماً بأنها لا تعتبر القرم ودونباس جزءاً من الأراضي الأوكرانية أصلاً.
أوكرانيا ترفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية، ونشر قواعد ووحدات عسكرية أجنبية واستضافة تدريبات عسكرية من دون موافقة الدول الضامنة، بما في ذلك روسيا.
روسيا لا تعارض انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي.
أوكرانيا تطلب صياغة القرار نهائياً في اجتماع بين رئيسي البلدين.
ووصف ميدينسكي مقترحات أوكرانيا بأنها "خطوة بناءة نحو حل وسط"، مضيفاً أن روسيا ستدرسها.
وإلى حين الإعلان عن نتائج الجولة الحالية للمباحثات، تظل الأنظار متجهة إلى التطورات في الداخل الأوكراني، إلى جانب متابعة تحركات الرئيس التركي وما يرومه من أهداف على صعيد الجوار القريب في محيط آسيا الوسطى، وما بقي من الفضاء السوفياتي السابق. وفيما أعلن أردوغان عن رحلته إلى أوزبكستان، إحدى أهم بلدان آسيا الوسطى، عكف المراقبون في الداخل على دراسة أبعاد تحركات الرئيس التركي وما يرصدونه حول تعزيز دروه على وقع استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا. وذلك ما أوضحه إيغور سوبوتين، في مقال في صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" (مستقلة)، وتناول فيه ما يقال عن تصاعد شعبية أردوغان في زمن الحروب. وفيما استعرض سوبوتين ما نشرته "Optimar" من نتائج قياس الرأي العام في صحيفة "حرييت" التركية اليومية، كان السؤال عن الشخصية المراد استطلاع الرأي بشأنها كرئيس للبلاد "في حال نشوب حرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جدوى الحوار مع بوتين
وعلى صعيد الأزمة الراهنة واستمرار العمليات القتالية في أوكرانيا، كانت لافتة عودة الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش إلى الظهور في توقيت مواكب لبدء الجولة الأخيرة من مباحثات السلام بين الوفدين الروسي والأوكراني. وذلك ما توقف عنده مراقبون في مستهل مباحثات الجولة الأولى بين الوفدين في بيلاروس. وكان من المثير للدهشة ما نقلته وكالة أنباء "ريا نوفوستي" عن استقبال الرئيس أردوغان أبراموفيتش قبيل انطلاق المفاوضات الروسية - الأوكرانية. وأضافت المصادر التركية أن "هذا اللقاء الذي جرى في قصر دولما بهجة حيث تجري حالياً الجولة الجديدة من المفاوضات الروسية الأوكرانية، حضره وزير الخارجية التركي ونظيراه الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميتري كوليبا. وبدا ما يشبه الإجماع بين الأوساط السياسية المحلية والروسية والأوكرانية، أن اللقاء لم يسفر عن نتائج.
وفي الوقت الذي بدأت فيه مباحثات الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول، كشفت مصادر الكرملين عن اتصال يجري التحضير له بين الرئيسين الروسي بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد أكد هذه الأخبار بيسكوف، تعليقاً على ما كشفته وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان، إذ قالت إن الرئيس الفرنسي أجرى "سلسلة من المحادثات المطولة مع الرئيس الروسي"، وإنه هذه المرة يريد أن يناقش مع بوتين تفاصيل العملية الإنسانية المزمع إجراؤها لإجلاء المدنيين من مدينة ماريوبول المحاصرة.
وذلك ما يبدو مناقضاً لتوجهات كشفت عنها وكالة "بلومبيرغ"، التي نشرت أن "دول الناتو تناقش إذا ما كان يجب الدخول في حوار مع بوتين لحل الوضع في أوكرانيا أم لا". وأشارت الوكالة إلى أنها تستند إلى مصادر مطلعة على المناقشات "على جانبي الأطلسي"، وكذلك على الوثائق بهذا الخصوص. وأضافت أنه "وفقاً للمعطيات المتوفرة، فإن لدى دول الناتو وجهات نظر مختلفة بشأن الأسلحة التي يجب إرسالها إلى أوكرانيا، وإذا ما كان من المفيد التفاوض مع بوتين". وقالت إن "أعضاء آخرين في الناتو يعتقدون أن حوار باريس وبرلين مع موسكو يأتي بنتائج عكسية"، وكما تقول إحدى الوثائق، "يصب في صالح بوتين". وهنا الحديث يدور عن بريطانيا وبولندا وعدد من الدول في شرق أوروبا ووسطها، باستثناء المجر، وهي الدول التي قالت الوكالة الأميركية إنها "تشكك في ضرورة ونجاعة المحادثات، وتعتقد أن الرئيس الروسي لا يفكر بجدية في مسألة إبرام اتفاق سلام". وذلك ما يقولون في موسكو إنه "يقف على طرفي نقيض من الواقع والحقيقة".