أعلنت مصر توجيه "حزم المساعدات والدعم اللوجستي والإنساني للسودان"، في ختام زيارة مفاجئة أجراها عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، إلى القاهرة استكمالاً لزياراته الكثيرة التي شملت عواصم عربية وأفريقية عدة خلال الأيام الماضية، فضلاً عن إرسال مبعوثين إلى بلدان أفريقية عدة، آخرها رواندا، التي زارها عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر، بالتزامن مع توجّه البرهان إلى القاهرة، للقاء نظيره المصري عبد الفتاح السيسي.
وكان السيسي استقبل الرئيس الرواندي بول كاغامي، الأسبوع الماضي، ما اعتبره مراقبون حشداً للدعم الإقليمي للمبادرة التي تقودها بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان، سعياً لتحقيق التوافق بين المكونين المدني والعسكري، شريكي المرحلة الانتقالية اللذين تحوّلا إلى فرقاء منذ استقالة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قبل ثلاثة أشهر، دخلت خلالها البلاد في حال من الانسداد السياسي والعنف والاحتجاجات المتواصلة.
وجاءت زيارة البرهان في ظل اقتراب موعد موسم الفيضان وعزم إثيوبيا على استكمال تخزين مياه نهر النيل بعد أن بدأت الشهر الماضي توليد الكهرباء من المشروع الضخم الذي تبنيه على "النيل الأزرق"، وذلك في ظل توقف المفاوضات بين البلدان الثلاثة، ووجود مساعٍ لاستئنافها قبل موعد الملء الثالث، إذ أكدت مباحثات السيسي - البرهان التوافق بين البلدين في قضية المياه، باعتبارها "مسألة أمن قومي" للشعبين المصري والسوداني.
اقتراب الملء الثالث
وزار البرهان القاهرة وسط حالة من القلق والترقب مع اقتراب موسم فيضان نهر النيل، وشروع إثيوبيا في توليد الكهرباء من سد النهضة، ما نددت به مصر والسودان، بخاصة مع إعلان أديس أبابا عزمها على مواصلة المرحلة الثالثة من عملية ملء خزان السد في ظل توقف المفاوضات بين البلدان الثلاثة وعدم الوصول إلى اتفاق حول ملء السد وتشغيله.
وذكر البيان المشترك الصادر في ختام المحادثات بين الرئيسين أن "الجانبين تباحثا حول تطورات ملف سد النهضة، بحيث تم التوافق على استمرار التشاور المكثف والتنسيق المتبادل في هذا السياق خلال الفترة المقبلة، مع التأكيد على الأهمية القصوى لقضية المياه بالنسبة إلى الشعبين المصري والسوداني، باعتبارها مسألة أمن قومي، ومن ثم تمسّك البلدين بالتوصل إلى اتفاق قانوني عادل ومنصف وملزم لعملية ملء وتشغيل السد، بما يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف".
الباحث السياسي المصري عبد اللطيف فاروق، قال إنه "في ظل استمرار حالة الجمود التي تنتاب أزمة سد النهضة الإثيوبي، واستمرار سياسة فرض الأمر الواقع التي تنتهجها أديس أبابا، يبقى أمام صانعي القرار في مصر والسودان الانخراط مجدداً في مفاوضات جادة مع الجانب الإثيوبي في ضوء إعلان وزيري خارجية مصر والسودان أخيراً رغبة بلديهما باستئناف جولات التفاوض مع إثيوبيا، بخاصة في ظل الرئاسة السنغالية الجديدة للاتحاد الأفريقي وأهمية السنغال كقوة إقليمية محورية، لكن الأمر يصطدم بتاريخ طويل ومستمر من التعنت والمماطلة من جانب إثيوبيا، وسياسة فرض الأمر الواقع من جانب آخر، عبر اتخاذ هذه الأخيرة مزيداً من الإجراءات الأحادية من دون التفات إلى الشواغل المصرية والسودانية، لذا يجب وضع جدول زمني مُسبق قبل استئناف عملية المفاوضات، حتى لا تكون المفاوضات من دون نهاية، وذلك بالتوازي مع استمرار ممارسة الضغوط الدبلوماسية المصرية على إثيوبيا، وحشد دعم إقليمي وعالمي للموقف المصري، بخاصة في ظل حال من السيولة السياسية في التحالفات العالمية مع اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية".
وبينما وصف السودان بدء تشغيل توربينات توليد الكهرباء في سد النهضة، الشهر الماضي، بأنه "خرق جوهري" لالتزامات إثيوبيا القانونية، تكرر حديث مسؤولين إثيوبيين ووسائل إعلام إثيوبية ناطقة بالعربية خلال الأسابيع الأخيرة عن فوائد السد بالنسبة إلى السودان، بالإشارة إلى فرص "تقليل مخاطر الفيضان والجفاف، فضلاً عن تصدير الكهرباء الناتجة من المشروع"، ما اعتبره مراقبون محاولة لاستقطاب الموقف السوداني بعيداً من مصر، في ما اتفق الجانبان المصري والسوداني خلال زيارة البرهان، على زيادة سعة الربط الكهربائي بين البلدين وتطوير "التكامل" في مجالات اقتصادية متنوعة.
تنسيق المواقف وسط تقارب متنامٍ
وأعرب الجانب السوداني عن اعتزازه بالتقارب الشعبي والحكومي الراسخ بين القاهرة والخرطوم، مشيداً في هذا الصدد بالجهود المتبادلة للارتقاء بأواصر التعاون المشترك بين البلدين، و"الدعم المصري الصادق والحثيث من خلال مختلف المحافل للحفاظ على سلامة واستقرار السودان"، ومشدداً في هذا الخصوص على "وجود آفاق رحبة لتطوير التعاون المشترك بين البلدين، وحرص السودان على توفير المناخ الداعم لذلك في مختلف المجالات التنموية الاستراتيجية، فضلاً عن تعويله على الاستفادة من نقل التجربة المصرية في الإصلاح الاقتصادي وتدريب الكوادر السودانية والمساعدة في مواجهة التحديات، بما يعكس عمق العلاقات بين البلدين".
كما تم التباحث حول شؤون الجالية السودانية في مصر، وأعرب الجانب السوداني في هذا الإطار عن تقديره للرعاية الكريمة التي تحظى بها الجالية، في حين أكد الجانب المصري "الترحيب الدائم بالأشقاء السودانيين في بلدهم الثاني مصر، وشمولهم بأوجه الرعاية في إطار صلة الدم والرحم الممتدة في أعماق التاريخ بين شعبي وادي النيل"، بحسب البيان المشترك.
بدوره، قال الطاهر أبوهاجة، المستشار الإعلامي لرئيس مجلس السيادة السوداني في تصريح خاص إن قيادتي البلدين تدركان طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين القاهرة والخرطوم، وأهمية التنسيق المستمر بينهما والتعامل مع التحديات الراهنة "بعقل استراتيجي منفتح"، بما يحقق أمن واستقرار البلدين، مؤكداً اتفاقهما "على تعزيز التعاون الاقتصادي وتطوير المشاريع المشتركة وبروتوكولات التدريب والتعاون العسكري وبناء القدرات في الأصعدة والمجالات كافة".
أبوهاجة أشار أيضاً إلى أن "توقيت الزيارة يأتي خلال منعطف تاريخي مفصلي على المستويين الإقليمي والدولي"، وأوضح أن "العلاقات السودانية المصرية صلبة وقوية ومستمرة في نموها وتطورها، وترتكز على رصيد تاريخي ومصير واحد، فالأمن القومي لمصر هو الأمن القومي للسودان، والأمن القومي للسودان هو الأمن القومي لمصر".
تعاون أمني وعسكري
السيسي والبرهان اتفقا على "تعميق التعاون المشترك على الصعيدين الأمني والعسكري، بما يسهم في تحقيق مصالح البلدين والشعبين"، وشدد البيان المشترك على "الارتباط الوثيق للأمن القومي المصري والسوداني". وجاء البرهان إلى مصر برفقة مدير جهاز الاستخبارات العامة السوداني أحمد إبراهيم مفضل، بعد يومين من إعلان نشطاء من جماعة "الإخوان" (مقيمين في تركيا) توقيف السلطات السودانية أحد العناصر "الإخوانية" المطلوبة من القاهرة أثناء إنهاء إجراءات السفر إلى تركيا، بعد الاستقرار في السودان منذ عامين، كما يأتي ذلك بعد شهرين تقريباً من إعلان السلطات المصرية حبس حسام المنوفي، القيادي في حركة "حسم" المدرجة على قائمة الإرهاب الأميركية والبريطانية، عقب توقيفه على متن طائرة قيل إنها "هبطت اضطرارياً في مصر"، بعدما كانت آتية من السودان متجهة إلى تركيا.
في مطلع مارس (آذار) الحالي، توقف محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، قائد قوات الدعم السريع في السودان، في مطار القاهرة، عقب زيارة ممتدة إلى موسكو تزامنت مع بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، وصرّح فور عودته إلى الخرطوم أن بلاده "ليست لديها مشكلة في إقامة قاعدة عسكرية روسية على سواحل السودان بالبحر الأحمر"، وقال إنه بحث خلال اجتماعه في القاهرة مع رئيس الاستخبارات المصرية عباس كامل، "الأوضاع الراهنة في السودان"، وتابع، "ناقشنا القضايا الأمنية وسد النهضة وقناة جونقلي (مشروع مائي متعثر في جنوب السودان)، ووجدنا اهتماماً كبيراً من القاهرة من أجل الوفاق بين الأطراف والحل السوداني- السوداني للأزمة".
وبعد أشهر من إعلان السودان عن التصدي لخلايا "داعشية" في الخرطوم، وإحباط عمليات ارهابية عدة بشكل استباقي، أعلنت السلطات السودانية في يناير (كانون الثاني) الماضي، تشكيل قوة خاصة لمكافحة الإرهاب، وسط تنامي التهديدات بسبب صعود أنشطة تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل ووسط أفريقيا وبحيرة تشاد، بخاصة مع إعلان باريس سحب معظم قواتها التي كانت تحارب المسلحين في مالي ومحيطها خلال الأعوام التسعة الماضية.
بؤرة جاذبة للنشاط الإرهابي
علاوة على ذلك، يحذّر خبراء أمنيون من تحوّل السودان إلى بؤرة جاذبة للنشاط الإرهابي والتطرف في ظل عدم الاستقرار والانسداد السياسي، فضلاً عن تحدي الحدود الرخوة، ما دعا تشاد وليبيا إلى الاتفاق على تأمين الحدود المشتركة للتصدي للجماعات المتطرفة، ودعوة السودان والنيجر إلى تفعيل الاتفاق الرباعي، الذي يقتضي تشكيل قوة مشتركة لتأمين الحدود، خلال زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبي عبد الحميد الدبيبة، إلى نجامينا في يناير الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المحلل السياسي السوداني طلال محمود حسن، قال إن "الانفلات الأمني الناتج من تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد يمثل أبرز التحديات الأمنية التي يمكن أن تتطور في ضوء العنف المرتبط بالاحتجاجات وغيرها"، مؤكداً أن "معظم خلايا التطرف والإرهاب التي ظهرت خلال الفترة الانتقالية تُعدّ غير ناشطة أو نائمة، لكنها تمثل جرس إنذار للتهديدات المتوقعة في البلاد، بخاصة في ظل التهديدات العابرة من حدود البلدان المجاورة التي تشهد صراعات ونشاطاً إرهابياً متنامياً".
الجانبان المصري والسوداني شددا كذلك على ضرورة الحفاظ على استقرار ليبيا ووحدة وسلامة أراضيها، وأكدا دعم الجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي "ليبي - ليبي"، وأن تتفق الأطراف الليبية مع بعضها على الانطلاق نحو المستقبل بما يحقق مصلحة البلاد وشعبها، من دون أي إملاءات أو تدخلات خارجية، كما أكد الجانبان ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة والمقاتلين الأجانب في مدى زمني محدد، تنفيذاً للقرارات الأممية والدولية والإقليمية ذات الصلة، إضافة إلى ضرورة استمرار لجنة "5+5" العسكرية المشتركة في عملها، والتزام الأطراف كافة وقف الأعمال العسكرية حفاظاً على أمن ليبيا واستقرارها ومقدرات شعبها.
انسداد سياسي في السودان
وتُعدّ زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني هي الأولى إلى مصر منذ إزاحة المكون المدني من السلطة الانتقالية برئاسة حمدوك الذي أعلن استقالته في يناير الماضي، في ذكرى استقلال البلاد، بعدما دخل في صدام مع المكون العسكري على إثر الانقلاب الذي نفذته القوات المسلحة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وترتب عليه تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، الذي كان يرعى مفاوضات سد النهضة بين السودان ومصر وإثيوبيا.
الجانب المصري أكد، بحسب البيان المشترك، "إدراك مصر الكامل للظرف الدقيق الذي يمرّ به السودان حالياً، وضرورة العمل المشترك لكي لا تؤثر التطورات الجارية في الساحة الدولية في جهود دعم السودان لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد، مـع استمرار القاهرة فـي إرسـال حزم المساعدات والـدعم اللوجستي والإنساني للسودان، إلى جانب تقديم الدعم الفني للكوادر السودانية وتفعيل برامج التعاون الثنائي كافة، انطلاقاً من مساندة القاهرة غير المحدودة للخرطوم في كل المجالات، وعلى مختلف الأصعدة، وكذا الارتباط الوثيق للأمن القومي المصري والسوداني".
ويعيش حمدوك في الإمارات منذ استقالته، وشهد شهر مارس الحالي جولات خارجية للبرهان إلى أوغندا وثلاثة بلدان عربية، هي الإمارات والسعودية ثم مصر، وهي من أبرز الأعضاء في مجموعة "أصدقاء السودان" الداعمة لعملية الانتقال السياسي في البلاد، وكشف موقع "أفريكا إنتليجنس" الاستخباراتي الفرنسي عن جهود عربية تهدف إلى إيجاد مخرج للأزمة السياسية في السودان و"هندسة عودة حمدوك إلى رئاسة الحكومة"، بحسب تعبير الموقع، الذي كشف، في تقرير حصري، كواليس اجتماع استمر قرابة ثلاث ساعات بين حمدوك والبرهان في أبو ظبي خلال زيارة الأخير في 13 مارس الحالي.
المحلل السياسي السوداني قال إن "تحركات البرهان تأتي في إطار تحقيق المبادرة الأممية للتغلب على الأزمة السياسية في البلاد، إذ أجرى جولاته الخارجية الراهنة من أجل حشد الدعم الإقليمي للمبادرة والجلوس مع القوى السياسية للاتفاق على استكمال الفترة الانتقالية، وصولاً إلى إجراء الانتخابات، العام المقبل"، مؤكداً أن التحرك الخليجي - المصري لدعم عودة حمدوك على رأس حكومة جديدة يُعدّ المخرج الوحيد القائم "لأن التوافق على شخصية بديلة سيعقّد الوضع السوداني، إذ ستمثّل استجابة رئيس الوزراء المستقيل للجهود العربية الراهنة تحقيقاً للحد الأدنى من التوافق، آملاً في استكماله بدعم مالي من السعودية والإمارات من أجل تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي تدهورت بشدة، وكانت سبباً رئيساً في الاحتجاجات، وسط توقعات بإنهاء تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي قريباً".
وأثرت الاحتجاجات السودانية المتواصلة منذ أكتوبر الماضي في حركة التجارة بين البلدين نتيجة قطع طريق "شريان الشمال" مرات عدة خلال الأشهر الماضية، في وقت يتزايد الطلب المصري على اللحوم السودانية، والطلب السوداني على السلع المصرية، بمناسبة موسم رمضان والأعياد. واتفق الجانبان خلال زيارة البرهان على "أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية وزيادة التبادل التجاري بما يرقى إلى مستوى الزخم القائم في العلاقات السياسية والروابط التاريخية التي تجمع الشعبين الشقيقين لوادي النيل، فضلاً عن تعظيم جهود تحقيق التكامل الزراعي والربط السككي والكهربائي بين البلدين".